تتابع القوى الغربية الكبرى بنوع من القلق والتوجس كيف أن قواعد القانون الدولي التي صاغت هي أسسها العريضة بشكل متدرج حسب تطور مصالحها ومطامعها منذ معاهدة ويستفاليا سنة 1648 تتعرض لانتقادات بل ولهجمات عديدة من طرف قوى دولية أخرى صاعدة أو متمردة تسعى إلى الإسهام في وضع نظام عالمي جديد يعكس تنامي قوتها ونفوذها، ويراعي مصالحها ويتجاوب مع طموحاتها.
تستنفر هذه المتابعة كافة الأجهزة السياسية والدبلوماسية والمخابراتية والإعلامية التي تحاول مواكبة تسارع الأحداث العالمية وتنوعها وتشعبها، وتعمل على قياس مدى التحديات التي تشكلها، والأزمات التي قد تسببها على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعلمية والتكنولوجية أيضاً.
ولهذا، فإن كافة هذه الدول لديها استراتيجيات وطنية للاستعلامات والتحرك، بل وللتدخل عند الضرورة يتم وفقا لحيثياتها تنسيق نشاط وعمل كافة الأجهزة الأمنية والدبلوماسية بمشاركة كافة الفعاليات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية من أجل:
* استباق أي تهديد لأمن البلاد ومصالحها العليا، وخاصة التهديدات ذات الطبيعة الإرهابية والعمل على وأدها في مهدها.
* تأمين الأبحاث العلمية والابتكارات التكنولوجية الحساسة، وكذا العقول العاملة في هذه المجالات.
* حماية المعطيات الأمنية والسياسية والاقتصادية السرية للبلاد.
* دعم مصالح الشركات الوطنية واستثماراتها الخارجية.
* مساعدة دوائر القرار السياسي لاتخاذ قرارات سليمة مبنية على معطيات صحيحة ومعلومات دقيقة.
لا شك أن تتبع تنفيذ هذه السياسات والاستراتيجيات صعب للغاية نظرا للسرية التي تكتنفها في أغلب الأحيان، ولكن من خلال ما هو متاح إعلاميا وأكاديميا أو من خلال المعلومات المستقاة مباشرة يمكن الاستنتاج بأن الأهداف المتوخاة منها لا تقف عند حدود الدفاع عن مصالح البلدان المعنية، وإنما تسعى جاهدة إلى تحييد بل وتقويض المخاطر المحتملة في مهدها.
إن العالم الراهن يمر بمخاض عسير، تتجاذبه رغبات متناقضة وأحيانا متضاربة بين قوى مصرة على التشبث بهيمنتها وقيادتها، وتأمين استمرار الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي تكرست بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ وبين قوى مضادة استطاعت فرض وجودها في بعض المجالات، وترغب في صياغة نظام عالمي جديد يراعي موازين القوى السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الجديدة، ويعترف لها بأهمية وحيوية دورها الدولي، وهذا ما تسعى إليه على الصعيد الكوني دول مثل الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، وعلى الصعيد الجهوي دول كثيرة كل في مجالها الإقليمي مثل سعي تركيا وإيران في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
فأين العرب من كل هذه الأطماع والطموحات؟
في غياب رؤية عربية مشتركة وتضامن حقيقي، واستحالة تحقيقهما في ضوء تآكل الدور الذي كان مأمولا من جامعة الدول العربية، وتفضيل العديد من الدول التحرك منفردة أو بشكل ثنائي على أبعد تقدير، تحول العالم العربي إما إلى ساحة لصراعات القوى الدولية والإقليمية أو مسرح لتصفية الحسابات فيما بينها، واستعراض توازن القوة الذي يراعي مصالح كل قوة منها تفاديا لأي نزاع مفتوح غير مرغوب فيه؛ ناهيك عن كونه أحد أكبر أسواق تصريف العتاد العسكري والأمني، وتأمين الصفقات لكبريات شركاتها في مجال إعادة الإعمار والبناء التي تعرفها بلدان عربية عديدة بعد الدمار الهائل الذي لحق بها جراء الصراعات داخلها وحولها.
إن هذا الوضع المتردي للعالم العربي جعل قضاياه تغدو ثانوية في لقاءات زعماء الدول الكبرى، وتناقش بمنطق التجزئة داخل البلد الواحد كما هو الشأن بالنسبة للوضع في سوريا، حيث لا يجري البحث عن حل شامل للأزمة هناك، وإنما تتم معالجة نقاط التماس والاحتكاك بين مناطق نفوذ القوى الدولية والإقليمية نقطة بنقطة.
عند سؤال دبلوماسيين غربيين عما لديهم من معلومات حول مصير الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط خلال اللقاء الأخير بين الرئيسين الروسي والأميركي رددوا بسخرية أن موضوع سجن المعارض الروسي أليكسي نفالني كان أكثر أهمية من قضايا الشرق الأوسط مجتمعة.
واقع مرير، وسخرية.. أمر يتندر به الدبلوماسيون الغربيون. فهل يعي العرب مأساتهم؟