وسط عاصفة التقينا مسز ثاتشر، والمقصود بالطبع ليس العاصفة الثلجية التي ألقت ببساط أبيض على أرض العاصمة البريطانية في الأسبوع الماضي، لكن المقصود هو العاصفة البرلمانية التي تتعرض لها المرأة الحديدية هذه الأيام فيما عرف باسم قضية بونتنغ (الموظف في وزارة الدفاع الذي سرب أنباء للبرلمان تفيد بأن الحكومة قد كذبت على ممثلي الشعب فيما يتعلق بإغراقها للبارجة «بلجرانو»، أثناء حرب الفوكلاند.
وبرغم العاصفة، فإن رئيسة الوزراء حين استقبلتني في غرفة جلوسها الخاصة بمقرها الرسمي (10 داوننغ ستريت) كانت تبدو هادئة رابطة الجأش، بل وأصغر سنا مما كانت عليه عندما رأيتها قبل عامين، وكانت قد احتفلت لتوها بمرور عشر سنوات على انتخابها زعيمة لحزب المحافظين، وعندما هنأتها على بقائها في منصب رئاسة الوزارة البريطانية مدة قياسية، قالت لي إن هذا شيء لم تفكر فيه إطلاقا، وبالطبع فإنها حققت سابقة أخرى في كونها أول سيدة تتولى هذا المنصب. وقد عرفت ثاتشر دائما بأنها تتبنى بعض الآراء المضادة للقضية العربية، وتنحاز لوجهة نظر إسرائيل، ومن ثم فقد كان الحوار معها واستكشاف الطريقة التي تفكر بها أمرا يشغل بالنا باستمرار.
«المجلة»، حصلت على أول مقابلة لمجلة عربية مع رئيسة الوزراء البريطانية، وبدأت رحلتها في التعرف على «ماجي»، المرأة الحديدية.
ليس من المبالغة في شيء القول بأن «ماجي» هي أقوى الشخصيات السياسية التي حكمت بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، فقد كانت لديها الشجاعة لمواجهة نقابة عمال المناجم التي أطاحت قبل ذلك بحكومة إدوارد هيث، وهي الآن على أعتاب النصر بعد صمودها في هذا النزاع لمدة تربو على العام، علاوة على ذلك فهي التي حالت دون استيلاء الأرجنتين على جزر الفوكلاند، محققة بذلك نصرا عسكريا سوف يسجل اسمها بصورة مشرفة في تاريح بريطانيا، كما أنها قد تذكر على أنها غيرت من صورة حزب المحافظين، فقد كانت صورته السابقة هي أنه حزب له ضمير اجتماعي، يسيطر عليه كبار رجال الأعمال، وأصبح الآن حزبا يقلص سيطرة النقابات العمالية ويخفض الإنفاق على المرافق العامة، ويخفض ضريبة الدخل، ويتحكم فيه صغار رجال الأعمال، كما اختفت على يد «ماجي»، صورة المحافظين التقليدية المعروفة بالتمسك «المتزمت» بالتقاليد. ولعل في هذه الجوانب ما يشير إلى تشابه حزب المحافظين البريطاني بشكله الجديد مع نمط المحافظين الأميركيين، وهذا هو أحد أسباب الغرام السياسي بين رونالد ريغان، ومارغريت ثاتشر.
وبدأت ثاتشر مع «المجلة»، حديثها بصوتها الهادئ الموحي الذي يبدو أنه لم يتأثر بكل العواصف حولها. قالت رئيسة الوزراء قبيل سفرها للاجتماع بالرئيس ريغان، إنها ستثير في محادثاتها السرية معه قضايا تتعلق بالشرق الأوسط، وأنها لن تشير إلى هذه القضايا في خطابها الذي ستلقيه في الكونغرس الأميركي.
وقالت مسز ثاتشر إنها تعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية يجب أن تقوم بمبادرة سلام شرق أوسطية بأسرع وقت ممكن، وأن أحد شروط نجاح هذه المبادرة أن تتم في الشهور الأولى لإدارة ريغان الجديدة، فعام 1986 سيكون عام انتخابات الكونغرس، وسوف تعاق هذه المبادرة بسبب نفوذ الأصوات اليهودية ذات التأثير الكبير على أعضاء الكونغرس، خاصة عندما يناقش أحد القضايا التي تؤثر على إسرائيل. وبعبارة أخرى فإن رئيسة الوزراء البريطانية تنوي حث الرئيس الأميركي على القيام بدور فعال في إقرار السلام في الشرق الأوسط مرة ثانية.
وهناك سبب آخر لدى السيدة ثاتشر يحملها على الاعتقاد أن الوقت قد حان لمثل هذه المبادرة، وهو ما أكدته لي قائلة: «لدي شعور أننا على وشك أن نبدأ فصلا جديدا في شؤون الشرق الأوسط، وأن هناك وضعا مختلفا قد بدأ يتشكل، فالملك حسين يتصرف بجرأة وشجاعة في محاولته للحصول على التأييد من جانب الدول العربية المعتدلة، ومن جانب آخر فإن الرأي العام الإسرائيلي يضغط على حكومته من أجل التعجيل بسحب قواتها من لبنان».
