منذ نشأة الدولة الوطنية في العالم العربي لم تتوقف محاولات زعزعتها وإثارة المشاكل داخلها، وإن اقتضى الحال تقويضها. فالاستعمار الأجنبي لم يغادر المنطقة إلا بعد أن زرع ألغاما متعددة كفيلة بتأجيج النزاعات بين دولها، وداخل الدولة الواحدة بين مختلف مكوناتها الاجتماعية، مستهدفا هو وبعض القوى الإقليمية غير العربية الحالمة باستعادة أمجاد إمبراطورية غابرة ترسخ عدم الاستقرار وتوسيع فجوة عدم الثقة والعداء داخل الدول، وفيما بينها؛ الأمر الذي فرض على معظمها التأهب عسكريا وأمنيا بشكل استنزف الكثير من إمكانياتها على حساب برامجها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ورغم النجاح الجزئي الذي حققته السياسة الاستعمارية والأطماع الإقليمية بتقسيم كيانات، وتغيير بعض الأنظمة؛ إلا أن الدولة الوطنية العربية تمكنت من الصمود، ومن تكريس الوجود، مستندة إما على شرعية دينية وتاريخية مدعومة بسياسة رفاه اجتماعي كما في الأنظمة الوراثية أو على هيبة المؤسسة العسكرية أو دكتاتورية حزبية.
قصف أميركي استهدف ميليشيات مدعومة من إيران في العراق وسوريا
أمام هذا المعطى، فإن القوى الدولية والإقليمية الباحث بعضها عن تعميم نفوذه وهيمنته، وبعضها الآخر عن استغلال دول المنطقة كورقة في مناوراته ومساوماته وجدت ضالتها الناجعة في التنظيمات المنتسبة زورا وبهتانا إلى الدين الإسلامي الحنيف؛ لأنها أدركت أن هذه التنظيمات مهما اختلفت أسماؤها، وتباينت أساليبها بين سلمية وإرهابية لا تؤمن بمفهوم «الدولة الوطنية»رغم تظاهر بعضها باحترام المفهوم والممارسة وفق قواعد اللعبة السياسية فيه.
وإذا كانت الدول الإقليمية قد استدرجت القوى المتأسلمة السياسية والمتطرفة منها إلى أحضانها بادعاء تشارك وتقاسم نفس المرجعية الدينية شيعية كانت أم سنية حسب المذهب السائد هنا أو هناك؛ فإن القوى الغربية ركزت في معظمها على التنظيمات السنية التي وفرت للعنيفة منها تربة خصبة للتدريب واستقطاب الأتباع في الحرب الأهلية الأفغانية في الثمانينات، وساعدت الأذرع السياسية على الانخراط في العديد من التجارب الانتخابية التي نظمتها أقطار عربية، وتحسين تموقعها داخل مؤسسات الدولة.
ومن خلال تجارب القوى المتأسلمة بشقيها السياسي والعنيف اتضح أنها لم تخذل المراهنين عليها وعلى دورها في زرع الشقاق وتعميق الخلافات داخل عدة بلدان عربية، وفي المنطقة بأسرها.
فعلى مستوى التنظيمات المنتسبة للمذهب الشيعي استطاعت الميليشيات المسلحة وواجهاتها السياسية والخلايا السرية التي أسستها إيران أن توفر لهذه الأخيرة فرصة التبجح بأنه باتت تتحكم في سلطة القرار في أربع عواصم عربية هي بغداد، وصنعاء، ودمشق، وبيروت. ولكن القاسم المشترك بين بلدان تلك العواصم يكمن في أن ارتماءها في أحضان الملالي حولها جميعا إلى دول فاشلة مهددة بالتفتت، تنخر بعضها حروب أهلية، وتنهش الآخرين صراعات إثنية ومذهبية. فالتعصب المذهبي الذي غذته ولاية الفقيه أفرز تعصبا مضادا لدى أتباع الديانات والمذاهب الأخرى.
