بيروت: مع دخول لبنان في نفق مظلم وبانتظار الارتطام الكبير الذي يبشّر به مسؤولو لبنان بلا خجل دون القيام بأية إصلاحات من شأنها فرملة أسوأ انهيار مالي يشهده لبنان في تاريخه الحديث، انعكست لعنة الدولار على النسيج اللبناني بأكمله، محدثة تغييرات كبيرة في طبقات المجتمع بين المحظوظين ممن يتقاضون العملة الخضراء والمعدمين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية التي تتهاوى يوما بعد يوم إلى القاع، مع تخطي الدولار عتبة الـ17500 ألف ليرة في السوق الموازية للدولار الواحد ما يعني فقدان العملة الوطنية أكثر من 100 في المائة من قيمتها أمام الدولار.
لعنة الدولار
وقد صار التمايز كبيراً بين اللبناني الذي يتقاضى راتبه بالدولار الأميركي وذاك الذي يقبض بالليرة اللبنانية، إذ إن راتب المليوني ليرة مثلا والذي كان يساوي 1330 دولارا أميركيا، بات يساوي 113 دولارا فقط، بينما من كان يتقاضى 800 دولار في السابق أصبح اليوم يتقاضى ما يقارب 14 مليونا.
على وقع الغلاء والأوضاع المعيشية المتردية، اجتاحت التحركات والمظاهرات مناطق نفوذ الثنائي الشيعي
شيعة الدولار وشيعة الليرة
ومن هؤلاء مقاتلو حزب الله وعناصر الحزب الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار النقدي، لأن النظام المالي للحزب لا يمر عبر المصارف، ناهيك عن تخصيص حزب الله تعاونيات ومحال خاصة وبطاقات تموينية لمؤيديه حصرا في مختلف المناطق الواقعة تحت نفوذه.
هذا الواقع انعكس على البيئة الشيعية، وتسبب بكباش إعلامي وسياسي ومعيشي بين «الثنائي الشيعي» أي حزب الله، وحركة أمل، وهذا التنافس سببه الأزمة التي تتفاقم يومياً والتي تدفع في اتجاه الخيارات المتطرفة وتترجم إشكالات وتضاربا، لم توفر حتى العالم الافتراضي الذي يحفل بشكل شبه يومي بسجالات واتهامات متبادلة بين الطرفين.
وفي حين يحاول «الثنائي» إخفاء التباينات والخلافات والتحسس بين جمهوري الطرفين على خلفية توزيع المساعدات المالية والغذائية، واتساع تقديمات حزب الله على حساب حركة أمل، ونظرا لإمكانيات الأول المالية الكبيرة وضعف إمكانيات الثاني، تكبر الهوة بين الجمهورين وتشن حملات على مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى فرز إعلامي وتعدد المنصات الإعلامية، ولا سيما المواقع الإلكترونية والتي باتت تظهر يومياً من محسوبين على الجانبين وهمها تهشيم صورة الآخر ولكن بشكل غير مباشر.
حزب الله يستفز بري
وتؤكد مصادر متابعة لـ«المجلة» أن حركة أمل- وبإيعاز من بري- قامت بالعديد من الخطوات لمجاراة حزب الله في الجنوب، إذ جمعت عشرات الملايين من مغتربين ورجال أعمال ومصالح من تحت جناحها وقامت بتوزيعهم باسم الحركة ونواب قضاء صور على عدد من قرى القضاء وقد بلغت المساعدة لكل منزل 250 ألف ليرة نقدا حتى السوريين والفلسطينيين استفادوا من هذا المبلغ ولم تكن حصرا لمناصري حركة أمل فحسب بل أي محتاج وفقير.
وتأتي هذه الخطة كرد على بطاقة حزب الله ومزايدته على حركة أمل للسيطرة على الشارع الشيعي، بالإشارة إلى أن بري استفزته محاولات حزب الله قضم البيئة الشيعية وتحجيم أمل.
وكان اللافت، أن حملة حزب الله ضد حركة أمل ورئيسها نبيه بري، تأتي في سياق حصر الفساد في حركة أمل وتنزيه حزب الله بذريعة أنه مقاومة وبأن حلف الضرورة بينه وبين بري من أجل وئد الفتنة عبر إشاعة أن «حزب الله يتحمل الفساد الذي يقوم به نواب ووزراء حركة أمل للحفاظ على وحدة الطائفة الشيعية».
رئيس مجلس النواب نبيه بري وأمين عام حزب الله حسن نصرالله
وفي المقابل، يحمّل أنصار حركة أمل مسؤولية الأزمات التي تجتاح الجنوب كما سائر المناطق اللبنانية، للحزب بما أنه الحاكم الفعلي لا سيما في البيئة الشيعية، ومع تفاقم أزمة البنزين في الجنوب وتفشي ظاهرة طوابير الذل وإصرار جماعة حزب الله على وضعها في إطار الكرامة والصبر لمواجهة «المؤامرة الكونية» على محور المقاومة، يتداول أنصار حركة أمل على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يظهر طوابير السيارات أمام محطات البنزين، مع كلام للسيد موسى الصدر الذي يشير فيه إلى أن «الحسين لا يتحمل العيش مع الظالم، ويحارب الظالم حتى ولو مات، أي ظالم كان؛ إسرائيل أو الظالم الداخلي، الذي يحرمك من حقك ولو كان حاكماً والذي يمنع عنك فرصتك في الحياة..»، في إشارة مبطنة وغير مباشرة لحزب الله.
