لم يستطع الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة للبنانيين، هم باقصى حاجة لها في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها البلد، بما أنها شرط أساسي للحصول على بعض المساعدات المالية من المجتمع الدولي ومؤسساته، يضاف إليها شرط الإصلاحات والتي يفترض للحكومة الجديدة الشرعية تطبيقها وهي تتعلق بتنظيم عمل المصارف وقطاع الكهرباء بشكل أساسي.
سبب فشل الرئيس الحريري يعود ظاهريا إلى صراع سياسي يتعلق بتفسير البند الدستوري لتأليف الحكومات ودور كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في تشكيلها. ولكن في الجوهر هر صراع مذهبي بين مكونين للمجتمع اللبناني يتعلق بدورهما في العمل السياسي في البلد بعد انتهاء الحرب الأهلية والشروع بالعمل ولو جزئيا وانتقائيا باتفاق الطائف.
فالموارنة المتمثلون بتيار لا يستسيغ اتفاق الطائف- على مدى الانتخابات النيابية الحاصلة منذ عودة رئيسه من المنفى عام 2005- ويتهمون «الطائف»بسلب دورهم في التركيبة اللبنانية من خلال تجريد الرئاسة الأولى الكثير من صلاحيات واسعة كانت تتمتع بها في دستور عام 1943، وجعلها مجرد رمز لا قيمة لها ولا تأثير على مجريات السياسة عامة. هذا الادعاء ينفيه قدرة الرئيس على تعطيل الحياة السياسية كما خبرها اللبنانيون مع صراع الرئيس لحود والحريري الأب وكما يختبرونها اليوم مع صراع الرئيس عون والحريري الابن. ثم إن النظام السياسي في لبنان ليس نظاما رئاسيا بقدر ما هو شكلي وكما ينص الدستور هو نظام برلماني، أما من الناحية التطبيقية فهو لا يعدو كونه نظام محاصصة طائفيا يقوم على مبدأ «التوافق»بين الطوائف- أي بمعنى آخر تقاسم مغانم الدولة فيما بينها- والذي يلغي أي مفهوم للعمل الديمقراطي وللتصويت وللعمل البرلماني و الحكومي أيضا.
ممثلو الشعب في البرلمان هم ممثلو المذاهب فيه، وهم في الأغلب يأتمرون بزعيم الطائفة الذي بدوره يعمم علي النواب المنطوين تحت اللواء الطائفي أي موقف يأخذون أو بأي اتجاه يصوتون تبعا لتوافق البارون مع البارونات الطائفية الأخرى أو اختلافه معهم. من هنا يسقط أي ادعاء بسبل صلاحيات ما، خاصة وأن العمل السياسي لا يلتزم الدستور إنما التوافق. وكما هو واضح إن لم يكن هناك توافق بين ممثلي الطوائف الأساسية يتعطل ويعلق عمل الدستور.
وهنا أيضا فرض انتخاب عون رئيسا هو أفضل مثال على ما سبق. فقد عطّل بعض النواب المحسوبين على التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفاؤهما جلسات انتخاب رئيس للجمهورية من خلال عدم تأمينهم النصاب القانوني المطلوب لانطلاق العملية الانتخابية على مدى عامين تقريبا حتى حصل توافق فيما بين زعماء الطوائف على انتخاب عون. حينها عاد العمل الديمقراطي شكليا وتحقق نصاب الجلسة بشكل سلس بفضل التوافق المذهبي أساسا.
المشكلة إذن ليست- كما يدعي الموارنة- في الدور، إنما في النظام.
إلى جانب الصراع المذهبي على دور الطوائف في التأليف الحكومي والذي دارت رحاه على مدى التسعة أشهر الأخيرة ومنعت الرئيس الحريري تقديم تشكيلة حكومية ينتظرها اللبنانيون والمجتمع الدولي على حد سواء بفارغ الصبر، هناك البعد الشخصي الذي لعب دوره بين الرجلين وما يمثلان. فعون وجمهوره لا يحبذون «الطائف»للأسباب التي ذكرنا آنفا، ولكن أيضا لأنه عنوان هزيمة «الجنرال»السياسية والعسكرية وعنوان هروبه من لبنان. وطبعا خلف اتفاق الطائف بالنسبة لعون ومحبيه يقف طيف رجل: رفيق الحريري، وسعد الحريري بنهاية المطاف هو ابن رفيق الحريري. أما كره عون للحريري الأب والابن، ليس بحاجة إلا لمراجعة مواقفه وتصريحاته بعد عودته من المنفى، أي عام 2005 المليئة بالتحريض والكراهية، وأدائه السياسي الذي دفعه لدخول محور تحالف الأقليات الذي يقوده حزب الله وتوقيعه على اتفاق مار مخايل والذي لم يحقق منه سوى وصوله إلى رئاسة الجمهورية وبالتالي دخوله نادي البارونات الطائفية اللبنانية.
المشكلة في لبنان أن الأزمات في لبنان على أشكالها وأنواعها تأخذ دائما منحى شخصيا بين الزعامات السياسية، يتحول تلقائيا إلى طائفي ومذهبي لسبب بسيط، هو أن النظام اللبناني قائم على مبدأ التوازنات الطائفية والعمل السياسي ينطلق أساسا من البعد الطائفي. فالسياسي لا يمثل توجها ما يمينيا أو يساريا أو وسطيا، وهو لا يملك نظرة اقتصادية بمواجهة نظرة اقتصادية أخرى أو مشروعا اجتماعيا بمواجهة آخر. إنما هو ممثل لطائفة يحرص على أن يحصل أبناؤها على امتيازات في الدولة تبقيهم راضين عنه وتبقيه زعيما عليهم ولو على حساب الدولة وماليتها. أليس ما يعيشه البلد من أزمات اقتصادية حادة وسرقة أموال المودعين وفساد الطبقة السياسية إنما هو أحد أسباب هذا النهج تحديدا؟
الغريب في الأمر أن كل الخيبات وهي كثيرة جدا التي عاشها ويعيشها اللبنانيون لا تحضهم على التفتيش عن مسبباتها، والتي من الواضح تكمن في النظام. ولكن حتى اللحظة نقد النظام الطائفي ممنوع من الصرف.
السياسيون يكتفون بالمطالبة بحصة طوائفهم من الدولة إن كان من خلال التوظيفات العامة أو تلزيم المشاريع أو الاستثمارات أيضا، ويبدو أن جمهور المستفيدين من هذا النظام- كل لأسبابه الخاصة- كثر لا بل أكثرية.
وهو التفسير الوحيد لعدم سقوط النظام الطائفي في لبنان حتى الساعة.