باكو: مع تزايد الحلقات المُحكمة والمقيدة للتحركات الإيرانية عالميا وإقليميا مع تزايد تهديداتها وتنوع خطرها وتعدد تدخلاتها، أعادت طهران البحث في اوراقها القديمة وتحالفاتها السابقة وتحركاتها الهادئة، لعلها تجد من بينها من يمنحها طوقا جديدا للنجاة أو طريقا آخر للخروج من بوتقة الحصار الذي يزداد إحكاما يوما بعد يوم. فمع الضغوط الأميركية في ظل إدارة جو بايدن المصممة على امتثال طهران للقرارات الدولية أو الخضوع لمزيد من الإجراءات العقابية، هذا من ناحية. ومع المواقف الأوروبية التي ازدادت شدة وصرامة في التعامل مع خلاياها النائمة والمهددة لأمن مجتمعاتها من ناحية أخرى، ومع تزايد الضغوط الداخلية بسبب تردى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي حركت الشارع الإيراني مطالبا بحقوقه وحرياته في مواجهة نظام لا يزال يخوض مغامرات خارجية على حساب شعبه الذى تزداد ظروفه بؤسا وفقرا بفعل تفشي جائحة كوفيد-19 من ناحية ثالثة. توجه النظام الإيراني فى البحث عن مخارج لأزماته أو أوراق لإدارة ملفاته، لعل ذلك يخفف من وطأة صراع الداخل وحصار الخارج، فكان التوجه نحو منطقة البلقان كنقطة للتحرك تمنحه فرصة لمناورة الدول الأوروبية من ناحية، ومصدرا لرفد اقتصادها بعوائد من ناحية أخرى، عبر أذرعها العاملة في دول هذه المنطقة التي تحتل موقعا مهما في استراتيجيتها الخارجية.
وفي ضوء ذلك يستعرض هذا التقرير الوجود الإيراني في البلقان من خلال محورين على النحو الآتي:
البلقان... منطقة جيواستراتيجية في الأجندة الإيرانية
تشغل منطقة البلقان حيزا مهما في الاستراتيجية الإيرانية الهادفة إلى التمدد عالميا لكسب مزيد من أوراق الضغط في إدارة ملفاتها المعقدة إقليميا ودوليا، وتكتسب هذه المنطقة أهميتها الجيواسترتيجية من جانبين:
الأول: أن المنطقة تعد بمثابة ساحة ملائمة لتوجهات قادة دولة الملالي التي أسست منذ ما جرى عام 1979 لحكم ولاية الفقيه القائم على أن الدولة الإيرانية دولة شيعية، بمعنى أنها دولة طائفية. ومن ثم تمارس سياسة خارجية قائمة على دعم الطوائف وتعزيز التباينات بين المواطنين بهدف تشجيعهم على الخروج عن الولاء للدول التي تُوجد فيها. ولعل ما حدث في لبنان منذ تأسيس ميليشيات حزب الله بأجندته الخاصة ومحاولته للهيمنة على القرار السياسي اللبناني يمثل نموذجا عمليا لهذا التوجه الذي يتكرر فيما يجرى في العراق واليمن اليوم. وتسعى طهران إلى تطبيقه في منطقة البلقان التي تتنازعها التباينات العرقية والدينية والطائفية بما يجعل منها ساحة مناسبة لتحركات الدولة الإيرانية لكسب وجود جديد لها، من خلال نشرها للتشيع الإيراني وفقا للظروف اللوجستية، حيث يعزز من وجودها الأغلبية المسلمة في بعض دول المنطقة كما هو الحال في ألبانيا وكوسوفا والبوسنة والهرسك، أو وجود الأقليات المسلمة في بعض دولها الأخرى مثل بلغاريا، حيث الأقلية البلغارية المعروفة باسم البوماق، وهم بلغار محمديون، اعتنقوا الإسلام.