من جهة ثانية، يعمل جمهور حزب الله على تبرئة الأخير من مسؤولية الانهيار الذي يشهده لبنان، عبر التغاضي عن تهريب البضائع المدعومة والبنزين والأدوية إلى سوريا، علما أنه هو من يمسك الحدود الشرعية وغير الشرعية، وذلك من خلال إعادة التذكير بأن نصر الله عرض على الحكومة استيراد المحروقات من إيران في وقت سابق وأن الحزب يده نظيفة من الفساد داخل الدولة.
المعروف أنّ بيئة «أمل» هي التي انتفضت في الفترة الماضية في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعض المناطق الجنوبية والبقاعية، وذلك بعد الارتفاع الجنوني في سعر الدولار أمام الليرة
«مخدرات في الرمان» تُهدد العلاقات السعودية- اللبنانية
احتجاجات في البيئة الشيعية
وعلى وقع الغلاء والأوضاع المعيشية المتردية، اجتاحت التحركات والمظاهرات مناطق نفوذ الثنائي، ومن المعروف أنّ بيئة «أمل» هي التي انتفضت في الفترة الماضية في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعض المناطق الجنوبية والبقاعية، وذلك بعد الارتفاع الجنوني في سعر الدولار أمام الليرة.
وهذا الخروج وفق مصدر مسؤول في حركة أمل رفض التصريح عن اسمه، تعبير عن حجم القهر والإذلال وحجم ما وصل إليه الفقر والحرمان. وقال المصدر نفسه لـ«المجلة» إنه في ظل هذا الجحيم المالي والمعيشي، خرج أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، متوجها للشيعة قائلا: «لن نجوع»، ولكنه قال أيضاً إنه سيظل يدفع لعناصره رواتبهم بالدولار الأميركي في حين يموت عامة الشيعة من غير حزب الله وبيئته من الجوع. متسائلا: «أين وحدة الصف التي يتحدث عنها نصر الله؟ هل فقط في الحروب والتهديدات الأمنية؟».
ولفت المصدر نفسه إلى أن «لماذا لا تنعكس وحدة الصف هذه في هذه الأزمة الاقتصادية؟ لماذا لا يشمل التمويل الإيراني جماعة أمل والشيعة عموما دون تمييز؟ علما أن موقف الرئيس نبيه بري إيجابي تجاه طهران».
كما أشار إلى أن المستفز في حزب الله وعناصره وبيئته ومناصريه، أنهم يتبجحون عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويغالون في مدح نصر الله وأنهم سيخوضون البحر معه وأنهم متمسكون بالصبر ودعوته إلى التكافل.
ويقول المصدر: «لم نلمس أي تكافل من حزب الله الذي أنشأ مخازن النور واحتكرها لعناصره ومحازبيه بنظام بطاقات خاصة. المستفز في بيئة حزب الله المغالاة في مدح نصر الله والتمسك بالصبر ودعوته إلى التكافل بينما الواقع عكس ذلك، أما الدولار فملك جماعته وهم الوحيدون الذين يأكلون اللحوم وينشرون الفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تعكس حياة الرفاهية التي يعيشونها، ويشترون البضائع والمواد الغذائية بالملايين مستفيدين بسعر صرف الدولار المرتفع دون مراعاة لمشاعر سائر اللبنانيين ومنهم شيعة الليرة».
وبحسب المصدر نفسه، فإن حملة حزب الله الإلكترونية لم تأت بشكل عفوي، مشيرا إلى أن نصر الله هو من باشر أولا بالهجوم على بري ومناصريه، مذكرا بأنه في أحد خطابات نصر الله قبل شهرين، رد على ما انتشر على لسان لبنانيين كثيرين، لا سيما أبناء حركة أمل أكثر من غيرهم داخل بيئة «الثنائي»، من أنّ حزب الله «مش فارقة معو» لأنّ عناصره يقبضون رواتبهم بالدولار. فأوضح نصر الله أنّ «معظم الرواتب بالليرة اللبنانية، وأكثر من 80 في المائة لا يتقاضون أصلاً»، واضعاً رواتب الدولار في إطار محدّد، أي «المقاتلون في سوريا، وكانت رواتبهم 400 و500 دولار... قبل سنة ونصف السنة وسنتين كانت الناس تسخر من رواتبهم»، مشيرا إلى أن نصر الله حمّل برّي آنذاك جزءاً كبيراً من مسؤولية انهيار الليرة، متهماً إياه بأنه هو من حمى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة؛ فهل يسعى حزب الله فعلا إلى قضم البيئة الشيعية وتحجيم حركة أمل؟
في الأثناء، قلل الكاتب والمعارض الشيعي الدكتور حارث سليمان، في حديث لـ«المجلة»، من أهمية النزاعات الحاصلة بين الثنائي، مشيرا إلى أنه «لا توازن بين أمل والحزب، فالأخير أقوى من أمل وبالتالي لا داعي لتحجيمها، علما أن أمل لا تمتلك القوّة والإمكانات الكافية لمواجهة الحزب».
