دمشق: بالرغم من أن المستقبل السياسي والإنساني السوري يبدو ضبابياً، ولا تبدو أي نهاية سعيدة للأزمة التي امتدت عقداً من الزمن، إلا أن ما لا شك فيه أن الواضح الوحيد هو الأثر النفسي الذي تركته تلك الأزمة في داخل كل من عايشها عن قرب أو حتى على بعد أميال، لتنعدم الفروقات الطبقية ويصبح القاسم المشترك بين كل مرتبط بتلك البقعة من الأرض «الدمار النفسي».
سامية تيناوي، اسم مستعار لفتاة سورية، تمتلك مدونة تهتم بمواضيع اجتماعية سورية، وتتخصص بكل ما يتعلق بالحياة اليومية والتحديات المعيشية التي يمر بها المواطن السوري، تحاول من خلال تلك المدونة أن تترك رسالة إيجابية وسط كل المعاناة، كي لا تبث كتاباتها التعاسة والإحباط.
تقول تيناوي: «في كل مرة أكتب موضوعاً عن الواقع المعيشي في سوريا، أشعر أن طاقتي استنزفت، فماذا عساي القول لمن يتابع؟»، سيما وأنها هي نفسها تشعر بحالة مأساوية.
وتتابع سامية: «حين أهمّ لكتابة أي من التحديات التي نمر بها، اضطر للتلاعب بالكلمات كي أبتعد عن (وجع الراس)، كل ما أهتم به هو نقل الواقع وعرض وجهات النظر، بالإضافة لاقتراح حلول- إن وجدت... ولكن ومع مرور الوقت وتراكم المصائب أحسست أن الكلام بات بلا نفع، وليس باليد حيلة».
سامية تعيش في الداخل السوري، حالها كحال كثيرين يتمنون العودة إلى أيام ما قبل الحرب، رغبة في الحياة ليس إلا، فكل ما كان مرعباً قبل بضع سنين وقامت الدنيا لأجله ولم تقعد، بات اليوم «عادة»، والعادات نفسُها تكاثرت وتراكمت حتى بات الحال ضاغطاً لا يُحتمل.
جذر نفسي لكل من الاضطراب والمشاكل والأمراض
تبين الأخصائية بيان معوض أن ما عاناه الشعب السوري حتى اليوم في ظل الأزمة، أدى إلى ازدياد نسبة الاضطرابات النفسية لأكثر من مرة ونصف لكن ما تزال هذه الأرقام في ارتفاع بسبب مخلفات الأزمة ومنها الوضع الاقتصادي المتدني والضغوط المعيشية وغيرها، وتضيف أن الاضطرابات تشمل كل الفئات في المجتمع، والشباب هم الأكثر تعرضاً لها، وتؤدي في نهاية المطاف لمشاكل في السلوك أو الاكتئاب، وحتى الوصول لتمني الموت والانتحار.
وتتابع معوض: «الضغوط النفسية أساس المرض وكما الفيزياء فإن الضغط يولد الانفجار، ولا يمكن إغفال الضغوط التي كانت موجودة قبل الأزمة في سوريا وتزايدت على الأفراد بفعل سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمع، وفي البيئة السورية خصوصاً والعربية عموماً فإن الكبت أيضاً يولد الكثير من المشكلات والأمراض النفسية، ما أدى لتفاقم الحالة واختلاف متغيراتها من شخص لأخر».
وأشارت معوض إلى أن أغلب هذه الضغوطات التي تولد مشاكل وأمراض تصيب الأطفال بسبب ما يعيشه الأهل من أوضاع نفسية ومادية متردية جعلتهم عاجزين عن تلبية حاجات أسرهم، فيصبّون هذه الضغوطات على الأطفال الذين أصبحوا يعيشون في بيئة خصبة للأمراض النفسية.
من جهته يقول سامر المحمد إن الضغط النفسي يصيبه بين حين وآخر، والاعتماد الأساسي في ذلك يكون على ماذا يوجد في جيبه أو حقيبته، فإن كان مكتفياً يعيش الشهر بحالة جيدة، بعيداً عن الغضب سواء على الناس في الشارع أو داخل منزله والعكس صحيح، أي إن الحالة الاقتصادية تعتبر ركيزة أساسية في بناء الضغوطات أو إزالتها.
