التدخل الأجنبي الفاعل لحل الأزمات اللبنانية حصل بشكل قوي بعد مجازر الجبل عام 1860 حيث اجتمعت كل من فرنسا وبروسيا والمملكة المتحدة والنمسا والإمبراطورية العثمانية لإرساء نظام إداري وقضائي جديد يحول دون تكرار المجازر. واستطرادا عرف لبنان فورة عمرانية وتربوية واقتصادية تواصلت حتى الحرب العالمية الأولى.
التدخلات الأجنبية تتالت فصولا، إن كان على صعيد الصراع العسكري المسلح بين حزب الله وإسرائيل والذي أنتج في مرحلة سابقة تفاهم «نيسان» عام 1996، حيث ألزمت إسرائيل بعد استهداف المدنيين أو البنى التحتية للدولة اللبنانية، وبعد حرب «تموز» 2006، القرار 1701، الذي أوقف أعمال العنف القائمة بين الطرفين ونشر الجيش وقوات الأمم المتحدة على طل الشيط الأزرق وانسحاب مقاتلي حزب الله إلى ما بعد خط الليطاني.
هذا البعد الخارجي كان فاعلا أيضا عبر التاريخ في انتخابات الرئاسة اللبنانية. فمثلا انتخاب الرئيس فؤاد شهاب جاء نتيجة تفاهم أميركي مصري، لما كان للرئيس جمال عبد الناصر من تأثير على الفئة المسلمة اللبنانية، وللأميركيين «مونة» على المسيحيين.
في عام 1988 خيرهم المبعوث الأميركي ريتشارد مورفي بين انتخاب ميخائيل الضاهر أو الفوضى. فاختار أكثرية الموارنة الفوضى على مدى سنتين، قبل القبول بالعرض الأميركي السوري الذي أوصل إلياس الهراوي إلى سدة الرئاسة الأولى. ما فتح مرحلة الوصاية السورية.
فسوريا المولجة بالملف اللبناني وتعقيداته رسميا بعد دعمه ومشاركته الحلف العالمي بقيادة الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية عاصفة الصحراء أصبحت الناخب الأكثر تأثيرا في تحديد هوية الرئيس اللبناني مع هامش ضيق لتدخل الدول الإقليمية ودول الغرب لا سيما الولايات المتحدة.
الحرب الأهلية
عندما أصر الرئيس بشار الأسد التمديد للرئيس إميل لحود، تدخل العالم الغربي وأصدر القرار الأممي رقم 1559 ليعلن تأييده عملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية دون تدخل أو نفوذ أجنبي. حتى انتخاب الرئيس سليمان جاء بعد اتفاق اللبنانيين في الدوحة بعد أحداث دامية افتعلها حزب الله في عام 2008، وأدخلت لبنان في أزمة سياسية دامت قرابة الـ18 شهرا.
[caption id="attachment_55251051" align="alignleft" width="150"] سمير جعجع[/caption]
طبعا ما سبق لا ينفي دور البعد الداخلي للمكونات اللبنانية التي تسوق لأحد الأسماء تماما كما فعل ببراعة دولة الرئيس ميشال المر على مدى عقود حتى أطلق عليه لقب مهندس الرؤساء، من دون أن يحيد عن الظرف العام الذي كان يتحكم بالأجواء الانتخابية في أكثر من ظرف. فأبو إلياس مثلا خطط لإيصال إلياس سركيس إلى سدة الرئاسة عام 1976 في ظل احتداد الحرب الأهلية ودخول الأسد إلى لبنان، ومن ثم استنفر كل طاقاته لانتخاب الرئيس بشير الجميل عام 1982 في عز الاجتياح الإسرائيلي.
أما بعد اتفاق الطائف ومع نفي الجنرال عون وسجن الدكتور جعج ملأ وحده الفراغ المسيحي، وأصبح يهندس الانتخابات على أنواعها ويرعى المصالحات بين الرئيس لحود والرئيس الشهيد رفيق الحريري اللذين لم يكونا على انسجام، حتى بات الثابتة الرابعة فيما عرف بترويكا الحكم اللبناني.