وعن سبب النزاعات الحاصلة بين الثنائي، رأى أن «ثمة أزمة كبيرة في البلاد. وأن البيئة الشيعية كغيرها من المناطق اللبنانية تعاني جراء تدهور الأوضاع المعيشية والمالية، وبالتالي من الطبيعي أن نرى مثل هذه التجاذبات».
ولفت سليمان إلى أن «حزب الله قادر على حل مشكلة 20 ألف عائلة من مؤيديه والمحسوبين عليه، ولكن يبقى هناك 200 ألف عائلة شيعية لم تحل أزمتهم، وبالتالي يرفعون صوتهم وينتج عنهم ردود فعل كالتي نراها من تحركات احتجاجية واعتصامات في منطق نفوذ الثنائي».
وأكد سليمان أن «حزب الله غير قادر على قمع شارعه بدليل أن الحراك الذي شهده كل لبنان شهده الشارع الشيعي منذ بداية الأزمات وبالتالي لم يستطع إيقافهم رغم قمعهم والاعتداء عليهم وتهديدهم عدة مرات ولن يستطع استيعابها».
وعن إمكانية حدوث انفجار شيعي، رأى سليمان أنه في حال تجددت التحركات في كل لبنان على غرار حراك «17 تشرين»، فالمؤكد أنها لن تستثني الشارع الشيعي أيضا».
الكاتب والمعارض الشيعي الدكتور حارث سليمان
ورأى سليمان أنه «صحيح أن حزب الله حزب منظم أكثر من غيره من الأحزاب اللبنانية، ولكن هذا لا يمنع أن تمتد نيران الأزمة إليه، وبالتالي هو غير قادر على إيقاف تبعات الانهيار الكبير الذي يهدده كما يهدد غيره من الأحزاب».
وتابع: «الشيعة كغيرهم من المواطنين اللبنانيين يعانون مما آلت إليه الأوضاع ولديهم ودائع في المصارف اللبنانية تقدر بـ42 مليار دولار، وهي محتجزة في المصارف كغيرها من الودائع، وبالتالي لا شيء يمنع من أن يشمل الانفجار الاجتماعي الذي قد يشهده لبنان البيئة الشيعية مع تفاقم الأزمات».
حملة حزب الله ضد حركة أمل تأتي في سياق حصر الفساد في «أمل» وتنزيه حزب الله عبر إشاعة أن الحزب «يتحمل الفساد الذي يقوم به نواب ووزراء الحركة للحفاظ على وحدة الطائفة الشيعية»
«مخدرات في الرمان» تُهدد العلاقات السعودية- اللبنانية
وفيما يبدو أن التباعد على أشدّه بين مناصري حركة أمل، وعناصر الحزب، وتزداد الفروق الاجتماعية بين هؤلاء، يكرس التباعد الذي بدأ يظهر في أكثر من منطقة، ويتمدد ليتحول مواجهات متنقلة، دفعت الحزب والحركة إلى عقد اجتماع مشترك قبل أشهر، طرح أسباب التباعد السياسي في وجهات النظر والخيارات بين رئيس حركة أمل الرئيس نبيه بري، والأمين العام للحزب حسن نصر الله، وهو ما تبدى بشكل واضح في خيارات الحكومة وتفسير الدستور والموقف من رئيس الجمهورية وتياره وملفات أخرى.
كما طرح الاجتماع التباعد الاجتماعي بين مناصري الفريقين، وتم الاتفاق على تخفيف الاحتقان والعمل سريعا على معالجة أي مشكلة فردية بين الأهالي.
وقبل أسبوعين أيضا، نقل موقع قناة «المنار» دعوة من قبل مسؤولي التواصلِ الاجتماعي في حزب الله وحركة أمل جمهورَهما إلى الالتزامِ بأعلى درجاتِ الانضباطِ والتحلي بروحِ الأخوّةِ ونبذِ التفرقة.
وأهابَ المسؤولونَ خلالَ اجتماعٍ عُقد بينَ الجانبين، بعدمِ الدخولِ في أيِ سجالاتٍ على مواقعِ التواصلِ مما لا يَنتجُ عنه إلا خلافات عقيمة تؤدي إلى الانقسامِ والتشرذمِ بينَ الإخوةِ في البيتِ الواحد.
وأكد المجتمعون أن «المرحلةَ الصعبةَ التي يمر بها بلدُنا تتطلبُ المزيدَ من الحرصِ والوعيِ وحمايةِ ظهرِ المقاومة، في وقتٍ يسعى فيه الأعداءُ أو المصطادون في الماءِ العكر لنشرِ الفتنِ وكسرِ الوحدة».
ولفت بيانُ المجتمعين إلى أنَ الاجتماعَ حصلَ بناءً لتوجيهاتِ نصر الله، وبري.