العراق يطلب من إيران الضغط على الميليشيات لوقف هجماتها
الثاني:تمثل المنطقة منصة لوجستية هادئة لطهران للتحرك بعيدا عن أعين وكالات الاستخبارات العالمية بصفة عامة والمحلية فى جمهوريات البلقان على وجه الخصوص بسبب تراخي الأمن وضعف المؤسسات، بما يُمكّن طهران من التواجد بالقرب من أوروبا، حيث تمثل هذه المنطقة بداية جسرا مهما لاختراق المجتمعات الأوروبية، وهو ما كشفه تقرير استخباراتي أميركي نشره موقع «ذي غلوب بوست»الأميركي وكتبه الباحثان كيريل أفراموف وروسلان طراد منذ ثلاث سنوات، كشف عن جهود إيرانية خفية، لتوسيع نفوذها في منطقة البلقان، حيث ورد فيه أن «عمليات التضليل المعلوماتية الإيرانية العالمية لاقت اهتماماً كبيراً في أجهزة المخابرات الدولية ووسائل الإعلام، لكن وجودها في البلقان لا يزال خارج نطاق التركيز، كما كشف عن قيام طهران بتأسيس قاعدة استخباراتية لعملياته الإرهابية في دول البلقان، بعدما فشلت جهوده السابقة في إنشاء محطات عملياتية وبيوت آمنة لتدبير هجمات من داخل الاتحاد الأوروبي»، وهو ما يعني أن الهدف الإيراني من التواجد في تلك المنطقة هو تحويلها إلى شوكة إرهابية في خاصرة أوروبا، التي شهدت خلال الآونة الأخيرة مواقف رافضة للتحركات الإيرانية المهددة لأمن مجتمعاتها.
تحركات إيرانية عبر آليات متعددة
رغم ما قد ينظر إليه البعض على أن الوجود الإيراني في منطقة البلقان كان وجودا مستترا، أو متخفيا تحت غطاء ديني من خلال مساندة المسلمين البوسنيين في حربهم ضد الصرب والكروات بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي في تسعينات القرن المنصرم، وإنما كان الوجود الإيراني وجودا مخططا تخطيطا دقيقا، مستغلة الظروف التي شهدتها المنطقة عقب هذا التفكك، حيث قدمت كل الدعم والمساندة للمسلمين البوسنيين كما صرح بذلك الجنرال الإيراني سعيد قاسمي وبشكل صريح بأن: «الحرس الثوري استغل حرب البوسنة والهرسك التي اندلعت من مارس (آذار) 1992 لاختراق منطقة البلقان وتحويلها إلى قاعدة للتغلغل الإيراني... فقد تم حشد المقاتلين من بلدان عدة ممن يدينون بالولاء لمؤسس الجمهورية الإسلامية المرشد الأعلى الإمام الخميني... ومن كان يحب الإمام جاء إلى هنا من تركيا وألمانيا وفرنسا وتونس وغيرها». إذ يذكر أنطهران ضخت الأموال والأسلحة والعنصر البشري للقتال إلى جانب البوسنيين، مستخدمة كغطاء لذلك العمل الخيري ومشاركة الهلال الأحمر الإيراني في عمليات إغاثة المناطق المنكوبة والمتضررين من النزاع المسلح والمهجرين من قراهم ومدنهم، لترسيخ النفوذ الإيراني في البلقان. وفي أعقاب إبرام اتفاق دايتون للسلام في البوسنة عام 1995 الذي مهد لإنهاء الحرب الأهلية وانسحاب الجيش الصربي، افتتحت إيران سفارة ضخمة لها في العاصمة سراييفو.
ومنذ ذلك الحين، يشهد الوجود الإيراني تزايدا في هذه المنطقة من خلال اعتمادها على ذراعها الرئيسية المتمثلة في حزب الله اللبناني، وهو ما أشارت إليه الدراسة التي أجراها المركز الدنماركي Dergiparkبعنوان «منطقة البلقان كهدف جديد للسياسة التوسعية الإيرانية»، حيث ورد فيها أن «المحرك الأقوى يتمثل في الحدود الهشة والفساد المستشري في أجهزة ومؤسسات دول المنطقة نتيجة الصراعات المسلحة التي عصفت بالمنطقة والتي جعلتها ضعيفة وجاذبة للأجندة الإيرانية وذراعها حزب الله... وأن التوسع الدبلوماسي الإيراني في المنطقة ليس سوى جزء من الاستراتيجية المستخدمة لتحقيق التوازن أمام ضغوط المجتمع الدولي ضد البرنامج النووي، كما أنه وفي الوقت نفسه لممارسة التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية حيث أقليات عرقية ودينية متعددة على امتداد دول المنطقة».