وتنعكس هذه الحالة على أسرته التي اعتبرها متطلبة كثيرا مثل غيرها من العائلات وتحديدا في ظل الغلاء والمتطلبات التي ازدادت مع انتشار التكنولوجيا وغيرها من الرفاهيات التي يشتهيها الطفل.
يخشى سامر أن يصف نفسه بأن لديه مشكلة نفسية، مبيناً أن ما يتعرض له ما هو إلا واقع مفروض عليه، ويجب عند توصيفها، الذهاب لأسباب المشكلة لا نتيجتها، وعندها يمكن المعالجة، وطالب بإيجاد حلول اقتصادية في البداية قبل إيجاد حلول للمشاكل النفسية عند الناس.
مشكلة نفسية ميدانية!
والد أحد الأطفال «عسكري احتياط» فضل عدم ذكر اسمه، قال إن عليه ضغوطا معيشية كبيرة فهو لا يستطيع تأمين احتياجات أسرته لكونه موجودا في قطعته العسكرية وحتى عندما يأخذ إجازة لا يستطيع أن يحصل على المال الكافي للإعالة.
وكثرة الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية دفعته لتعنيف أطفاله واتباع سلوك الضرب، ولاحَظ أن استخدامه للعنف يرتفع شيئا فشيئا حتى طال زوجته، ما دفع ذويه للتدخل وأخذه إلى أحد المراكز الطبية للحصول على استشارة.
تمكن بعد الاستشارة من الحصول على معالجة كافية امتدت لعدة أشهر وتوازت مع إعانة مالية من الأقارب أيضاً، لكن المفاجأة كانت أن أحد أطفاله المعنفين بدأ يتناول الأدوية المهدئة بسبب تعرضه للقلق الشديد.
* لا توجد معلومات أو إحصائيات واضحة حول المشاكل أو الاضطرابات النفسية معتمدة في سوريا
وتوضح الأخصائية النفسية بيان معوض حول هذه الحالة، أن الأقارب في بعض الأحيان يمكن أن يكون لهم دور كبير في المساعدة وتحديدا عند ازدياد الأزمة سوءا، ولو أن المساعدة لم تأتِ في وقتها المناسب لربما كان أحد الأبناء قد انتهى به المطاف منتحراً إن لم يكن الأب ذاته.
ولما للوضع النفسي من تأثير على الجيل الجديد وعلى الشباب، وتحديدا ممن عاشوا في مناطق النزاع أو تعرضوا لمشاكل اجتماعية واقتصادية، لم تكن هنالك معلومات أو إحصائيات واضحة حول المشاكل أو الاضطرابات النفسية معتمدة في سوريا، ولكن تقدر نسبة المصابين باضطرابات نفسية في مناطق الحروب بـ 20 في المائة، وما بعد الحرب 10 في المائة، مع العلم أن جميع السكان يصابون بآثار نفسية خلال الحرب.
وتشير المعلومات شبه الرسمية ونتيجة دراسات ورسائل ماجستير لطلبة علم الطب النفسي والأطباء النفسيين على عدد من المستشفيات الحكومية السورية في العاصمة دمشق لكونها تحوي عيادات تخصص نفسية، إلى أن نسبة الأشخاص الذين تعرضوا لأزمات ومشاكل واضطرابات نفسية ارتفعت أكثر من 50 في المائة عما كانت عليه خلال الفترة الممتدة من 2011 وحتى 2019.
وفي ظل قلة الكوادر العاملة في الصحة النفسية واستمرار الأزمة بشكل مزمن (صراع- مشاكل اقتصادية) يصبح احتمال التعافي أقل.
ورغم النسبة الكبيرة إلا أنه ومع العلم بهذه الاضطرابات لا توجد عيادات مرخصة للمعالجين النفسيين، ليقتصر الموضوع على الأطباء النفسيين فقط، دون الاستعانة بالمعالجين كون أن لهم دورا أساسيا مهما إلى جانب العلاج الدوائي الذي يوصف من الطبيب حصراً.