لكل انتخابات رئاسية ظروف تختلف باختلاف الأوضاع الإقليمية الكثيرة التقلب، والانتخابات الرئاسية التي تطل على لبنان اليوم مثقلة بأحداث إقليمية كبيرة تتقدمها الحرب الأهلية السورية، والتي ستؤدي بطبيعة الحال إلى تراجع نفوذ الأسد في تحديد هوية الرئيس الآتي بمقابل بروز الدور الإيراني في هذا المجال، خاصة مع الانفتاح الأميركي عليها، وإدخالها شريكا أساسيا في حل أزمات المنطقة، بعد أن كانت وعلى مدى أعوام مصدرا لأغلب مشكلاتها.
[inset_right]بروز الدور الإيراني بعد تراجع نفوذ الأسد في تحديد هوية الرئيس اللبناني المقبل[/inset_right]
كما يجري الاستحقاق الرئاسي في جو من صراع سني - شيعي يلف المنطقة العربية بأكملها، وقد طال لبنان منذ اغتيال الرئيس الحريري، وتطور بشكل خطير بعد العمليات الانتحارية التي استهدفت مؤخرا المناطق الشيعية كرد على مشاركة حزب الله في الحرب السورية إلى جانب الأسد.
الإرهاب التكفيري
من جهة أخرى أدى بروز النشاطات العسكرية للمجموعات الإرهابية التي اعتبرتها الولايات المتحدة خطرا على أمنها القومي إلى تحويل الأنظار عما ارتكبه الرئيس السوري بحق شعبه والتي ترقى إلى جرائم حرب، والتركيز بالمقابل على محاربة الإرهاب التكفيري. ما جعل نظريا على الأقل قيام حلف يضم الولايات المتحدة وإيران وحزب الله والأسد وروسيا للتصدي لتلك الموجة. وما وضع تلقائيا حلفاء الولايات المتحدة بموقف صعب، فهم ضد الإرهاب ويحاربونه على أكثر من جبهة، ولكنهم على اقتناع أن بقاء الأسد سيزيد من تفاقم المشكلة، خاصة في مسألة الاحتقان المذهبي. الموقف الأميركي أعاد خلط الكثير من الأوراق، ودفع المنطقة إلى تحالفات جديدة بعضها معلن والبعض الآخر غير معلن.
أما على الصعيد الداخلي فلبنان يمر بأصعب ظروفه الاقتصادية، مع تراجع النمو الاقتصادي وازدياد حجم العجز في الموازنة.
كما أن الظروف الأمنية الصعبة التي يمر بها البلد، والمواجهة المفتوحة بين حزب الله والدول الخليجية أدت إلى تراجع القطاع السياحي إحدى الموارد الأساسية لاقتصاد البلد. أضف إلى ذلك تراجع حجم المال السياسي الوافد إلى الأحزاب اللبنانية وبالتالي اضطرار تلك الأحزاب إلى التقليص من الخدمات التي كانت تقدمها إلى مناصيريها. هذا من دون إغفال التأثير الكبير لأكثر من مليون لاجئ سوري على الخزينة اللبنانية، والأمن الغذائي في ظل غياب أي خطة جدية لمعالجة أوضاعهم وبقاء المساعدات الدولية للدول والمؤسسات المانحة وعود لا أكثر.
المرشحون للرئاسة
المرشحون الأبرز للرئاسة، هم أقطاب الموارنة الأربعة: ميشال عون، وسمير جعجع، وأمين الجميل، وسليمان فرنجية. هم مرشحون دائمون عند أوان هذا الاستحقاق. لهؤلاء الأقطاب حيثية مارونية من دون أدنى شك ولو بنسب متفاوتة، ولكنهم مشكلتهم أنهم ليسوا عابرين للطوائف، بمعنى أن منهم من ليس مقبولا أبدا لدى بعض الطوائف، (كسمير جعجع عند الشيعة، وميشال عون عند السنة)، وليس فقط لرمزية ماضيهما، بل لأنهما جنحا في الهجوم المستمر على خصومهما من ممثلي الطوائف الأخرى، بعد عودتهم للحياة السياسية اللبنانية، حزب الله في حالة جعجع الخارج من السجن، وتيار المستقبل وسعد الحريري في حالة عون العائد من المنفى. مع العلم أن المرشحين الاثنين توددا ولو متأخرين لخصومهما. فالعماد ميشال عون وفي بادرة انفتاحية على تيار المستقبل زار الرئيس الحريري في دارته الباريسية تحت عنوان إنقاذ ما تبقى من الدولة اللبنانية.