ورغم مرور ما يزيد على ربع قرن من توقف الحرب التي استغلتها إيران للتواجد في تلك المنطقة الجيواستراتيجية، لا تزال السياسة الإيرانية حريصة على الاستمرار في الخط ذاته لتكثيف تواجدها في هذه المنطقة، مع توسيع هذا التواجد ليغطي دول المنطقة برمتها من ناحية، ويشمل كافة المجالات من ناحية أخرى، وهو ما أكده الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني خلال لقائه مع نظيره الصربي توميسلاف نيكوليج في العاصمة الإيرانية طهران، وذلك بقوله: «طهران وبلغراد لديهما إمكانات كبيرة لتوسيع التعاون لمواجهة انتشار العنف والإرهاب في المنطقة وحول العالم»، ليعكس ذلك نجاحا للدبلوماسية الإيرانية في إقناع الصرب لتجاوز الآثار والآلام التي سببها التدخل الإيراني في الحرب الأهلية لمصلحة الطرف البوسني. وفي السياق ذاته، جاءت جولة وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف في مارس (آذار) 2018 في أربع دول بلقانية استهلها من صربيا، ثم بلغاريا وكرواتيا، واختتمها بالبوسنة والهرسك، هدفت على حد تعبيره إلى: «كسر العزلة المفروضة على إيران، وكسب جانب من التحالفات شرق أوروبا لمصلحة بلاده، إلى جانب إظهار إيران في موقع الضحية حول العالم».
وإلى جانب هذه اللقاءات والزيارات الرسمية وغير الرسمية، حرصت طهران على توظيف كثير من الآليات لترسيخ وجودها في تلك المنطقة، ومن أبرز ما تقوم به إيران في هذا الخصوص ما يأتي:
- إنشاء العديد من المؤسسات الدينية، منها على سبيل المثال معهد الفردوسي للدراسات الإيرانية، في العاصمة الألبانية تيرانا، ومؤسسة الرومي، وجمعية نساء. وفي بلغاريا هيئة كوثر، التي تشرف عليها السفارة الإيرانية، وهي تقيم دورات ثقافية لتعليم اللغتين العربية والفارسية، ومؤسسة القرآن في كوسوفا والتي تأسست عام 2002، كأحد أكثر الهيئات الإيرانية فعالية ونشاطاً حيث تقدم منحاً للدراسة الدينية في إيران.
- تأسيس الكثير من المواقع الإلكترونية باللغات المحلية لدول المنطقة، مع سعيها إلى المساهمة في بعض القنوات البلقانية مثل قناة البلقان التي تم إطلاقها في 2017، وقناة IRIBباللغة البوسنية، وتهدف إلى نشر الثقافة والمعارف عن إيران، مع إصدار الكتب والنشرات باللغات المحلية عن إيران ودورها السياسي في العالم، ومن أمثلة ذلك ما قامت به مؤسسة الثقافة والعلوم (GNOSA) التي تم تأسيسها في مقدونيا، حيث تولت نشر كثير من الكتب والمقالات لمؤلفين شيعة إيرانيين.
- تأسيس الجمعيات والروابط الثقافية والدينية الإيرانية في كل دول البلقان، مع تفعيل دور الملحقيات الثقافية من خلال تنظيم فعاليات ثقافية وفنية وتشكيلية، وندوات لعلماء وأساتذة ومسؤولين إيرانيين وحلقات دراسية حول إيران ويشارك فيها المستشرقون في هذه الدول.
- تنظيم مهرجانات للسينما الإيرانية، يُدعى إليها مخرجون وفنانون وصحافيون في محاولة لتشكيل لوبي محلي يروج لإيران في الأوساط الإعلامية والثقافية والفنية. فعلى سبيل المثال تقيم إيران سنويا في العاصمة البلغارية صوفيا أسبوعاً للسينما الإيرانية، تعرض فيه أفلاماً من تمويل وزارة الثقافة والإرشاد الإيرانية.
- الاعتماد على مواطنين محليين وبعض المقيمين ممن يتبعون إيران مذهبيا ويحملون جنسيات هذه الدول ويتقنون لغاتها وهم متزوجون من أبنائها مما يسهل عليهم التحرك اللوجيستي وإقامة علاقات اجتماعية.
نهاية القول، إن ما بدا من الدول الأوروبية مؤخرا بشأن مواجهة الإرهاب الإيراني عبر خلاياه النائمة في المجتمعات الأوروبية والتي تكشفت مخططاتها المهددة لأمن هذه المجتمعات واستقرارها، دفع طهران إلى إعادة ترتيب أوراقها في منطقة البلقان التي تعد معبر الولوج إلى شرق ووسط أوروبا، وهو ما يمكنها من تعظيم أوراق الضغط على الدول الأوروبية في ملفاتها الحيوية وعلى رأسها ملفها النووي وتدخلاتها في شؤون المنطقة العربية والذى يهدد المصالح الأوروبية.
صحيح أن الأمر لم يكن جديدا، إذ سبق أن كشفت إذاعة «صوت أوروبا»في تقرير لها عن أن حزب الله تمكن من خلال الدعم المالي واللوجيستي الإيراني، من زراعة خلايا في كثير من دول البلقان، لا سيما بلغاريا والبوسنة، وهو التقرير الذى لم يحظ بالاهتمام الإعلامي آنذاك، إلا أنه من الصحيح أيضا أن تزايد المخاطر والتهديدات الإيرانية للأمن الأوروبي عبر أذرعها المنتشرة في الجوار الأوروبي بعد تضييق الخناق على خلاياها النائمة في المجتمعات الأوروبية، أعاد منطقة البلقان إلى واجهة المشهد اليوم، بما يستوجب العمل على مسارين: الأول: تسليط الضوء على التحركات الاستخباراتية الإيرانية وذراعها حزب الله داخل بلدان منطقة البلقان لمواجهة التهديدات الإيرانية التي ستعاني منها الدول الأوروبية ما لم تمتد صحوتها ضد الإرهاب الإيراني في تلك المنطقة التي تمثل جسرا للاختراق الإيراني إلى قلب أوروبا سواء في الوقت الحالي أو عما قريب. الثاني، عرقلة التمدد الإيراني في تلك المنطقة، سواء عبر الاستفادة من توتر العلاقات الإيرانية مع بعض دول المنطقة على غرار ما هو قائم بين إيران وكوسوفا، إذ إن طهران كانت قد كثفت أنشطتها في هذا البلد عقب نهاية الحرب عام 1999، حيث فتحت عدة منظمات خيرية وثقافية إلى جانب المساجد والمدارس، إلا أن رفض طهران الاعتراف باستقلال كوسوفا بل ووصفها بأنها مشروع أميركي؛ نظرًا إلى إنشاء قاعدة عسكرية أميركية داخل أراضيها، خلق حالة من التوتر في العلاقات بين البلدين أدى إلى وقف أنشطة مؤسسات المجتمع المدني المرتبطة بإيران. ورغم أهمية هذا التوتر في عرقلة الوجود الإيراني في المنطقة، إلا أنه على الجانب الآخر ساهم عدم الاعتراف هذا في تعزيز العلاقات الإيرانية مع صربيا التي دخلت طورا مهما مكّن طهران من ناحية أخرى من ترسيخ وجودها في المنطقة، وهو ما يلقي بعبء المسؤولية على الاتحاد الأوروبي بدوله الـ27 أن تسلط الضوء على الخطر الذي يمثله التواجد الإيراني على أراضي دول البلقان.