وتبين المعالجة النفسية رؤى محمد أن هنالك خلطا بين المعالج والطبيب النفسي، فهنالك أمراض تحتاج لدواء، لكون استخدامه يتعلق بوجود مشاكل في النواقل العصبية والدواء هو لتعديل هذه النواقل، فيما أن هنالك أفكارا وسلوكيات لا تعالج بالدواء بل تحتاج معالجة نفسية عبارة عن خطة علاجية سلوكية أو سلوكية معرفية في آن معاً، أو تحليل نفسي.
* تقدر نسبة المصابين باضطرابات نفسية في مناطق الحروب بـ20 في المائة، وما بعد الحرب 10 في المائة، مع العلم أن جميع السكان يصابون بآثار نفسية خلال الحرب
وتضيف محمد أن للمرشد النفسي في المدارس حالياً ضرورة كبيرة، يجب تفعيل دوره أكثر نتيجة الوضع الراهن وتعيين أخصائيين في الجامعات والمؤسسات الحكومية والمصانع، حتى إن دوره يمكن أن يساعد الأشخاص في المراحل الأولى قبل الوصول للاكتئاب أو مشاكل معقدة أكثر.
الأطفال هم الأكثر تأثراً
قصص مختلفة حول الأزمات النفسية للأطفال، وذلك بالخروج القسري من المنازل أو من اللجوء وقد يكون نتيجة التسرب المدرسي وغيرها، بالإضافة لذلك فإن المرحلة العمرية بين الطفولة والبلوغ حساسة للغاية، حيث تصبح هذه الفئة معرضة بشدة للاضطرابات النفسية الأكثر شيوعا كالقلق والاكتئاب، وقد يرتفع معها معدل الانتحار.
كما أن الاضطرابات شائعة الظهور خلال هذه المرحلة، الاضطراب ثنائي القطب والفصام، إضافة لاضطرابات الإدمان بأشكاله المتعددة واضطرابات السلوك عند المراهقين.
محمد وحيد شاب عمره 18 عاما، لا يخشى أن يتحدث عما مر به من مشاكل نفسية وإدمان بعد ما مر به بسبب الضغط الممارس عليه، يقول إنه كان يعيش في تأزم كبير ولم يستطع الانخراط في المجتمع بسبب تراجع الحالة الاقتصادية لعائلته ونزوحه من مكان لآخر فلم يستطع الانخراط مع البيئة الجديدة واضطر للانعزال في بيته، حتى إنه لجأ إلى تناول المهدئات والمرخيات العصبية والتي حصل عليها من صيدلية منزله، ما جعله بحالة نكران للواقع، واضطراب بالمزاج مع تراجع تواصله مع أسرته، والتي أحست أن ابنها قد وصل لحالة معقدة.
أجبرت الأسرة ابنها للذهاب إلى طبيب نفسي، لمعرفة السبب وراء تراجع ابنها اجتماعيا، بعد خوفها من دخوله في اكتئاب أو مرض نفسي، ومن خلال دراسة الحالة تم اتباع إجراء السحب الدوائي لمعالجة الإدمان في البداية، ومن ثم الدخول للأسباب وعلى رأسها النزوح من الغوطة تجاه العاصمة، والصعوبات الدراسية.
يقول الطبيب يوسف، المشرف على حالة محمد، إنه تم العمل مع الشاب خلال عدة جلسات لاحقة على تغيير البيئة الاجتماعية أولاً، ودفعه للعودة الى الدراسة وإخضاعه لروتين الحياة المنتجة (الرياضة - النشاطات - العلاقات الصحية) إضافة إلى العلاج الدوائي للاكتئاب بعد الانتهاء من علاج الإدمان، مع المتابعة المستمرة.
ويتابع أن محمد حالياً في حالة تحسن مع حدوث نكسة نفسية كل سنة، إلا أن الحالة مستقرة نسبيا، وأضاف، أن العوامل التي ساهمت في إنجاح العملية كانت وجود عائلة داعمة، وتغيير مكان السكن وإرادة من قبل الشاب بالإضافة للمتابعة العلاجية.
