في موجة حرائق هي الأعنف والأوسع منذ عقود، سجلت الجزائر خلال أسبوع خسائر بشرية ومادية فادحة، بعد أن أتت النيران على مساحاتها الغابية الشاسعة، في محافظات عدة، أبرزها تيزي وزو ذات الطابع الجبلي والغابي، وبينما يتحدث البعض عن تأثيرات التغيرات المناخية التي تشهدها البلاد خلال العقد الأخير، توجّه السلطات أصابع الاتهام للعامل البشري، حيث صرّح مسؤولون كبار أبرزهم الرئيس عبد المجيد تبون بأن «العمل إجرامي واضح وأكيد».
وبينما كان الجزائريون يصارعون رفقة وحدات من الجيش، وأعوان الدفاع المدني النيران الملتهبة، ويتجندون لمساندة بعضهم البعض في القرى والمداشر المتناثرة على سفوح الجبال للحدّ من التداعيات الخطيرة للحرائق، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أطلّ الرئيس عبد المجيد تبون بخطاب قال فيه إن سلسلة الحرائق التي شهدتها البلاد سببها حرارة الطقس المرتفع، لكنه شدد في المقابل على أن «أغلبها كانت بفعل أياد إجرامية»، إلا أنه لم يعط أية تفاصيل بشأن هذه الأطراف، لكنه أوضح في المقابل أنه تم توقيف 22 مشتبها فيه بالتسبب في إشعال الحرائق،11 في تيزي وزو، و4 في مدينة عنابة، شرقي الجزائر، والباقي في ولايات المدية وعين الدفلى وجيجل، مشيرا إلى أن «التحريات مستمرة للقبض على كل الضالعين في هذه الحرائق»، ومؤكدا أن «العدالة ستأخذ مجراها في هذا الشأن». وأوضح تبون أن «جزءا من الحرائق سببه الأحوال الجوية، لكن أغلبها بأياد إجرامية، كما أظهرت صور الأقمار الصناعية لوكالة الفضاء الجزائرية».
وأشار الرئيس الجزائري إلى أن «الحرائق مست تقريبا14 ولاية في نفس الوقت»، وتابع: «في أول يوم من اندلاع هذه الحرائق، قمت بإسداء تعليمات للوزير الأول وحتى على مستوى الرئاسة للاتصال بكل الدول الأوروبية الصديقة من أجل اقتناء طائرات إخماد الحرائق، حيث كنا نعلم أن التضاريس لا تسمح بإطفاء النيران بوسائل تقليدية»، غير أنه يتابع قائلاً: «مع الأسف، ولا دولة استجابت لطلبنا لأن كل الطائرات الأوروبية من هذا النوع كانت آنذاك متمركزة في اليونان وتركيا» التي عرفت هي الأخرى اندلاع حرائق مهولة.
وفي ظل تضارب المعلومات بشأن أسباب الحرائق، واتهام جهات غير معروفة بالوقوف وراءها، وبالتآمر على وحدة الجزائريين ووحدة بلادهم، شدد تبون حديثه على ضرورة «الوحدة الوطنية»، و«التلاحم بين جميع الجزائريين »، مؤكدا أن «الدولة الجزائرية دولة واحدة موحدة والشعب واحد موحد من تيزي وزو إلى تمنراست ومن تبسة إلى تلمسان، وهذه المسائل مفصول فيها وسنتصدى بكل الوسائل المتاحة لكسر هؤلاء الناس الذين يحاولون المساس بالوحدة الوطنية».
قائد أركان الجيش الجزائري: الحرائق في البلاد هي مؤامرة تحاك ضد البلاد
كما حذر تبون من الوقوع في منظمتين إرهابيتين دون تسميتهما، ويقصد بذلك «الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل» التي يترأسها المغني القبائلي فرحات مهني ويطلق عليها اسم «حركة الماك» ومنظمة «رشاد» الإسلامية ومقرها لندن. وقال تبون: «يجب أن نتصدى جميعا إلى كل الذين يريدون إثارة التفرقة بين الجزائريين وبين منطقة وأخرى، وهي المحاولات التي تعد إجراما في حد ذاتها».
