بيروت: يقاوم اللبنانيون اليوم أشرس انهيار مالي منذ قيام كيان دولتهم. ورغم الحروب التي عصفت في الماضي، ينظر الخبراء الاقتصاديون والصحيّون إلى هذه الأزمة على أنّها مدمّرة وغير مسبوقة.
منذ عام 2019 تغيّرت حياة المواطنين بشكل صادم ومتسارع، حيث وقعت الدولة في فخ فسادها الذي دام لسنوات، بظلّ إفلاس حكومة تصريف الأعمال الحالية وتعثرها في سداد الديون الدولية وفشلها في اتخاذ الإجراءات اللازمة لكسب الدعم الدولي.
لبنان الذي كان يحظى بدعم عربي ودولي، فقد ثقة هؤلاء اليوم بسبب سلطته التي تعاني من إدارة فاسدة وضعت أهم حاجات المواطن بيد «كارتيلات»، و«مافيات» الاحتكار، التي تتحكّم برقاب اللبنانيين. فتبيع المواد الحيوية في السوق السوداء، أو تمنعها عن المواطنين بين الحين والحين، بحسب مقتضيات الربح.
مدع عام لبناني يطلب مستندات من حاكم البنك المركزي
لبنان في المراكز الأولى بالأزمات الاقتصادية عالمياً
كشف تقرير صادر عن البنك الدولي في يونيو (حزيران) الماضي أنّ لبنان يعاني من كساد اقتصادي حاد وطويل الأمد، وأنّ البلاد تغرق في أزمة اقتصادية هي الأقوى بين الثلاثة الأوائل، والأكثر حدة على مستوى العالم، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
فمنذ أكثر من عام ونصف، يواجه لبنان تحديات معقدة: أكبر أزمة اقتصادية ومالية في وقت السلم، كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت.
ويقدّر البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انكمش في عام 2020 بنسبة 20.3 في المائة، على خلفية انكماش بنسبة 6.7 في المائة في عام 2019. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي للبنان إلى ما يقرب من 55 مليار دولار في عام 2018، وإلى ما يقدّر بنحو 33 مليار دولار في عام 2020. كما انخفض متوسط سعر الصرف بالبنك الدولي بنسبة 129 في المائة في عام 2020. وارتفع معدل التضخم، حيث بلغ متوسطه 84.3 في المائة في عام 2020.
هذا، وتوقع تقرير البنك الدولي أنّ ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 9.5 في المائة في العام الحالي.
ماكرون يعد بمئة مليون يورو إضافية للبنان وينتقد قادته مجددا
لبنان مهدّد بالعتمة الشاملة والكهرباء للأغنياء فقط!
عن تداعيات الانهيار على المواطن من الناحية المعيشية والاقتصادية، كشف الباحث الاقتصادي والمالي الدكتور محمود جباعي لـ«المجلة» أنّ لبنان الغارق اليوم في عتمة شبه شاملة بسبب فقدان الفيول، مهدّد في فترة قريبة بالعتمة الشاملة التي لن تغطي عجزها مولّدات الكهرباء.
ويعود ذلك إلى أنّ مادة الفيول لم تعد متوفرة، بسبب توقيف الاعتمادات من مصرف لبنان، الذي لم يعد قادراً على الدعم لأن حجم الدولارات لديه يساوي حجم الاحتياط الإلزامي.
وقال جباعي إنه حتى عندما صرف مصرف لبنان مائة مليار دولار لاستخدامها في دعم البنزين والمحروقات، صُرفت كلها بين مافيات الاحتكار والتخزين، وتم بيع الموارد للمواطن بالسوق السوداء، بالتالي الشعب لم يستفد شيئاً، بل زادت معاناته من طوابير الذلّ والانتظار للحصول على نسبة قليلة لا تكفيه حتى لسدّ حاجته.
* في لبنان مصفاتان مهمتان، مصفاة الزهراني ومصفاة البداوي؛ لكن البلاد تفتقر إلى القدرة على تكرير النفط بسبب توقيفهما عن العمل عمداً من مافيات الاحتكار
ولفت جباعي إلى أنّ اتجاه لبنان نحو العتمة الشاملة في المرحلة القادمة، سينتج عنه تداعيات خطيرة على عدة نواحي:
الصعيد الاقتصادي: ستتوقف كل معامل الإنتاح، مما يسبب خسائر إنتاجية وكلفة عالية؛ إذ إنّ الشركات، ستتجه نحو السوق السوداء لتدوير المولّدات بكلفة خيالية، ما يعني أنّ أسعار المحروقات سترتفع بشكل خيالي.