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك عدة حكومات عربية معتدلة قد بدأت تدرك الحاجة إلى حدوث تقدم في عملية السلام. أما بالنسبة لوضع منظمة التحرير الفلسطينية فقد قالت ثاتشر إن النقطة الشائكة هي مدى قابلية المنظمة للموافقة على قرار الأمم المتحدة رقم 242.
أميركية 100%
وعندما سألت رئيسة الوزراء البريطانية عما إذا كانت الحكومة البريطانية أو المجموعة الاقتصادية الأوروبية تفكر في محاولة الأخذ بزمام مبادرة خاصة بها، أجابت بأنها لا تعتقد أن بريطانيا أو حكومات المجموعة الاقتصادية الأوروبية مجتمعة يجب أن تقوم بمثل هذه المهمة؛ وأكدت ثاتشر (بطريقة حاسمة) أن مثل هذه المبادرة يجب أن تجيء من الولايات المتحدة الأميركية، ولكنها أضافت قائلة إن الدول الأوروبية يمكن أن تدلي بتصريحات كما فعلت في اجتماع قمتها في البندقية.
وقالت «ماجي» إنها تعتقد أن المبادرة السلمية التي قام بها الرئيس ريغان في سبتمبر (أيلول) 1983 كانت ممتازة، وأشارت إلى أنها سترحب بأي جهد يقوم به الرئيس الأميركي لدفعها مرة أخری، وأضافت أنه ليس من الواضح- في هذه المرحلة- ما إذا كان الرئيس الأميركي سيعتبر ذلك ملائما، حيث إنها تراه مترددا حول القيام بها. ولكنه على الأقل، في محادثاته مع زعماء المنطقة مؤخرا صرح بأنه يفضل أن تقوم الدول العربية المعنية بحل مشاكلها بنفسها والدخول في محادثات مباشرة مع إسرائيل، فليس هناك شك في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريس يرغب في إجراء محادثات مباشرة، ولكن ما زال من المشكوك فيه، ما إذا كان الملك حسين سيغامر بذلك، بالرغم من أنه من المعروف جيدا أنه أجرى محادثات سرية ومباشرة مع ممثلين إسرائيليين.
شجون بريطانية
وعرجت رئيسة الوزراء البريطانية للحديث عن الأوضاع السياسية والاقتصادية الحالية في بربطانيا، وقالت إنها تمكنت من وضع أسس لهيكل عمل يمكن للمشروعات الاقتصادية الحرة أن تزدهر من خلاله، وأنها لم تستطع ذلك قبل مرور 6 سنوات على توليها للوزارة. وأضافت قائلة: «من اللازم مرور ست سنوات أخرى قبل الجزم بما إذا كانت روح الاقتصاد الحر ما زالت موجودة في بريطانيا».
وقالت: «بما أن الحكومة لا تستطيع فرض ذلك فإنها تحاول أن تغير من موقف الشعب نفسه فهناك إحياء للمشروعات الحرة، ولكن السؤال المهم الذي يجب أن يتبادر إلى ذهننا: هل يتم هذا الإحياء بالسرعة الكافية؟!».
وقالت مسز ثاتشر إنه توجد في بريطانبا بطالة مقنعة منذ سنوات بدأت في الظهور الآن في صورة بطالة حقيقية، وهذا هو السبب في ازدياد البطالة. وأضافت: «إن العمالة كانت أكثر من اللازم في بعض المشررعات الصناعية، وفوق ذلك فالبلاد تمر بثورة صناعية، وبمشكلة وجود ملايين يبحثون عن عمل ويحتاجون إلى طعام ومدارس وخدمات، والحل الوحيد للتغلب على ذلك، هو خلق وظائف وفرص عمل حقيقية وذلك عن طريق خلق مشروعات صغيرة، جديدة أو زيادة التصدير».
وکررت مسز ثاتشر عدة مرات أنها خلقت هیکل عمل يمكن في إطاره أن تنجح وتزدهر المشروعات الخاصة، ولكن الوضع في بريطانيا ليس ملائما كا هو الحال في الولايات المتحدة مثلا، حيث يشعر المرء بأن هناك تعاونا أوثق بكثير بين المخترعين والمبدعين والمحاسبين الأذكياء، وبين البحث العلمي النشط ورأس المال التجاري، وبين المؤسسات المالية والجامعات.
وقالت رئيسة الوزراء البريطانية إنني أفعل كل ما في وسعي للمساعدة على تحقيق أفضل ظروف للاقتصاد البريطاني، وربما كان أكبر الإنجازات هو أن کل شيء ما زال يسير على ما يرام، بالرغم من مضي اثني عشر شهرا على بداية إضراب عمال المناجم وقد وصل النمو الاقتصادي إلى نسبة 2.5 في المائة. وقد يكون ذلك غير كاف. ولكن بالنظر إلى ظروف الإضراب فإنه يعد مرضيا تماما.
