تماما مثلما حصل في منطقة الشرق الأوسط، تتسارع التطورات في شمال أفريقيا متدحرجة نحو التلاشي الكامل لهوامش المناورة في العلاقات بين دولها. فإضافة إلى الأزمة الليبية، المتأرجحة بين تفاؤل حذر بقرب وضعها على سكة التسوية، وتشاؤم بانزلاق محتمل نحو انفجار جديد نتيجة تعنت الأطراف المتصارعة، وزيادة على وضعية متشنجة داخل تونس بفعل الاستقطاب الحاد في مواقف قواها السياسية بدأت تطفو تدريجيا على السطح مشاكل ثنائية أو ثلاثية بين باقي دول المنطقة، التي لم تتأخر في التعبير عما تختزنه من أحقاد وعداوات فيما بينها؛ الأمر الذي ينذر باحتمال اندلاع صراعات جديدة، مباشرة ومكشوفة يمكن أن تصل إلى نزاعات مسلحة.
وبدلا من أن تسارع القوى الدولية ذات النفوذ الكبير والمصالح الحيوية في المنطقة إلى تطويق ما يظهر من خلافات يلاحظ أنها تحاول بذكاء إذكاء جذوة الصراعات من خلال اتخاذ مواقف ملتبسة، وفضفاضة وحمالة أوجه لا تخفي الدعم والتعاطف مع هذا الطرف أو ذاك من دول المنطقة أو إبداء التفهم لمواقفه وقراراته بشكل يصب المزيد من الزيت على نار الخلافات.
في هذا السياق، بدا لافتا للانتباه تصاعد التوتر في أزمة سد النهضة إثر إقدام إثيوبيا على بدء عملية الملء الثاني للسد دون الاتفاق مع دولتي الممر والمصب السودان ومصر، غير آبهة باحترام حقوقهما التاريخية والمشروعة في مياه نهر النيل.
ورغم أن مجلس الأمن الدولي فشل في إيجاد تسوية مرضية للأطراف الثلاثة، وأعاد الأزمة إلى إطار «الاتحاد الأفريقي»، فإن مواقف القاهرة والخرطوم ما تزال تسعى إلى تحقيق حل دبلوماسي يراعي مصالح الجميع بدليل أنهما لم تنسحبا من إعلان المبادئ الموقع بالخرطوم سنة 2015 ولم تعلنا تجميده؛ كما لم تتوقف عن طرق أبواب عواصم كبرى بحثا عن وساطتها للوصول إلى حل مقبول.
ومع ذلك، فمن المستبعد أن تظل السودان ومصر أسيرتين للبحث عن تسوية دبلوماسية إلى أجل غير مسمى، إذ لا يمكن التكهن بردود أفعالهما لا سيما في ظل إصرار إثيوبيا على تعنتها، الذي يعكس نواياها الحقيقية المتمثلة في:
* تغيير قواعد القانون الدولي حول المياه العابرة للحدود، وترسيخ البعد المحلي للنيل الأزرق، وفرض إعادة النظر في موضوع توزيع مياهه بما يخدم برامجها التنموية.
* إبراز مؤهلاتها، رغم حدة مشاكلها الداخلية، في إمكانية لعب الدور المطلوب منها لكبح تطلعات مصر العائدة تدريجيا لدورها المحوري عربياً وأفريقياً، وهو دور لا ينظر إليه بعين الرضا في بعض العواصم الإقليمية والدولية على حد سواء.
وفي الجهة الأخرى شمال غرب القارة السمراء تصاعدت حدة التوتر مؤخرا في النزاع المفتعل بين الجزائر والمغرب حول الأقاليم الصحراوية لهذا الأخير؛ وذلك بعد حصول تطورات ميدانية رسخت الوجود الشرعي والقانوني للمغرب على الأرض، وأخرى دبلوماسية داعمة له، كان أكثرها وقعا هو الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء.
لم تستسغ الجزائر الرسمية هذه التطورات التي رسخت المزيد من الاستقرار للمغرب في حدوده الجنوبية؛ وذلك لأنها اعتادت على استغلال أجواء عدم الاستقرار داخليا وفي محيطها الإقليمي للتهرب من التجاوب مع الحراك الشعبي المتواصل في عموم البلاد منذ ثلاث سنوات، والذي تجاوزت شعاراته المطالب الاجتماعية نحو الدعوة إلى تغيير النظام السياسي السائد، وصياغة عقد اجتماعي جديد يراعي التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الجزائري.
وبعد إخفاق جبهة البوليساريو في افتعال مناوشات عسكرية مع الجيش المغربي لإضفاء بعض المصداقية على الطرح الانفصالي الذي تتبناه، بدا جليا أن المبتغى ليس تسليط الأضواء الدبلوماسية والإعلامية على هذا النزاع المفتعل؛ وإنما السعي إلى التشويش على السياسة الإقليمية للمغرب وتقزيم أدواره السلمية في كل من ليبيا ومنطقة الساحل، وإشعاعه في العديد من الدول جنوب الصحراء؛ كما اتضح أن النظام الجزائري يتشارك في هذا الهدف مع قوى أوروبية وبعض أجهزة مخابراتها، التي اضطرت إلى كشف القناع عن نواياها الرامية إلى إشعال المزيد من الأزمات في عموم شمال أفريقيا.
إن ما سيفضح هذا التوجه بشكل سافر هو إقدام أجهزة المخابرات تلك على تسريب معلومات واهية ومضللة عن استخدام عدد من دول العالم لنظام التجسس المسمى «Pegasus»، والإيحاء إلى وسائل الإعلام الفرنسية والإسبانية بالتركيز فقط على ما تدعيه من قيام المغرب باستخدام مفرط لهذا النظام، وبأسلوب يرقى إلى اليقين عكس التحفظ الذي ظهر في تغطية الصحافة الأنغلوفونية لهذا الموضوع.
وبتسليط الأضواء أيضا على استخدام نظام «Pegasus» من طرف دول عربية أخرى لديها توجهات سياسية مماثلة لتوجهات المغرب إزاء قضايا المنطقة تتسم بالاعتدال والانفتاح مثل مصر والسعودية والإمارات يتضح أن إثارة موضوع التجسس في هذا الظرف بالذات لا تروم كشف حقائق ومعلومات عن مؤسسات أو شخصيات؛ ولكنها تتوخى تعميم عدم الاستقرار بغية المزيد من الاستنزاف للإمكانيات المادية والمالية لبلدان المنطقة برمتها.
فهل سيستوعب عرب شمال أفريقيا ما يخطط لهم؟
* سفير المملكة المغربية السابق لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، وباحث في العلاقات الدولية.