كان استسلام عبد الله الأحمر الصغير في غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، واستلام الملكة إيزابيلا مفتاح المدينة إيذانا بعصر انحطاط الخطاب الديني البشري، لا سيما وأن ذلك واكبه تراجع ديناميكية الهجوم والفتوحات العثمانية في قلب أوروبا وتوقف دك مدافع المسلمين لأسوار فيينا، لا سيما أن سكان فيينا باتوا على يقين من أن يومهم ليس له غد. ولولا الخيانة وتقصير مراد كيراي في حماية جسر نهر الدونة نكاية في قائد الحملة مصطفى باشا الذي كان يكرهه ويكيد له عند الخليفة العثماني السلطان محمد الرابع، مما مكن حلف العصبة المقدسة الذي نشأ على يد البابا أنوست الحادي عشر من عبور الجسر ومباغتته للجيش العثماني الذي كان يعاني من طول الحصار ومعاقرة جنوده للخمر والاهتمام بالغنائم ومضاجعة النساء، مما أجبر مصطفى باشا على الانسحاب، وكانت هي المرة الأخيرة لغزو الأتراك لأوروبا في سبتمبر (أيلول) من عام 1683. ومن بعدها بدأ انحسار الخلافة الإسلامية وتراجع الخلفاء واحدا تلو الآخر، نتيجة لمؤامرات القصر وتفشي الفساد من الرشوة والبراطيل وزيادة نفوذ الجواري والمحظيات وظهور مراكز القوة بعيدا عن ديوان السلطان الذي ما عاد يحكم سوى قاعة العرش. واستقلت مراكز القوة بالأطراف فأطلق الأوروبيون على أملاك العثمانيين وصف «تركة الرجل المريض». وبنظرة تأملية نلاحظ تزامن تقدم الخلافة العثمانية في الشرق الإسلامي باتجاه أوروبا الغربية وقتما كانت الخلافة الأموية تتلاشى في الغرب الإسلامي، وبرغم قوة العثمانيين البحرية وقتئذ لم يطرف لهم جفن لضياع الأندلس، وبالطبع كانت دولة المماليك في مصر والشام تعاني من الغزو الصليبي المتجدد فتقاعس الجميع لتسقط الخلافة الأموية في الأندلس بعد إخفاق من ملوك الطوائف وتبعها تراجع المد العثماني. والمراقب المحايد يخلص بأن الأمة الإسلامية لم تكن موجودة ككيان سياسي أو اجتماعي مع الشك في وجود الوازع الديني عند الخلفاء والأمراء لأنه لو وجدت الأمة بالمعنى الصحيح لتداعى الجميع لإنقاذ الأندلس، ولا عبرة بمحاولة البطل يوسف بن تشفين قائد المرابطين في عبور جبل طارق من مقر خلافته بالمغرب ليوحد ملوك الطوائف ويلقن قوات الفرنجة درسا سرعان ما نسوه وأعادوا الكرة مرة أخرى لتنتهي ببكاء عبد الله الأحمر الصغير شاكيا لأمه من زوال ملكه فخلد التاريخ صيحتها لابنها «لا تبك كالنساء على ملك لم تحمه كالرجال». وانزوى الخطاب الديني البشري يلعق الجراح ويجتر بعض المواقف المشرفة من التاريخ الإسلامي وأصبح الخطاب سجين الزمان وازداد منحنى هبوطه حتى وصلنا إلى صحوة الصبيان في القرن العشرين وقفزهم على الأحداث والتاريخ واستدعاء فقه الفقيه المعذب تقي الدين أحمد بن تيمية، دون الإشارة إلى أن فتاواه صدرت تحت دقات طبول الغزو المغولي لآسيا وحرق بغداد والاستعداد لغزو مصر، فكان الرجل يجتهد وهو يعلم أين دار الحرب وأين دار السلم وأين دار الإقامة. ومع ذلك خرج علينا شكري مصطفى وجماعة التكفير والهجرة بفلسفة المفاصلة عن المجتمع الجاهلي والهجرة لأطراف المدن والقرى على حافة الصحراء ليبدأ المجتمع النقي الذي شعاره اللحية واللباس والسواك وترك الوظائف الحكومية والاكتفاء بتجارة الأمشاط والفلايات والسواك وبعض الخضراوات فأصبحوا طاقة معطلة وتم شنقهم. ولكن كان لهم الفضل في كشف تراجع الأزهر وخطابه الديني عندما كان شكري يناقش قضاته. وشُنق شكري وبعض أتباعه ليس للمفاصلة ولكن لقتلهم الشيخ الذهبي بعد خطفه ليلا من داره، ومع ذلك لم يرتدع الفكر المتطرف الذي بدأ بصالح سرية المؤمن بالفكر الانقلابي لحزب التحرير الذي أسس عام 1950 على يد تقي الدين البنهاوي ابن قرية أجزيم بفلسطين. وهو نفس مكان ميلاد صالح سرية الذي هبط مصر وحاول الاتصال بالمرشد الهضيبي رغم عدم إيمانه بجدوى التوعية والتربية الإسلامية ويؤمن بالانقلاب المسلح كأقصر طريق للحكم، وبعدها يمكن توعية الجماهير. صحيح أنه انتهى على حبل المشنقة بعد قتله لحرس الكلية الفنية العسكرية عام 1974 في أفشل انقلاب مع افتقاره للقدرة التنظيرية، لأن حكم البلاد والعباد هو الهدف وهو ما يشاركه فيه عبد السلام فرج قاتل السادات مع قدرته الفائقة علي التنظير فغاص في أعماق التراث الإسلامي وخرج علينا بكتيب الفريضة الغائبة الذي كان بمثابة جواز المرور لقتلة السادات. وهو كتيب أساسه الإسقاط السياسي والديني باستخدام فتوى ماردين لابن تيمية إبان هجوم التتار. وملخص هذه الفتوى هو جواز قتل بعض المسلمين إذا تمترس الحاكم خلفهم، وللأسف وقع الكثير في هذا الفخ ولم يحاول الأزهر بخطابه الديني أن يدحض هذه الفتوى التي أصبحت ميثاق العمل لجميع الفرق المتطرفة.