خطاب الرئيس جاء بعد أيام من اندلاع الحرائق التي مسّت 17 محافظة وخلّفت أكثر من 65 ضحية، منهم 37 مدنيا و28 عسكريا، بالإضافة إلى إصابة12 عسكريا وصفت حالتهم بالحرجة. وكان رئيس الحكومة أيمن بن عبد الرحمن قد أعلن أن «الحرائق التي تشهدها بلاده بفعل فاعل وبأيد إجرامية، وتستهدف مناطق محددة ومدروسة»، مشيرا إلى أن «ذلك أثبت باستخدام التكنولوجيا».
اسم المنظمتين )الماك، ورشاد( برز مجدداً مع حادثة مقتل الشاب جمال بن إسماعيل، وهي الحادثة التي اهتزت لها الجزائر، وخلّفت ردود فعل غاضبة واسعة، وغير مسبوقة بسبب تداعياتها وحيثياتها، حيث قام عشرات الشباب بطعن الشاب داخل عربة الشرطة بعد أن تنقل من مدينة مليانة إلى مدينة ناث ايراثن بتيزي وزو، للمساعدة في إخماد الحرائق، وبعد طعنه قاموا بسحله في شوارع البلدة، وإضرام النار في جسده أمام الملأ، وهي الجريمة البشعة التي وثّقها الحاضرون بهواتفهم النقالة، وقام بعضهم ببثها على المباشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ما شكل صدمة للجزائريين، وقد برر الجناة فعلتهم هذه بتوصلهم لمعلومات تفيد بأن الضحية هو أحد المشاركين في إضرام النيران، ليتضح بعد ذلك أنه شخص بريء، وأنه فنان ورسام معروف بمدينته مليانة.
قوات الأمن وبعد الحادثة باشرت عملية اعتقالات واسعة أسفرت عن اعتقال 61 مشتبه به، وذكر بيان للأمن الوطني أن «المصالح المختصة تمكنت من استرجاع الهاتف النقال الخاص بالضحية، والذي أسفرت عملية استغلاله عن اكتشاف حقائق مذهلة حول الأسباب الحقيقية لقتل الشاب جمال بن إسماعيل، والتي ستفصح عنها العدالة لاحقا»، يقول البيان.
وفي نفس السياق، ذكرت الشرطة في بيانها أنها «تمكنت من إلقاء القبض على 61 شخصا، يتحملون المسؤولية بدرجات مختلفة عن قتل وحرق والتنكيل بجثة، وتحطيم أملاك وانتهاك حرمة مقر أمني. وحسب المصدر ذاته فإن التحقيقات توصلت إلى اكتشاف وقوف شبكة مختصة في الإجرام مصنفة منظمة إرهابية باعترافات عناصرها الموقوفين.
وبسبب أنشطتها المشبوهة، كانت الرئاسة الجزائرية قد أعلنت في18 مايو (أيار) الماضي، تصنيف الجزائر رسمياً الحركتين كحركات )إرهابية( عقب اجتماع استثنائي للمجلس الأعلى للأمن برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، في خطوة غير مسبوقة. حينها، أعلنت الرئاسة الجزائرية أن المجلس الأعلى للأمن درس «الأفعال العدائية والتحريضية المرتكبة من قبل ما يسمى بحركتي رشاد والماك اللتين ترميان إلى زعزعة استقرار البلاد والمساس بأمنها». وفي14 يوليو (تموز) الماضي، وجه الأمن الجزائري ضربة موجعة لحركة رشاد بتفكيك «صندوقها الأسود». حيث كشف التلفزيون الجزائري عن تفكيك أكبر خلية تابعة للحركة مكونة من12 شخصاً تنشط بشكل مباشر مع جناح الحركة بأوروبا. كان من بين أفراد الخلية سيدة ظهرت مرتدية النقاب، اعترفت بدورها في استدراج النساء والتركيز على الفقيرات والطالبات الجامعيات منهن.