كما أشار إلى أن أغلب هذه الضغوطات التي توّلد مشاكل وأمراضا، تصيب الأطفال بسبب الأهل الذين يشعرون بالضغوطات والضيق بسبب عدم الاكتفاء وتردي الأوضاع والتي جعلتهم عاجزين عن تلبية حاجات أسرهم، فيصبّون هذه الضغوطات على الأطفال الذين أصبحوا يعيشون في بيئة خصبة للأمراض النفسية.
وأفادت تقارير شبه رسمية بأن هنالك حالات معقدة أكثر جاءت على نسوة فقدن أزواجهن ودخلن حالة حزن معقد، قريبات من الاكتئاب، وبقين في حالة حداد لسنوات غير شاعرات بالسعادة، ومنهن من ازداد بهن الأمر حد الوصول لعدم تناول الطعام ومشاكل في النوم، وبعضهن بنسبة ليست بالقليلة تمنين الموت.
ومن الملاحظ بحسب بعض المتخصصين النفسيين، حالة الإحباط وغياب الدافع ما يؤثر على تركيبة الشخصية ورسم الأهداف، لتتحول الى دوافع سلبية وهي «الخلاص من الواقع الحالي» عوضاً عن الإيجابية المتمثلة برسم مستقبل مهني واجتماعي مشرق مع التركيز على الاهتمامات والهوايات.
* نسبة الأشخاص الذين تعرضوا لأزمات ومشاكل واضطرابات نفسية ارتفعت أكثر من 50 في المائة عما كانت عليه خلال الفترة الممتدة من 2011 وحتى 2019
ومن وجهة نظر علم النفس فإن الأزمات الإنسانية ترفع من نسبة الاضطرابات النفسية في المجتمع بمقدار الضعف على الأقل، والأكثر شيوعا في سوريا هي اضطرابات القلق والاكتئاب، إضافة لضعف القدرة على تقديم الرعاية النفسية بكافة أشكالها بسبب نقص الكوادر والمرافق، وغياب الدعم الاجتماعي والاقتصادي ما يفاقم من شدة الاضطرابات النفسية وإمكانية معالجتها.
الصورة النمطية للمريض النفسي
جرى الحديث كثيراً وتم التطرق لمواضيع تتعلق بالمشاكل النفسية والاضطرابات وحتى الأمراض من خلال برامج على الإعلام أو من خلال المسلسلات التلفزيونية إلا أنها لم تنقل الصورة الصحيحة.
يقول رائد فلوح، موظف حكومي، يقطن في القسم الغربي لريف العاصمة، إنه وقبل اتخاذ القرار بالذهاب لأخصائي نفسي، كان يتخوف من كلام الناس عنه، وأصابه ارتياب أن يوصف بالجنون، فلديه عائلة لا يريد أن تتعرض لمساوئ في البيئة التي يعيشون فيها.
وأضاف فلوح أن هنالك الكثير أمثاله ممن يخافون اللجوء لطبيب أو مختص نفسي، لما لها من دلالات سيئة في المجتمع، لكن ومع القليل من النقاشات وتعرفه على أشخاص ذوي ثقة، استجاب للفكرة وذهب إلى المختص الذي عامله بطريقة جيدة مع سرية مطلقة وهذا أمر يعتبر في غاية الأهمية بحسب تعبيره.
تخشى بيان معوض الكلام غير الدقيق الذي يعرض في الإعلام والدراما وخاصة عند ورود معلومات خاطئة، لذلك فهي تسعى للتركيز على برنامج تنشره على «يوتيوب» تحكي فيه عن كل القصص التي حدثت معها دون ذكر أسماء، وكذلك شرح عملية التخطيط النفسي، وعن عدم إهمال الاضطراب النفسي كي لا يتطور وضع المريض مع الوقت.
وأشارت إلى أن برنامجها أو المقاطع التي ستعمل على إنتاجها سيكون دورها مشجعا ودافعا للناس كي يلجأوا للمعالج النفسي أو الطبيب كونه مفيدا للصحة النفسية للأفراد بشكل عام.