وملخص ماردين هي أنها كانت مدينة تقع في نقطة على طريق الحرير بين الصين والشام، وكانت مهدده بمصير بغداد من الخراب والدمار، فحاول حاكمها بدر الدين غازي استمالة هولاكو والصلح معه. فوافق هولاكو على أن يرسل ابنه مظفر كرهينة يعيش في كنف هولاكو. ولم يجد هولاكو أي مشقة في تجنيد الابن الرقيع والمخلوع الفؤاد ليرسله ليقتل أباه ويعتلي الحكم عميلا لهولاكو الذي أصبح حاكماً للمسلمين ولكن يحكم بشريعة هولاكو، وهي مزيج من الإسلام والمسيحية واليهودية والوثنية المغولية. وماردين ليست بالطبع دار حرب، ولكنها ليست كذلك دار سلام، فأجاز ابن تيمية قتل حاكمها ولو أدى لسقوط بعض المسلمين الذين يعملون في معيته ويتمترس خلفهم من جيش وشرطة وموظفي الديوان وحتى الآن لم يفطن أحد إلى أن هذه الفتوى قد تصلح كرد فعل على قتل مظفر لأبيه أو بيع الوطن أو وألف أو. ولكن لضعف الخطاب الديني لجأت الجماعات المتطرفة إلى استيراد أفكار ابن تيمية الذي قضى أكثر أيامه في سجن السلطان ومغاضبا لمعظم جمهور العلماء، وفي حرب ضروس مع المتصوفة والعلويين. حتى عندما حاول الإخوان المسلمون الولوغ في الخطاب الديني لم يجدوا إلا أفكار سيد قطب في الحاكمية والألوهية والربوبية ليكون كتابه «معالم في الطريق»هو عمدة فقه الجهاد الذي وجه جهاده إلى صدور المسلمين. أما العدو الخارجي فهو موضوع مؤجل وتحالف الفقر مع ثورة الاتصال تلازماً مع قبول الجامعات لأشباه المثقفين بأعداد غزيرة حتى أصبحت مرتعاً خصباً لتجنيد المتطرفين بعد تبني الإخوان لفكر التقية السياسية ورسائلهم المتضاربة دون فكر حقيقي، بل لا زال الإخوان يعتمدون على خطاب الأزهر الديني، ولم يرحم أحد شباب أمة المسلمين ويجيب على الأسئلة الحائرة في الهوية وكيفية أن تكون مسلما في عالم أصبح قرية صغيرة بدلا من فتاوى رضاعة الكبير، وجنس الملائكة، وحكم طهارة رجل يحمل قفة من الضراط.
فنحن يا سادة نعيش في مجتمع مفتوح، لذا فإنني أعتقد جازما بأنه يجب على الخطاب الديني البشري أن يركز على مكارم الأخلاق وواقعة عمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، التي هي دستور الأخلاق الذي يجب أن يُتبع وتتلخص الواقعة بأن رجلا قتل رجلا وصدر الحكم بالقصاص بالقتل ولكنه طلب من عمر مهلة بعض الأيام ليرد بعض الأمانات التي لديه ويودع أمه. فسأل عمر من يضمن الرجل فصمت الجميع عدا أبا ذر، فحذره عمر بأنه سيقتل لو هرب هذا الرجل واختفى القاتل ولم يحضر. واختفى القاتل ولم يحضر إلا في الساعة الأخيرة بعد ما ظن معظم المسلمين أنه هرب. وحضر الجميع أمام عمر تمهيدا لتنفيذ الحكم. فسأل عمر أبا ذر: ما حملك على ضمان رجل لا أحد يعرفه؟ فرد أبو ذر: «يا أمير المؤمنين خفت أن يقال ضاعت المروءة بين المسلمين. وسأل القاتل: ما جعلك تحضر رغم إمكانك الفرار بحياتك؟ قال: خفت يا أمير المؤمنين أن يقال ضاع الوفاء بين المسلمين. وعندما سمع ابن القاتل ذلك قال: وأنا يا أمير المؤمنين عفوت عن القاتل حتى لا يقال ذهب التسامح بين المسلمين. وهذا هو الخطاب الديني المرتجى.