أما جعجع فخاطب حزب الله بواسطة زوجته النائبة ستريدا، في الندوة البرلمانية عشية إعطاء الثقة لحكومة الرئيس سلام، داعيا إياه لحوار عاقل وجدي. هذا دليل لاقتناع المرشحين الأبرزين أنفسهما، إن مركز الرئاسة يجب أن يحظى بدعم أغلبية الأطراف اللبنانية، لا سيما السنة والشيعة والدرز منها، كونه رمزا لوحدة الوطن.
[caption id="attachment_55251052" align="alignright" width="150"] ميشال عون[/caption]
انفتاح العماد ميشال عون على الرئيس الحريري، ثم تحالف التيارين في انتخابات نقابة المهندسين، ومن ثم تصويت الكتلتين النيابيتين على تأجيل البحث في سلسلة الرتب والرواتب، أطلقت العنان لكثير من التأويل خاصة على أبواب الانتخابات الرئاسية. مع العلم أن تيار المستقبل حريص على «14 آذار» وتماسكها وتوحدها حول مرشح واحد، ولو هو على قناعة بأن الرئيس القادم سيكون ثمرة تفاهم بين الفرقاء المتخاصمين، بشكل لا يكون استفزازيا لأي من الأطراف، وهو ما يتماشى مع رغبة المجتمع الدولي في إرساء نوع من الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، تماما كما حصل مع حكومة الرئيس سلام التي شهدت تنازلات من قبل طرفي الآذاريين 8 و14 من أجل تسهيل تشكيل الحكومة.
رئيس: صنع في لبنان
من هذا المنظار يمكن فهم انفتاح الأفرقاء المتخاصمة بعضها مع بعض، وفي هذا الاتجاه تصب الاجتماعات التنسيقية بينها، فتغيير التحالفات في الوقت الحالي في لبنان وفي ظل الظروف الحساسة التي تعيشها المنطقة والتطورات العسكرية في سوريا أمر غير متاح. فكما أن عون يعلم أن حدود انفتاحه على تيار المستقبل لا يتعدى الطموح الرئاسي، فتيار المستقبل يعلم هو الآخر أن حدود انفتاحه على حزب الله لن يتعدى «محاربة الإرهاب التكفيري». فعربة لبنان مرتبطة بقطار الحل الشرق الأوسطي، أي بمعنى آخر هو رهن العلاقات الأميركية الإيرانية. والجميع بات يعرف أن سلاح حزب الله، العقبة الأساس في قيام دولة ينحصر السلاح واستعمالاته في يدها، لن يكون ثمرة تغيير تحالفات سياسية قد تزيد الوضع صعوبة وتعقيدا خاصة في ظل الأزمة الوجودية التي يعيشها حزب الله.
لم يستطع النواب من انتخاب رئيس للجمهورية في الجلسة الأولى أو الثانية. فلا جعجع يملك الأكثرية التي تؤهله لتبؤ الرئاسة ولا عون أو من سينوب عنه في الترشح. فرفض قوى «8 آذار» لترشيح سمير جعجع يقابله رفض قوى «14 آذار» لترشيح عون. هذا الأمر من شأنه أن يحث الأفرقاء اللبنانيين بمساعدة الدبلوماسية الغربية البحث عن مرشح يحظى بقبول أغلبية الأفرقاء. وهنا قد يبدأ البحث بالأسماء الأقل استفزازا، كالنائب روبير غانم أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أو النائب السابق جان عبيد. قائد الجيش جان قهوجي هو الآخر مرشح للمنصب. وبين الأسماء الأربعة تلك، الكثير من الظروف التي قد تفضي إلى تفضيل اسم معين على آخر.
وهذا الاسم سيكون على لائحة تتقاطع أميركيا وإيرانيا وخليجيا، غير مستفز لحزب الله أو سلاحه، وله قدرة على «محاربة الإرهاب التكفيري» من جهة، ومقاربة الأزمات الاقتصادية بشكل يسهل عمل رئيس الحكومة القادمة. قد ينتظر اللبنانيون طويلا قبل أن ينتخبوا رئيسا «صنع في لبنان».