تونس: يمكن الجزم بأنّ نجاح الرئيس التونسي قيس سعيّد في كسب ودّ أعداد كبيرة من التونسيين الذين باركوا تفعيل الفصل 80، جاء بسبب القرف من صورة «الفساد» التي طبعت حكومة هشام المشيشي، بل يراهن الرئيس التونسي على فتح الملفات «النائمة» والذهاب بعيدًا في هذه «الحرب».
لإلقاء الضوء على هذا الملف، التقت «المجلّة» بعضو المكتب السياسي للتيار الديمقراطي، وعضو مجلس نواب الشعب عن دائرة تونس-2، ومساعد مقرر اللجنة المالية بالبرلمان، هشام عجبوني، وهنا نص الحوار:
* الصورة البادية حاليا، أنّ الفساد استشرى في البلاد، أكثر ممّا كان قبل 14 يناير 2011، كيف ترى الأمر؟
- بعد عشر سنوات من «الثورة»، الشباب خاصّة، لم ينقطع عن ترديد الشعارات التي رفعها قبلها، في وجه الجماعات المتنفذّة في البلاد، ليكون اليقين: تخلّص الشعب من مافيات، ليجد أمامه مافيات جديدة. حين لم تكن هناك أيّ محاسبة حقيقية وجديّة، دون أن ننسى تهميش مسار العدالة الانتقالي.
لم تعمل حركة النهضة الفائزة في انتخابات 2011 على قطيعة مع منظومة الفساد، بل على العكس، سعت إلى إعادة إنشاء منظومة شبيهة، بكل ممارساتها (محسوبية، زبونية، تعيينات بالولاءات، فساد مالي، شراء ذمم، تحالف مع اللولبيات الاقتصادية النافذة، اختراق لكل مؤسسات الدولة، تطويع القضاء والإعلام....) بهدف السيطرة على السلطة من خلالها. ممّا ساهم في استشراء الفساد بعد 14 يناير (كانون الثاني).
* جميع رؤساء الحكومة أقسموا عند نيل الثقة على محاربة الفساد، كيف ترى أداء كل واحد؟
- باستثناء حكومة إلياس الفخفاخ التي رفعت شعار الدولة القوية والعادلة، وكانت جادة في مكافحة الفساد وشرعت في فتح بعض الملفات الثقيلة وذات الوزن كبير، بل انطلقت من أحد أهمّ الملفّات على الإطلاق، لا حكومة أخرى كانت جادّة أو ملكت شجاعة الاقتراب. فقط، عمدت هذه الحكومات إلى إيقاف البعض من باب الاستعراض، لا غير.
يمكنني الجزم دون أدنى ترّدد أن الأحزاب التي قبلت المال الفاسد، سواء من داخل البلاد أو خارجها، ولجأت إلى توظيف المجتمع المدني وعلى الأخصّ جمعيات «العمل الخيري»، وسعت لتطويع وسائل الإعلام، يستحيل أن تقاوم الفساد عند وصولها للسلطة. الشعب التونسي لا يزال يذكر البيان الذي أصدره المكتب التنفيذي لحركة النهضة، تنديدا بما تمّ اعتباره «تحريضا على رأس المال الوطني»، بمجرّد فتح كلّ من الوزيرين في حكومة إلياس الفخفاخ، محمد عبو وغازي الشواشي أحد أهمّ ملفّات الفساد في البلاد.
حكومة الفخفاخ هي الوحيدة التي أذنت بالتحقيق في شبهات طالت وزراء من داخلها. كما تولّت لأول مرّة في تاريخ تونس، نشر تقارير الهيئات الرقابية للعموم.
