فجأة كثرت في الآونة الأخيرة مقالات أو حتى تعليقات تحذّر من ضياع هوية آخر المدن المشرقية، بيروت، وتقترح حلولاً لإنقاذها.
أما كيف يعرّف هؤلاء هوية المدينة؟ فهي تعددية ومتنوعة ومشرقية بفضل تواجد أشخاص وعائلات أتتها من مختلف الأقطار المجاورة منذ القرن الماضي هربا غالبا من اضطهاد تعرضوا له في بلدانهم. من فلسطين ومصر والعراق وسوريا وغيرها من البلاد. وجد هؤلاء المهاجرون، خاصة من استطاع منهم سبيلا للهجرة، في بيروت ملجأ لهم.
يسرد النوستالجيون عن تلك الحقبة القصيرة نسبيا، في مقالاتهم أو في ندواتهم قصصا مؤثرة وجميلة عن عائلات متعددة الجذور ومتشعبة الأصول أغنت المدينة البيروتية بثقافتها وعاداتها وتقاليدها حتى يكاد يشعر القارئ أو المستمع أنه في مدينة أخرى غير تلك التي شهدت أحداثا دموية على مدى الأربعين عاما الماضية، ليستدرك في نهاية المطاف أن تلك الروايات لا تعبّر عن تاريخ المدينة التي لم تَبنِ أصلا على هذه الهجرة ما يؤسس على شيء مستدام كحال الولايات المتحدة مثلا، التي قامت على المهاجرين، إنما حالة عاطفية خاصة لأصحاب تلك النظرية يحاولون تعميمها كحالة عامة لبنانية.
إقرأ لنفس الكاتب:
الانفصال عن الواقع
هذه الصور والحكايات عن التعايش والتنوع والتعددية لا يمكن أن يُركن إليها باعتبارها تطوراً تاريخياً للمدينة. فما يردده أكثر من كاتب ومحلل وسياسي ورجل دين يتلاقى مع الأزمة الاقتصادية والسياسية غير المسبوقة التي يتعرض لها البلد، وتبدو تلك السرديات أقرب إلى محاولة جرّ استعطاف الدول الغربية وحثّها على إنقاذ ما يعتبرونه آخر معاقل التعددية والتنوع، منها إلى سرد تاريخي.
فمدينة بيروت كانت الوجهة الوحيدة أصلا، وفي بعض الأحيان المؤقتة، لهؤلاء الوافدين من الأقطار المجاورة، الذين وإن أعطوا لفترة صورة كوزموبوليتانية للمدينة إلا أنها ما لبثت أن اختفت مع الأزمات التي أطلت برأسها منذ ستينات القرن الماضي. فاحتل العسكر أماكن المثقفين في مقاهي شارع الحمرا.
أما الأهم فلم يكن بالإمكان أن يبقى لبنان هذا البلد الضعيف بمنأى عن التحولات الديكتاتورية لأنظمة المنطقة.
* وإن كان لا بد من الإشارة إلى الأزمات والحروب التي عرفها لبنان وعرفتها مدينة بيروت في الأعوام المنصرمة فالأهم أن لبنان لا يستطيع أن يعيش في وهم أنه همزة وصل بين الشرق والغرب، ووهم أنه بلد التعايش، أو حتى وهم أن مدينة بيروت هي آخر المدن المشرقية التي يجب أن يحافظ العالم أجمع عليها
ثم إن هذه الروايات التي تتناولها بعض «النخب الثقافية» إنما هي روايات محصورة بالطبقة البورجوازية والتي لا تعبر عن وجه المدينة الآخر. فقصص شارع الحمرا ورواده من الشعراء والسياسيين المنفيين وأصحاب الصحف والمصارف، وهي ظرفية، لا تلغي واقع الصراع المذهبي لمنطقة البسطة مع المزرعة مثلا، والذي اختبره أجدادنا، ولا تختصر معاناة الأطراف وأحزمة البؤس التي نشأت حول المدينة والتي تعبر عن فشل الدولة في رعاية أبنائها والوافدين إليها.
فشل الدولة في التأسيس والبناء على الوافدين إليها من البلدان المجاورة والاستفادة منهم، أكثر ما يعبر عنه هو قصة المصرفي الفلسطيني الأرثوذكسي صاحب النجاحات العالمية يوسف بيدس باني إمبراطورية مالية مع بنك إنترا، ترامت أطرافها حتى نيويورك والذي تآمرت عليه الدولة اللبنانية والطبقة السياسية فيه من رئيس الجمهورية إلى نائب حاكم مصرف لبنان إلى أجهزة المخابرات الدولة، مما أدى إلى إفلاس مصرفه- المليء أصلا- غير آبهة بالضرر الذي خلفه ذلك على الاقتصاد اللبناني وقطاعه المصرفي. وهذا أفضل تعبير عن رفض الدولة ومن يمثلها مبدأ التنوع والتعددية، خاصة إن كانت فلسطينية وأرثوذكسية.
وهناك أكثر. تلك المدينة تاريخها وتطورها وأفولها خاصة في المائة عام الأخيرة هي نتاج الصدف. فازدهار مرفأ بيروت هو نتاج نكبة 1948، وازدهار المصارف فيها هو حاجة بعض أموال الخليج الذي طفر مع اكتشاف البترول، إلى مخبأ آمن، أو تدفق رؤوس الأموال الهاربة من سوريا ومصر من موجة التأميم التي طالتها، وتنوع وغنى شارع الحمرا بكل ما حوى كان نتاج أفول شوارع الإسكندرية والشام وبغداد.
إقرأ لنفس الكاتب:
فيدرالية الطوائف
وإن كان لا بد من الإشارة إلى الأزمات والحروب التي عرفها لبنان وعرفتها مدينة بيروت في الأعوام المنصرمة على خلفيات هي أساسا على نقيض التعددية والتنوع الذي يحكي ويتباهى به البعض والذي لا يمت للفقاعة الثقافية خاصة شارع الحمرا بأي صلة، فالأهم أن لبنان لا يستطيع أن يعيش في الوهم. وهم أنه همزة وصل بين الشرق والغرب، ووهم أنه بلد التعايش، أو حتى وهم أن مدينة بيروت هي آخر المدن المشرقية التي يجب أن يحافظ العالم أجمع عليها.
وإن كان في الأمر من حقيقة فيما خص بيروت كمدينة تاريخية للتعدد والتعايش والتنوع فلا يجدر بنا السؤال: كيف لهويتها أن تصبح في خطر؟ ومن يتحمل مسؤولية هذا التحول في الهوية؟