وعن حجم الخسائر الأولية للحرائق كشف الأمين العام لولاية تيزي وزو، ميلود فلاحي عن إخضاع 794 بناية و831 مستثمرة فلاحية متضررة من الحرائق التي شهدتها الولاية للمعاينة التقنية من قبل لجان تقييم متخصصة، والتي تتكون من 160 عضواً. أما بالنسبة للقطاع الفلاحي الذي سجل خسائر كبيرة إثر الحرائق، فقد أشار المتحدث إلى أن «فرقا تضم أزيد من 80 مهندسا فلاحيا من داخل وخارج الولاية، قد أحصت خلال الأيام الماضية831 مستثمرة فلاحية متضررة».
ورغم تأكيد السلطات ثبوت العامل البشري وراء الحرائق، إلا أن مختصين في البيئة شددوا على ضرورة عدم تجاهل وإهمال دور وتأثير التغيرات المناخية على الظاهرة، وفي حديثه لـ«المجلة» يؤكد الخبير البيئي نسيم لعماري أن «للتغير المناخي الذي تشهده منطقة البحر المتوسط، والجزائر خلال السنوات الأخيرة دور كبير في حجم الحرائق وسرعة انتشارها». فالجزائر حسب حديثه «تشهد حالة من الجفاف والاحتباس الحراري زاد من وقع وحجم الحرائق»، ما يشكل وفق تقديره «عدة تحديات للجزائر خاصة، ولمنطقة المتوسط عموماً». وكمثال على حجم وتأثيرات المناخ، أوضح أنه «خلال الـ30 سنة الأخيرة، لم تعد ذروة تساقط الأمطار والثلوج تسجل بالضرورة خلال فصل الشتاء، ففي الجزائر العاصمة مثلا كانت كميات الأمطار المسجلة خلال فصل الشتاء قبل العام 1990، أكثر بـ12 مرة إلى20 مرة قياسا بالمستوى المسجل سنة 2020». ويتوقع الخبير أن «ترتفع درجات الحرارة عبر البحر الأبيض المتوسط ومنها الجزائر بوتيرة أسرع من المتوسط العالمي في العقود القادمة، مما يهدد قطاعات الزراعة ومصايد الأسماك والسياحة الحيوية في المنطقة». ويحذر استنادا على تقارير دولية من أن «عشرات الملايين من السكان سيواجهون مخاطر متزايدة من نقص المياه والفيضانات الساحلية والتعرض للحرارة الشديدة القاتلة».
الوضعية السابقة برأي لعماري تطرح عدة أسئلة حول مسقبل البيئة، ومدى حد القوانين والدولة لانبعاث الغازات، ودعم الاقتصاد الأخصر بالجزائر. ولفت إلى إن «الجزائر قد استبقت الأحداث قبل سنوات، وأطلقت العديد من الورشات القانونية والتنموية، قصد حماية البيئة والحد من انبعاث الغازات، خاصة الصناعية، كما لم تتأخر في توقيع اتفاق باريس حول المناخ».
وكانت الجزائر قد أنشأت اللجنة الوطنية للمناخ وكلفتها بمتابعة استراتيجيات مكافحة التغيرات المناخية وتأثيراتها على التنمية، يترأسها الوزير المكلف بالبيئة، وتتكون من ممثلي18 وزارة، في مقدمتها وزارة الشؤون الخارجية ووزارة الداخلية والجماعات المحلية ووزارة الطاقة ووزارة الصناعة والمناجم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إضافة إلى ممثل عن المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي.
وتطمح الجزائر حسب ما ورد في الموقع الرسمي لوزارة البيئة إلى المساهمة في خفض انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري ما بين 7 في المائة و22 في المائة مع حلول العام 2030، بالاستفادة من تمويلات خارجية، مع خفض 7 في المائة منها اعتمادا على الوسائل المحلية.
كما وضعت الحكومة المخطط الوطني للمناخ سنة 2017، من أجل دمج النشاطات المتعلقة بتغير المناخ، ووضع دراسات تحليلية لمخاطر الهشاشة المناخية، وتحليل مخاطر قطاع الموارد المائية. كما صادقت الحكومة في مارس (آذار) 2019، على مخطط بعث الاقتصاد الأخضر، بتمويل عمليات الفرز عند المصدر، والرسكلة (التدوير)، ودعم الصناعات التحويلية، وتشجيع الاستثمار في مجال النفايات من أجل ضمان التحكم في التأثير البيئي وتقنيات المعالجة، ووضع إعفاء ضريبي للشركات الصناعية التي تلتزم بخفض انبعاث الغازات المضرة بالبيئة والنفايات الكيميائية.