أما على صعيد التنظيمات السياسية التي تدعي الانتماء لهذا أو ذاك من المذاهب السنية، فقد ثبت أنها الأكثر قابلية للتوظيف في مخططات تعميم الفوضى داخل المنطقة العربية سواء كانت تلك التنظيمات إرهابية أو في ثوب حركات سياسية.
مثلت داعش قمة الازدراء الذي تكنه التنظيمات الدينية لمفهوم الدولة الوطنية؛ وذلك بعد اكتساحها لأجزاء واسعة من غرب العراق وشرق سوريا غير آبهة بحرمة الحدود الدولية، معلنة تأسيس ما سمته «الخلافة الإسلامية». وقد جسدت هذه الخلافة التي استمرت ثلاث سنوات نموذجا للعديد من القوى المتطرفة التي بايع معظمها الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي، وحاول تأسيس إمارات محلية مماثلة.
إن تصفية الخلافة المزعومة لم تتم إلا بعد انتهاء الأدوار المطلوبة منها، إذ ساهمت في تيسير انتشار القوات العسكرية الأجنبية في المنطقة بعيدا عن الانتقادات، بل برضا بعض الحكومات. فهذه القوات قدمت الآن لمحاربة كيان متوحش تناسى الجميع أنها هي التي أسسته وسلحته وسهلت مهمته، وما تزال تحمي بعض أعضائه الذين قد تحتاجهم لمهام قذرة مستقبلا.
وغير خاف اليوم أن تنظيم داعش لم يؤسس من فراغ، وإنما استلهم معظم مبادئه وأطروحاته من تنظيم القاعدة الذي ولد أيضا في أحضان المخابرات الغربية ليكون رأس الحربة في المساعي التي استهدفت زعزعة أمن جل الدول العربية من خلال خلاياه السرية وذئابه المنفردة التي أرهقت الكثير من الأجهزة الأمنية العربية والأوروبية، أو فروعه المحلية التي تعددت أسماؤها بتعدد أماكن تواجدها انطلاقا من أفغانستان، مرورا بالشرق الأوسط حيث شكلت جماعة أبو مصعب الزرقاوي في بداية الألفية حاضنة لكل التيارات المتطرفة كجبهة النصرة في سوريا، وتنظيم القاعدة في أرض الكنانة، وصولا إلى المغرب العربي حيث تناسلت التنظيمات الإرهابية في الجزائر وليبيا لتمتد نحو منطقة الساحل وغرب أفريقيا الذي احتكرته جماعة بوكو حرام.
ضحايا الحرب الإيرانية العراقية ... المنسيون
وكما هو معلوم، فإن هذه التنظيمات الإرهابية على اختلاف أقنعتها خرجت كلها من عباءة التنظيم السياسي السني الأقدم والأكثر تجربة (الإخوان المسلمون) الذي منذ تأسيسه برعاية بريطانية ومباركة أميركية وهو يبحث حيثما وجد عن الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها. وقد تأتي له ذلك بالفعل في عدد من الدول بعد استغلاله للثورات والاحتجاجات العفوية للربيع العربي.
ولكن خلافا للآمال التي روجتها هذه التنظيمات انكشفت عند ممارستها للسلطة منفردة أو بالمشاركة أنها كانت تسوق أوهاما غير واقعية، إذ ثبت أنها لم تكن تتوفر على رؤى اقتصادية واجتماعية منطقية، بل أذعنت أكثر من غيرها لوصفات المؤسسات المالية الدولية وأجهزت بموجبها على عدة مكتسبات اجتماعية في الصحة والتعليم؛ الأمر الذي أكد أن هذه التنظيمات ظلت تلهث منذ تأسيسها للوصول إلى السلطة ولم تفكر أبدا في كيفية ممارستها، وأن التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية لا يعنيان لها شيئا، وهي في ذلك منسجمة مع جوهر وجودها المتمثل في اعتبار «الأوطان مجرد أوثان، والأوثان تدمر ولا تعمر».
إقرأ أيضاً: