قبل عام أرسل لي صديق كلمة رون لاودر (ابن مؤسِسة إمبراطورية ايستي لاودر لمستحضرات التجميل ورئيس المؤتمر اليهودي العالمي)، وهي الكلمة التي ألقاها بمناسبة الاحتفال السنوي لضحايا المحرقة النازية بحق اليهود، أو ما يعرف بالهولوكوست.
الاحتفال أقيم في أوشفيتز بيركاناو- أشهر معسكرات الإبادة- في العام الخامس والسبعين للذكرى.
خيمة كبيرة نصبت إلى جانب تلك المحرقة الأليمة لتستقبل الضيوف من ملوك وأمراء وسياسيين ورجال دين، ومن بقي حيا من الناجين رغم تقدمهم في العمر كما أبناء وأحفاد الذين قضوا في الإبادة.
كل شيء في هذا الاحتفال كان يذكر بالمجزرة الرهيبة. حتى الأضواء التي أنارت الخيمة وجزء من حائط الفرن الذي أحرق فيه مئات الآلاف من اليهود كانت باهتة وحزينة. كل شيء في هذا الاحتفال يعيدك إلى المأساة عن قصد ليذكر العالم بأن العمل يجب أن لا يتوقف يوما لضمان عدم تكرارها.
رون لاودر الثمانيني كما باقي الخطباء في هذا الاحتفال الحزين حث العالم على العمل للحد من العداء المتنامي للسامية في الغرب خاصة. استعاد لاودر في خطابه المحطات التي أدت إلى المأساة وذكّر بتغاضي العالم عن اضطهاد اليهود بمن فيهم الولايات المتحدة الأميركية التي منعت منذ العام 1938 دخول أي يهودي إلى أراضيها. تغاضي العالم الغربي عن هذا الاضطهاد الممنهج وتجاهلهم الإشارات الآتية من ألمانيا النازية عن حتمية المجزرة القادمة- يقول لاودر- شجع النازيون على تنفيذ الهولوكوست.
في نهاية الخطاب المؤثر والذي يحاكي حجم المأساة ذكّر لاودر بقصة ناجٍ شاهد من محاكمة إيخمان. تحدث الناجي عن لحظة وصوله وزوجته وابنته للمعتقل. انتظروا بالصف حتى أصبحوا وجها لوجه مع طبيب في يده مصيرهم، إن أشار بيده إلى الشخص الواقف أمامه الاتجاه يمينا يعني أنه من مجموعة الناس الذين سيعملون بالأشغال الشاقة لصالح الرايخ. أما إذا أشار بيده يسارا فهذا يعني الإبادة. في اللحظة التي انفصل فيها عن زوجته وابنته. ظل يلاحق بنظراته عائلته الصغيرة التي بدأت تبتعد وسط فوضى عارمة لهذا المكان النتن. كان المعطف الأحمر الذي كانت ترتديه ابنته والذي كان اشتراه لها هو وزوجته قبل اعتقالهم هو الرابط الوحيد بينهم حتى اختفتا عن ناظريه. صمت غابريال باخ الشاهد الناجي. وعندما طلب منهم المدعي العام متابعة الكلام لم يستطع.
بعد المحاكمة بسنين تكلم باخ عن سبب عدم قدرته على متابعة الكلام. يقول كلما رأى أينما وجد طفلة ترتدي معطفا أحمر لا يستطيع متابعة الكلام.
أنهى رون لاودر خطابه وسط دموع الموجودين مجددا للتذكير بالمعاناة التي تعرض لها شعبه وبما يليق بتلك المأساة احتراما للذين أحرقوا.
دعت بعض الأحزاب في لبنان الاحتفال بذكرى انفجار المرفأ، وتداول ناشطون بعض مقاطع فيديو لأشخاص يتجهون إلى مركز الاحتفال وسط رقص وهرج ومرج وأغانٍ حزبية.
4 أغسطس (آب) ليس أبدا في مستوى إبادة اليهود، ولكن على المستوى اللبناني هو يرقى لمأساة، حيث أكثر من 200 شخص انتهت حياتهم بسبب إجرام وإهمال المسؤولين في لبنان.
تستحق هذه الذكرى وناسها الذين اختفوا وأقاربهم الذين ما زالوا يعيشون قسوة الفراق الظالم أكثر من أناشيد حزبية تشيد بـ«القائد»،وأكثر من شعارات يطلقها لن تتحقق، وأكثر من مهرجان انتخابي، وأكثر من الاستثمار في المأساة.
ولكن هذا الفرق كل الفرق بين أقدار شعوب تحترم آلامها وأحزانها وقتلاها وبين شعوب تحول كل مناسبة إلى احتفال لتشيد بحكمة زعيمها وتفوقه على خصومه من دون أي مردود يذكر على جمهوره.