إلا أن الإشكال بالنسبة للخبير لا يكمن في النظام التشريعي، بل في تطبيق القوانين والآليات التقنية والتمويل. حيث أكد أن «الجزائر لا تملك آليات المراقبة الدورية لانبعاث الغازات والنفايات السائلة والغازية من المصانع ولا أجهزة قياس الغازات في الهواء، ولم تضع بعد أجهزة إنذار مبكر لتخطي المؤشرات الخطوط الحمراء، وفي المقابل أيضا لا توجد قوانين رادعة للمتسببين في تدهور البيئة، حتى الشركات العمومية لا تحترم القوانين». وأضاف الخبير المناخي أن «الحكومة مطالبة بالانتقال من الإطار النظري إلى الإطار العملي الميداني، فالحرائق الأخيرة أكدت أن الوضعية البيئية جد متدهورة، حيث نشهد جفافا غير مسبوق وحرائق كبيرة ونقصا في تساقط الأمطار، واختلالا في الفصول السنوية، لذا يجب التحرك لمراقبة المصانع، ونحن لا نمتلك اقتصادا صناعيا كبيرا لا يمكن مراقبته، وبالتالي فإن استدراك الوضع لا يزال ممكنا، ويجب فقط توافر التمويل والإرادة السياسية».
ومع انتقال موجة حرائق الغابات من دول شرق البحر الأبيض المتوسط، تركيا واليونان وإيطاليا، إلى دول أخرى جنوبها وغربها، في الجزائر والجزر الإسبانية، حذّر تقرير أصدرته هيئة تابعة للأمم المُتحدة من خطورة التطورات المناخية التي ستشهدها دول منطقة المتوسط خلال السنوات القليلة المنظورة، حيث ستتجاوز التغيرات المناخية في هذه المنطقة، حسب التقرير بنسبة20 في المائة من التغيرات التي ستشهدها باقي مناطق العالم.
اعتقال 36 شخصا على خلفية سحل وقتل شاب حرقا بالجزائر
التقرير يُشير إلى المخاطر التي قد تطال سكان المتوسط الذين تبلغ أعدادهم أكثر من نصف مليار نسمة، والتي سماها «مخاطر مناخية شديدة الترابط ستظهر خلال العقود القادمة بشكل متسارع»، حيث صنفها إلى «أسباب القلق المرتبطة بخطر ارتفاع مستوى سطح البحر، إلى جانب فقدان التنوع البيولوجي البري والبحري، وجميع المخاطر المتعلقة بالجفاف، بالذات الحرائق الهائلة، وتغيرات دورة المياه، وإنتاج الأغذية المهددة بالانقراض، والمخاطر الصحية في كل من المستوطنات الحضرية والريفية بسبب الحرارة، وتغير نواقل الأمراض».
رقمياً، أعطت المسودة توقعات شديدة التشاؤم. إذ أكد أن المنتجات الزراعية البعلية في منطقة البحر المتوسط ستنخفض بنسبة 64 في المائة خلال السنوات القادمة، كنتيجة لهذه الظاهرة. كذلك حدد 71 في المائة من الناتج المحلي لسكان هذه المنطقة سيكون مهدداً بالفقدان نتيجة تراجع مستويات المياه العذبة. كذلك حدد التقرير درجة 87 في المائة زيادة في مساحات الغابات التي ستتعرض للحرائق في هذه المنطقة، فيما لو ارتفعت درجة حرارة هذه المنطقة درجتين مئويتين خلال السنوات العشرين القادمة، كما توقع التقرير أن ترتفع تلك الزيادة إلى ثلاثة أضعاف المساحات التي تتعرض للحرائق راهناً، فيما لو ارتفعت درجة الحرارة ثلاث درجات.