بحلول القرن الرابع الهجري كان الخطاب الديني قد وصل لمرحلة النضج. فبعد قرنين من التأليف والتدوين وفي أوج قوة الأمة الإسلامية كان الفكر الإسلامي وبالتبعية الخطاب الديني متسقاً ومتماهياً مع ظروف العصر وقتئذ. فلا غرو أن ينقل الأوربيون عن المسلمين فلسفتهم ومناهجهم البحثية لتساعدهم في الخروج من عصور الظلام الأوربية التي كان عنوانها التخلف بينما كان الفكر الإسلامي متحرراً ومنتجاً لحضارة وعلم وعمل جعلت الفتوحات الإسلامية تطوي العالم من الصين في شرقه إلى الأندلس في غربه وجعلت قرطبة مركزاً للعلم وشروحات ابن رشد عنوانا للتقدم في أوروبا.
وإذا كان هناك أي جانب إيجابي للحروب الصليبية فهي للأوربيين، حيث انتقلت الأفكار والمناهج والفلسفة الإسلامية مع الحملات الصليبية بين (1096-1291) وأنتجت الحداثة في الأفكار داخل المحيط الأوربي فتحولوا إلى المنهج التجريبي نتيجة حتمية لفلسفة ابن الهيثم وإبن سيناء والبيروني وتبعها اليقين الرياضي على يد روجر بيكون المتوفي 1294 وهو منهج سيتصاعد في خط بياني وستُسرع المطبعة التي اخترعها غوتنبرغ من انتشار كل الأفكار. فيظهر مارتن لوثر ليحول المسار الكنسي وكوبر نيكوس وخلفه غاليليو ليزيل الأرض من مركز الكون وليتطور الفكر الغربي وتقوم ثروة دينية واجتماعية وسياسية ويتغير الخطاب الديني وتلحق بها الحداثة السياسية التي ترسخ موضوعات حيوية كالحرية والتشريعات السياسية وسلطة الدولة والتسامح الديني.
ويبدأ الفصل بين مهام الدولة والمعتقدات الدينية على يد الفيلسوف جون لوك الذي قدم فكرة العقد الاجتماعي وتلاشت أساليب الإكراه العمومي لصالح السلطة التشريعية التي هي الأصل والإكراه هو نتاج السلطة السياسية التنفيذية حتى لو استخدمت الخطاب الديني فهذا لا يخول لها الحق في قهر الناس. وهكذا تطورت العقلية الغربية بوقود الأفكار والفلسفة الإسلامية عندما كان للمسلمين شأن عظيم. ومع توغل الفكر الإسلامي في الانحطاط والظلام ظهرت بعض آراء الإصلاحيين، وكان اجتهادهم فكريا وليس دينيا. ففريق انسحق تماما للغرب وكانت مسوغاتهم تعبيرات جوفاء ولا تزيد عن تقليد العبد لسيده وإعجاب المهزوم بهازمه. وفريق وجد أن لا غضاضة في الأخذ من الغرب ما يناسبنا لأنها بضاعتنا التي ردت إلينا. وفريق وقف حائرا يشعر بالذنب لتحول الخطاب الديني إلى خطاب سلطوي مغالى فيه. وهكذا دائما في عصور الانحطاط تظهر خفافيش الظلام وتتبنى أفكارا متطرفة كوسيلة لحفظ ماء الوجه أو لجلب منفعة كشركات توظيف الأموال الإسلامية. بالإضافة إلى فريق الانتهازيين الذين برعوا في توظيف الدين لمكاسب سياسية دون سؤال أنفسهم إذا كان الهدف هو الحكم فلماذا لا يتبعون أساليب سياسية مشروعة أو غير مشروعة ولا يجوز إقحام الخطاب الديني فيه بشقيه الإلهي والبشري. ولا عبرة باجتزاء أحاديث أو مواقف تاريخية لإثبات دعواتهم وبين كل ذلك ابتعد الخطاب الديني عن النضج وظل جامدا في حراسة الأزهر الذي أٌلحق بالحكومة وأصبحت إدارته تمشي خلف الجهاد البيروقراطي المصري العتيد وفيما عدا بعض الشيوخ الأجلاء أمثال محمد عبده وشلتوت وطنطاوي لم يظهر فكر جديد يحاور الشباب ويزيل الحاجز السلطوي من الخطاب الديني البشري ويعلي قيم العقل دون الترويج لمذهب المعتزلة الذين وبحق يصدق وصفهم بفرسان العقل والعدل لولا شطوطهم واستعداء المأمون على علماء الأمة لكان لهذا المذهب مستقبلا باهرا، وللأسف انتشر هذا في أوج النضج الفكري للأمة الإسلامية لولا انقلابهم على مبادئهم العقلية واستعمال القهر للترويج لمذهبهم حتى الاندحار، ولكنه يظل تعبيرا حيا عن كيفية التزاوج بين النقل والعقل في الفقه الإسلامي وهو ما نرجوه من علمائنا المعاصرين حتى يواكب الفكر الديني البشري طموحات أهل الإسلام. فالدين الإسلامي لم يأت لإنذار الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور ولكن أتى ليتمم مكارم الأخلاق أي أعلى مراحل النمو والتطور الأخلاقي البشري وكانت وسيلته هي التربية. فمعظم آيات القرآن تربي الإنسان ليتعاون مع أخيه الإنسان وأن الأصل هو الحياة لإعمار الأرض ولم يأت ليجعل حياة الناس عذابا دنيويا يتبعه عذاب أخروي وإلا فماذا إذن يتبقى للإنسان غير الحيرة والاكتئاب والسوداوية هذا في أفضل الأحوال أو الكفر والإلحاد في أسوأ الأحوال.
لذا فنحن نطلب من الخطاب الديني قليلا من الواقعية والنضج...
(يتبع)