كبرياء الجنيه
ومن الأمور التي تجعل مهمة مارغريت ثاتشر أكثر صعوية استمرار قوة الدولار، فقد وجه ذلك ضربة قوية إلى الجنيه الإسترليني وتسبب- ليس فقط- في الإضرار بنجاح خططها من أجل خفض الضرائب، ولكن أيضا في جرح الكبرياء البريطاني، نتيجة انخفاض قيمة الجنيه بالنسبة للدولار.
ودون شك فسوف تثير رئيسة الوزراء مشكلة قوة الدولار مع الرئيس ريغان الذي لا يمكنه عمل شيء طالما أن الدول الأجنبية تعتبر الاقتصاد الأميركي حصان رهان أفضل من عملاتها.
لقد توقع الكثيرون أن تتدهور قيمة الدولار عندما بدأت معدلات فائدة الإقراض في الولايات المتحدة في الانخفاض، لقد انخفضت بنسبة 3.5 في المائة في الأسابيع القليلة الماضية، ولكن لم يؤثر ذلك على تدفق الدولار الذي يساعد بدرجة كبيرة عل دفع العجز الأميركي. ولقد حاولت البنوك المركزية أن تضعف من قوة الدولار ببيع حوالي مائة مليون دولار، ولكن ذلك لم يكن كافيا، وعلى أية حال فليس هناك- على الأقل الآن- إقدام على محاولة ضخمة لتقليل قوة الدولار وقد تحاول مسز ثاتشر إقناع ريغان بمثل هذه المحاولة.
فضائيات
وعلى رأس جدول أعمال رئيسة الوزراء البريطانية، في واشنطن، موضوع العلاقات بين الشرق والغرب، وقضية الدفاع الفضائي. وقبل بضعة أسابيع كانت هناك همسات في واشنطن تدور حول تطوير الرئيس ريغان لفكرة الدفاع الفضائي لكي تكون ورقة مضادة في مفاوضات الحد من التسلح المقرر أن تبدأ في شهر مارس (آذار). ولكن الدلائل تشير إلى أنه من الواضح أن الرئيس ريغان مقتنع بالفكرة وأنه سوف يمضي في تنفيذها مهما يحدث في جنيف.
الحكومة الفرنسية- مثلا- في عدائها للفكرة تنطلق من أن نظام الدفاع الفضائي سوف يجعل القوة الضاربة الفرنسية عديمة الجدوى، كما أنها بالطبع سوف تبطل فعالية الرادع النووي البريطاني. ولكن مسز ثاتشر تلعب بهذه الورقة بطريقة دبلوماسية أكثر مما يفعل الفرنسيون، فهي تعتقد أن الروس يقومون بإجراء أبحاث كثيرة في الدفاع الفضائي، لذلك فمن الضروري أن تفعل الولايات المتحدة نفس الشيء.
وقد نجحت ثاتشر في زيارتها السابقة بحمل الرئيس الأميركي على الالتزام علانية بإعادة التفاوض مرة ثانية بشأن اتفاقية (A.B.M) التي تسمح بإجراء الأبحاث ولكن ليس بتطويرها.
وعندما سألت «ماجي» عما إذا كانت تعتقد أن إصرار الرئيس الأميركي على المضي قدما بمشروع الدفاع الفضائي سوف يسبب انقساما خطيرا بين الدول الحليفة الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي، أجابت قائلة: «لدى الرئيس ريغان فكرة تنطوي على الاستغناء عن الأسلحة الهجومية النووية- التي تعتبر أساس قوة الردع النووية الحالية واستبدالها بأسلحة تقليدية دفاعية، ونحن محظوظون أنه يفكر بهذه الصورة لأن هذا يختلف كثيرا عن الطريقة التي يراها كثير من الناس بها، ولا أعتقد أن ذلك سيحدث مشاكل خطيرة داخل الحلف».
ومن ناحية أخرى أوضحت ثاتشر أنه من المستحيل التنبؤ بما سوف يحدث عند استئناف محادثات جنيف، ولكن يبدو أنها تری أنه حیث لا يوجد سبيل لفرض قيود يمكن التحقق منها على أبحاث الأسلحة الفضائية، فمن غير المحتمل أن يتسبب هذا الموضوع في انهيار محادثات الحد من التسلح.
جورباتشوف
وفي معرض حديثها عن محادثاتها مع مستر جورباتشوف، عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفياتي، والمرشح- بدرجة كبيرة- كأحد خلفاء تشرنينكو، أكدت رئيسة الوزراء البريطانية على أهمية إجراء حوار مع السوفيات وإطلاعهم على كيفية سير العمل في مجتمع ديمقراطي حر، ودرجة التزام الغرب، بما فيه الولايات المتحدة الأميركية، حيال السلام.
وقالت مسز ثاتشر إنها تعتقد أن السوفيات يحكمون على الغرب بمنظار قديم، ومن خلال أفكار عتيقة متأصلة في نفوسهم، حيث لم تتح لهم إلا فرصة ضئيلة للتعرف على العالم الخارجي.
واختتمت «ماجي»، حديثها قائلة: «أعتقد أن مستر جورباتشوف تعلم الكثير من محادثاتنا وبالتأكيد تعلمت أنا الكثير من الاستماع إليه».