من الناحية المعيشية، يلفت جباعي إلى أنّ القدرة الشرائية للمواطن ستنخفض، مّما سيعيقه من الحصول على كافة المواد، والكهرباء واحدة منها. وقال: «بدأ المواطن حرفياً يفترش البلاط، للوقاية من الحر».
ويرى جباعي أنّ سبب افتقار لبنان للكهرباء يعود للسلطة الفاسدة التي تحكم لبنان، بالإضافة إلى كارتيلات الاحتكار من التجار، ويلفت إلى أنّ السرقات والصفقات التي نفذتها كارتيلات الاحتكار المتعاملة مع السلطة، أبعدت أيّة عروض خارجية لإنتاج الكهرباء بهدف السيطرة على السوق.
ويطرح جباعي حلولاً قد تنقذ لبنان من عتمته الشاملة وتسد عجزه في ناحية المحروقات، عن طريق إصلاح المصافي المتوفرة، إذ يوجد في لبنان مصفاتان مهمتان، مصفاة الزهراني ومصفاة البداوي؛ لكن تفتقر البلاد إلى القدرة على تكرير النفط بسبب توقيفهما عن العمل عمداً من مافيات الاحتكار، حتى لا ينتج لبنان أي مصدر للطاقة. وبذلك، تقوم المنظمومة الحاكمة بوقف عروض خارجية لتفعيل إنتاج الكهرباء كتلك الواردة من ألمانيا وروسيا اللتين قدمتا عروضاً للاستثمار وإعادة تشغيل المصافي، التي تمكّن البلاد من توفير ملياري دولار سنوياً، مع إمكانية توفير أرباح بقيمة 6-8 مليارات دولار من تكرير النفط.
هذا، ويعتبر الباحث المالي والاقتصادي أنّ لبنان يمكن أن يولّد طاقة كهربائية، عن طريق تأهيل المصافي المتوقفة عن العمل للاستفادة منها في تكرير النفط الخام لتوليد الطاقة الكهربائية، وتوفير ما يعادل 60 إلى 70 في المائة على خزينة الدولة من تكلفة الفيول العالمي، بالإضافة إلى تأمين التغذية لفوق 16-20 ساعة يومياً لمدة 6 شهور؛ إلاّ أنّه بالوضع الحالي للمصافي، لن يتمكّن لبنان من تكرير النفط والاستفادة من الهبات الخارجية كما حصل بحال هبة النفط العراقي الأخيرة، حيث لم يستفد لبنان منها على الإطلاق.
إلى ذلك، يرى جباعي أنّه يتعيّن على الدولة اللبنانية توسيع عامل المنافسة بالاستيراد عبر تفعيل دور العروض الخارجية التي تصل لبنان، وتوقيف سلطات الاحتكار المسيطرة على الفيول والمحروقات، لإدخال كمية أوفر منها وبتكلفة أقل.
ولعلّ أكثر ما يطفو على الساحة اللبنانية اليوم هو تداعيات رفع الدعم على المواطنين، إذ يتجه لبنان نحو الرفع الكلي للدعم عن المحروقات. وهنا، يلفت جباعي إلى أنّه لا ضمانة في أن تتوفر السلع حتى بعد رفع الدعم، حيث إنّ انهيار القدرة الشرائية للمواطن لن تتحمّل وزر كلفة الكهرباء؛ وبالتالي ستصبح الكهرباء متوفرة فقط للأغنياء؛ محذراً من فترة عويصة قريبة بانتظار اللبنانيين.
سكرية لـ«المجلة»: الأدوية تدخل لبنان دون رقابة... ولقاح كورونا في البازار السياسي
قصص لبنانيين مرّة بسبب الأزمة الاقتصادية
يرزح أكثر من نصف سكان لبنان تحت خط الفقر، حيث يعاني الجزء الأكبر من القوى العاملة- التي تدفع بالليرة- من انخفاض القوة الشرائية. ومع ارتفاع معدل البطالة، تواجه نسبة متزايدة من الأسر صعوبة في الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية.
ويستيقظ اللبنانيون كل يوم على أزمة جديدة في المرافق الحيوية الأساسية تهدّد معيشتهم؛ ويعانون من طوابير الانتظار للحصول على البنزين والغاز والمازوت؛ فيما شبح الانهيار يرافق المواطنين في كل تحركاتهم، ويهدّد أمنهم الصحي والغذائي والمعيشي.
فاللبناني يعيش بلا دواء، ويصارع للحصول على المحروقات، كما يعاني من نقص في التغذية الكهربائية؛ فيما تعلو صرخات المستشفيات المنددة بنقص المازوت والكهرباء. كذلك، يعاني مرضى السرطان والأمراض المستعصية الأخرى من نفاد الدواء، مما يتركهم معرّضين لمواجهة الموت في أي لحظة. فمع تضاؤل الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي، تضاءلت كذلك إمدادات الطاقة، حيث توفر مؤسسة كهرباء لبنان الآن بضع ساعات فقط في اليوم، كما تعتمد المولدات سياسة التقنين لعدم توفر الفيول.
من الناحية الأخرى، وبسبب جائحة كوفيد-19 يعمل اللبنانيون من منازلهم، فيما انقطاع الكهرباء الدائم أصبح يهدّدهم بلقمة عيشهم. فقد تعرّض بعضهم للصرف من عملهم بسبب عدم قدرتهم على تسليم مهامهم بالوقت المطلوب. وتحدث بعض المواطنين إلى «المجلة» عارضين قصصهم المرّة مع الأزمة.
شرحت رنا (33 عاماً)، التي تعمل من لبنان كمدقّقة مالية في إحدى الشركات بالخارج، كيف تعرّضت للطرد بسبب عدم قدرتها على تسليم مهام عملها في المهل المحدّدة.. «لا ألومهم»، قالت: «ليس مطلوباً من الشركة تحمّل الإهمال غير المقصود، لكن انقطاع الكهرباء الدائم حيث أقطن وتحكّم صاحب المولّد في ساعات التقنين حالا دون إتمام واجبي بالشكل المطلوب».
وروى ماجد (40 عاماً)، مهندس ورب عائلة، كيف أصبح مجبراً على مضاعفة ساعات عمله لحوالي 18 ساعة يومياً بأكثر من مؤسسة، بسبب انهيار الليرة وانخفاض القدرة الشرائية.
أمّا سمر )40 عاماً) وهي ربّة منزل، فقالت لـ«المجلة» إنّها تتعرّض للتعنيف المنزلي من قبل زوجها بسبب الضائقة الاقتصاية، ولفتت إلى أنّه بعد صرف زوجها من العمل، أصبح عدائياً وعنيفاً بشكل لافت.
وجوانا ابنة الـ14 ربيعاً لها قصة أخرى؛ فبسبب الضغط الاقتصادي الذي خيّم على أجواء المنزل، لم تعد والدتها تهتم بمتابعة أمورها، فهي الأخرى تعاني من ضيق الأزمة، وتعمل لساعات طويلة كي تعيل أطفالها الثلاثة بغياب الأب الذي توفي منذ عامين. جوانا (اسم وهمي) أصبحت ضحية ابتزاز زملائها المراهقين في الدراسة. حيث كانت تقضي كل أوقاتها متنقلة على مواقع التواصل، لتجد من يسمعها بحسب ما أوضحت لـ«المجلة»، وقالت: «لم يكن أحد يصغي لي، والدتي تتأخر في العمل لتسديد مصاريف المنزل، وإخوتي في حال توتر دائمة». وشرحت لنا كيف أن زمرة أصدقاء استدرجوها لإرسال فيديوهات وقاموا بعدها بتهديدها بإخبار عمها (المحافظ والمتسلّط حسب ما وصفته)، في حال لم ترضخ لمطالبهم. حاولت جوانا الانتحار هرباً من واقعها، إلاّ أنّ يد القدر أنقذتها في اللحظات الأخيرة.
التداعيات النفسية على المواطنين بسبب الأزمة
ما يمرّ به اللبنانيون اليوم قد يكون أقوى من قدرة تحمّل الشعوب، لكنها ليست المرة الأولى التي يعاني فيها الشعب اللبناني من أزمات، ولو بأقل ضرر. فقد تخبط لبنان منذ سنوات في الحروب الأهلية والخارجية مما ترك تداعيات نفسية شديدة الأثر. ولا زال الكثير منهم يعانون لليوم من آثار الحروب فيما يتعلّق بصحتهم النفسية. إنّما خبراء الصحة يرون أنّ للّبناني قدرته على تخطي الصعوبات، لتميّزه بحب الحياة وتمتعه بمرونة عالية للتكيّف والتأقلم وإيمانه بوطنه.
* مادة الفيول لم تعد متوفرة، بسبب وقف الاعتمادات من مصرف لبنان، الذي لم يعد قادراً على الدعم، لأن حجم الدولارات لديه يساوي حجم الاحتياط الإلزامي
وللوقوف عند تداعيات الأزمة على صحة اللبنانيين العقلية والنفسية، تحدثت «المجلة» مع المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية الدكتورة كارول سعادة، التي لفتت إلى أنّ للشعب قدرة على التغلّب على الصعاب والضغوطات النفسية، من خلال التكاتف الاجتماعي الذي يظهر عند كل أزمة؛ إنّما حذّرت من تراكمات الظروف القاسية التي تجعله في وضع نفسي مزمن وغير مرتبط بمرحلة وقتية. وقالت سعادة إنّ تصاعد الأحداث الأخيرة في البلاد لا شكّ تركت المواطن في حالة «اضطرابات ما بعد الصدمة»، لا سيّما بسبب تزامن الأزمات، من انفجار بيروت الدامي، إلى الانهيار المالي، وجائحة كوفيد-19. وأردفت: «بالإضافة إلى الضغط النفسي المزمن ظهرت تروما الانفجار، الذي أثر بكل لبناني ولو بنسب متفاوتة بحسب الخسائر. ونتج عن ذلك حالات توتر وقلق واكتئاب، كلها انعكست على كافة الأعمار، وطالت على وجه الخصوص الأطفال والمراهقين».
ولفتت المعالجة النفسية إلى ظهور علامات لم تكن بارزة في السابق، كازدياد العنف والعصبية المفرطة والعدوانية التي تنتج عن اضطرابات بسبب عدم الشعور بالأمان.
دراسة: كلفة غذاء عائلة لبنانية تساوي 5 أضعاف الحد الأدنى للأجور
يسخّر اللبناني «مقوّماته الدفاعية» كي يحافظ على رباطة جأشه وعلى صحته النفسية؛ وهنا ترى سعاده أنّ هناك أشخاصا قد يظهر عليهم الانهيار والتعب النفسي والاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق وغيرها من الحالات، فيما البعض يركّز على اعتماد آلياته الدفاعية، ونكران الواقع إحدى أدوات هذه الآليات.
وفيما لا توجد حتى الساعة إحصاءات دقيقة لعدد المرضى الذين يتناولون أدوية لمعالجة الأمراض النفسية والعقلية، لفتت سعاده إلى أنّ نسبة الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى لا يُستهان بها، مشيرة إلى أنّ الكثير قد لا يلجأون إلى الطبيب لاستشارته حول الأدوية المطلوبة، محذّرة من مغبة ذلك، وما ينتج عنه من حالات إدمان ومشاكل خطيرة أخرى.
وأكدت أنّ الاستشارة النفسية ضرورية للكثيرين بسبب ما عانوه في الآونة الأخيرة؛ وبناءً عليه، ناشدت الدولة اللنبانية بتأمين استشارات ومتابعة نفسية لمعالجة اضطرابات ما بعد الصدمة والانهيار الاجتماعي والاقتصادي. ودعت المواطنين إلى ضرورة ممارسة الرياضة والمشي، ونصحتهم بضرورة الحفاظ على نظام غذائي صحي، والالتزام بالساعات الضرورية للنوم، والعودة إلى الأرض للحصول على السلام الداخلي، كم دعتهم إلى الصلاة والتأمل.
وأوضحت أنّه يتوجّب على كل مواطن أن يبحث عن الأمور التي تعزّز بداخله حب الحياة والنظر إليها بشغف، بحسب ميوله. كما نصحت المراهقين بمتابعة الأنشطة التي يحبونها وأن يعززوا تواجدهم في الطبيعة.
تحيط بلبنان اليوم تعقيدات بالجملة، لناحية تعثر تشكيل الحكومة، وفساد أحزاب السلطة، واستخدام فائض القوة لدى بعضها، واحتكار الموارد المعيشية من بعضها الآخر، تاركة المواطن عاجزاً وغارقاً وحده في حفرة الأزمات، آملاً أن يرفع يوماً راية الفرج وأن تقوم بيروت من تحت الردم.