أي محاولة للمقارنة اليوم بين رفيق الحريري وحسن نصر الله لن تكون إلا أدبية، وهي أصلا تأتي متأخرة، خاصة وأن الحريري تم اغتياله في العام 2005 ومن حينها ما كتب في موضوع اصطفاف الأقليات الطائفية كان قد كتب في ظل صراع طائفي هائل يبدأ في لبنان ولا ينتهي في اليمن. وليس اغتيال الحريري سوى وجه من وجوه هذا الصراع.
هل كان يمكن أن يتجنب لبنان تداعيات هذا الصراع؟ هل كان للأقليات فيه لا سيما الدروز والموارنة أن يلعبوا دورا وسيطا بدل أن يصطفوا مع حزب الله كما فعل وليد جنبلاط في العام 2009 وقبله عون في العام 2006 مع اتفاق مار مخايل، كونهم يمثلون الأكثرية داخل طوائفهم؟
على كل الأحوال نتج عن هذا الاصطفاف تدهور علاقات لبنان مع العرب لا سيما الخليجيين منهم ثم انهيار المنظومة الاقتصادية الهشّة التي كانت قائمة أساسا على تناقض واضح بين طبيعتين مثّل إحداها الحريري الأب والأخرى حزب الله، وصفها جنبلاط بهونغ كونغ مقابل هانوي.
انتصرت هانوي، وسلمت الطبقة السياسية بسيطرة إيران وهيمنتها على البلد ومفاصله. وبين هذه وتلك صمد نظام الأسد- الذي يستعد لاستعادة مكانته بين الدول العربية- بوجه عاصفة لم تنجح في اقتلاعه بفضل بوتين وسليماني وسوء تدبير حلفاء «ثورة» أدخلوا للحلبة السورية صراعاتهم العقائدية التي أضعفت زخمها، ونجح نظام الملالي في إيران في تخطي سياسات الضغوطات القصوى التي فرضها ترامب والذي يستعد خليفته بايدن إلى تفكيكها.
بالعودة للرجلين، الحريري ونصر الله، فالتاريخ سيذكرهم على أنهم أبرز السياسيين والأكثر تأثيرا وكاريزما في تاريخ لبنان المعاصر. وجه الشبه يقف عند هذا الحد.
فبين من أعاد إعمار لبنان وساهم في إنهاء حربه الأهلية ومن أشرف على تحويل حزبه المسلح إلى قوة لها وزنها الإقليمي الذي يتعدى لبنان هوة كبيرة.
ثم لم يكن يوما رفيق الحريري خطرا على البلد أو على «تركيبته» أو على «هويته» كما يقول البطريرك الماروني اليوم في معرض انتقاده هيمنة حزب الله واحتلال إيران للبنان. أقصى ما ذهب إليه أخصام الحريري الغوغائيون كان اتهامه «بالفساد». والحقيقة أن النقد البناء حول ظاهرة الرجل وحكمه كان يجب أن يدور حول سياساته الاقتصادية وخياراته في هذا المجال، وهو ما لا يمكن أن نفصله عن تركيبة البلد الطائفية وعامل الوجود السوري. حتى في عز خصامه مع موارنة لبنان لم يتهم الرجل بسعيه لتغيير «وجه البلد».
كان للحريري مشروع اقتصادي يرتكز على تنشيط السياحة بشكل أساسي تمهيدا لسلام في المنطقة لم يأت، كما كان يرغب في جعل بيروت مركزا ومنصة لانطلاق أعمال الشركات العالمية لمنطقة الشرق الأوسط. تماما كما إمارة دبي اليوم. والجميع في لبنان كان شاهدا على ازدهار السياحة في حقبة التسعينات من القرن الماضي خاصة في الوسط التجاري لبيروت حيث السهر وكثرة المطاعم المبتكرة والمقاهي، وعلب الليل التي أعطت لبنان مركزا مرموقا عالميا بين البلدان السياحية. ناهيك عن استضافة المؤتمرات العالمية والعربية وتنشيط الحركة الدبلوماسية تجاه لبنان وصولا إلى زيارة البابا يوحنا بولس الثاني التاريخية إلى لبنان. كان للحريري مستشارون كثر وهو لم يخترهم على أساس انتمائهم الطائفي قطعا. أقربهم إليه كان باسل فليحان الإنجيلي.
طبعا لم يشعر موارنة لبنان وقتها بخطر على «هوية» لبنان أو «حريته» إن عنت «الحرية» عند تلك الجماعة إمكانية التصرف الاجتماعي من دون ضوابط متزمتة دينيا.
خصامهم مع الحريري يعود إلى رفضهم انتقال السلطة إلى طائفة أخرى علما أن رفيق الحريري لم يكن الآمر الناهي في الموضوع السياسي وكان يعاني من تدخل نظام الأسد في أدق تفاصيل الحياة الاقتصادية والسياسية اللبنانية. ولكن كان من الطبيعي للحريري أن يمارس السلطة بالشكل «الطاغي» الذي مارسها به وربما في بعض الأحيان أن يتجاوز حدّها، وكان من الطبيعي أن يكون مركز الحياة السياسية في لبنان لما يمتلك من علاقات دولية وصداقات ومال وحيوية وأحلام، وكان من الطبيعي أن يُزعج وأن يُنظر إليه بشيء من الحسد، ولكنه بالرغم من كل شيء لم يشكل الرجل يوما خطرا على «هوية» لبنان كما يفهمها الموارنة.
ولم يكن الحريري آيديولوجيا كما حزب الله مثلا، ولم تحكم علاقته بالمملكة العربية السعودية عقيدة ما طلب منه تطبيقها في لبنان، لم يشكل فصيلا عسكريا ولم يتوجه نحو العمل الأمني في مسيرته السياسية. لم يكن على أي لائحة عقوبات غربية، ولم يتهم بالإرهاب والقتل أو تبييض العملة أو أية أعمال إجرامية أخرى. مشكلته أنه كان سنيا، غنيا، صديقا لشيراك والملك فهد، في بلد يظن الموارنة أنه يعود لهم وحدهم أن يقودوه بشراكة لا تتعدى حدود ميثاق 1943. من هنا نستطيع فهم معنى قول عون- ومن لف لفّه- رغبته في استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية وهي رغبة دفينة في الالتفاف على الطائف وفي النهاية رغبة في استعادة بعض من صلاحيات رئاسية خسرها الموارنة بعد الحرب الأهلية.
كل ما يمثله رفيق الحريري يمثل نصرالله عكسه، ومع هذا فإن زعيم الموارنة الأول منذ العام 1988 وحتى يومنا هذا، اختار الأخير كحليف، علّه بسلاحه يعطيه بعضا مما «سرقه» منه في غفلةٍ جماعة «السنة».