* التصق الفساد أو عدم مقاومة الفساد بصورة حكومة المشيشي، وأدّى إلى تراجع شعبيتها، كيف ترى الأمر؟
- حكومة المشيشي وُلدت ميّتة ولم تكن لديها شعبية حتى تتراجع. حزامها السياسي المتكوّن أساسا من حركة النهضة وقلب تونس، متورّط في الفساد وبالتالي لم يكن بوسعها أو في رغبتها أن تفعل شيئا. دليل ذلك تقديم قانون سُمّي «قانون الإنعاش وتسوية مخالفات الصّرف»، جاء على مقاس نبيل القروي (رئيس قلب تونس)، ومموّلي قلب تونس وحركة النهضة، حيث تضمّن عفوا عن جرائم الصّرف وعفوا جبائيا وعفوا على مسك النقد (amnistie cash) وعلى جرائم غسيل الأموال.
كذلك ألغى هشام المشيشي «وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد» التي أشرف عليها القيادي في التيّار محمد عبو في حكومة الفخفاخ. كما تمّ إيقاف التحقيق في كثير من الملفّات التي تمّ فتحها زمن حكومة الفخفاخ.
* منذ تفعيل الفصل 80، تمّ احياء كثير من قضايا الفساد، ما هو رأيك؟
- في حقيقة الأمر وإلى حد هذه اللحظة لم نر فتحا لملفات فساد كبرى، وكل ما رأيناه هو تحريك القضاء للملفات المتعلقة ببعض النواب والسياسيين التي كانت في رفوف المحاكم.
هذا يطرح كثيرا من التساؤلات حول استقلالية السلطة القضائية، وأهمّها: لماذا لم يتحرّك القضاء قبل 25 يوليو (تموز)؟ ولماذا وقعت التغطية على هذه الملفات؟ لماذا تمتّع النواب والسياسيون والأحزاب المعنيّون بحماية قضائية؟
نحن ننتظر نسقا أعلى بكثير على مستوى فتح ملفات الفساد السياسي أساسا حتى تتم تنقية الحياة السياسية، كما أطالب بإلغاء العطلة القضائية بالنسبة للقضاة المتعهّدين بقضايا الفساد المالي وقضايا الإرهاب حتى يتمّ تسريع البتّ في هذه الملفات.
* إحدى الملفات التي تعهّد بها الرئيس قيس سعيّد هو ملفّ الفساد، وخاصّة قضيّة 406 رجال أعمال، ما هو موقفك؟
- رئيس الجمهورية اقترح إبرام صلح جزائي مع «رجال الأعمال» المتورطين في عمليات فساد مالي، في اعتماد على تقرير جيّد أنجزه الراحل عبد الفتاح عمر رئيس لجنة تقصّي الحقائق.
إلى حد هذه اللحظة لا نعرف مآلات هذه الملفات، بل يبدو أن المعنيين وقع ابتزازهم من الأحزاب السياسية. أساسا حركة النهضة ونداء تونس وتفرّعاته، مقابل محاولة قبر القضايا وتوفير الحماية.
* هل الفساد قدر تونس؟
- لا طبعا... الديمقراطية والفساد خطان متنافران لا يتقاطعان.
في حقيقة الأمر، تونس انتقلت من دكتاتورية فاسدة إلى شبه ديمقراطية فاسدة. والاثنتان لا تختلفان عن بعضهما البعض في مستوى النتيجة.
لا يمكن إرساء دولة قانون ومؤسسات، ولا يمكن أن تكون هنالك تنمية وعدالة اجتماعية وازدهار اقتصادي في ظل استشراء الفساد وفي ظل اقتصاد ريعي تكون فيه السيطرة على ثروات البلاد بأيدي فئة قليلة تحظى بحماية سياسية وقضائية.
قد يمثّل ما حدث يوم 25 يوليو فرصة كبيرة للتحرّر من السلطة السياسية الفاسدة وتحرير سلطة القضاء من قبضتها، وتحصين المشهد السياسي من الفساد، عبر قضاء قوي وناجع وناجز، وعبر بناء مؤسسات قوية وغير مخترقة من أحزاب سياسية أو بالأحرى عصابات سياسية، وعبر الاستثمار في وعي الناخبين.