في المشرق العربي الدين هو أكثر من مسألة شخصية، هو قاعدة للحياة تنظم جميع الأنشطة الاجتماعية وجميع العلاقات لمكونات المجتمع مع السلطة. هكذا كان مع نظام الملة العثماني، وهكذا استمر حتى يومنا هذا. لذلك من المستحيل التأريخ للمسيحيين اللبنانيين من دون الكلام عن دور الكنيسة في رسم معالم شخصيتهم السياسية.
أسباب عدة أسهمت في تكوين تلك الشخصية، أهمها يكمن في المنطقة الجغرافية التي سكنوها، أي في تلك الجبال والقمم التي غالبا ما صعب الوصول إليها، والتي يكاد بعضها يلامس البحر المنفتح على حضارات القارات الثلاث، وحيث في كنفها مارسوا طقوسهم ومعتقداتهم الدينية بحرية.
تلك الجغرافيا التي حمت معظم الأقليات الذين لجأت لها جعلت الحاكم يسمح لسكانها بممارسة نوع من أنواع الحكم الذاتي، كالأعمال الإدارية والقضائية وانتخاب ممثلين في المجالس الإدارية العليا، مما أكسب الطوائف اللبنانية خبرة سياسية قيمة على مر القرون.
من سمات تلك الشخصية المسيحية أيضا الجد باكرا في طلب التعليم العالي، فأقبلوا على تلقيه وتحصيله في روما أولا، في المدرسة المارونية التي تأسست عام 1584، ثم سعوا بدورهم إلى نشره، من خلال المؤسسات التي أنشأوها لهذه الغاية، وفي طليعتها مدرسة عين ورقة التي أسسوها في أواخر القرن الثامن عشر، عام 1789. كما أنشأوا أول مطبعة في الشرق عام 1610 في دير مار أنطونيوس قزحيا في شمال لبنان.
وهم أسهموا بشكل أساسي في تكوين عصر النهضة العربي، من خلال مفكريهم وكتابهم، وليس «المعلم» بطرس البستاني سوى المثال على تلك المساهمة، وهو الذي لقب بأبي التنوير العربي، حيث كان أول من إنشاء دائرة معارف، وأول من وضع معجما عربيا بالتسلسل الأبجدي، وأول من نادى بتحرير المرأة وتعليمها في المشرق العربي.
لبنان الكبير
وجود المسيحيين في لبنان ارتبط دائما بقول غوتيه «في البدء كان الفعل». وهكذا من صناعة الحرير إلى نشر الحرف إلى حرفة التعليم إلى مهنة التجارة والمصارف، انتقل المسيحيون من مجرد عدد إلى قيمة فعلية في شرقنا.
استقبلوا غازيا ليودعوا آخر، وثبتوا في وجه التحولات الكبيرة التي عرفتها المنطقة لا سيما عند مطلع القرن العشرين، وبحنكتهم السياسية وعلاقاتهم الخارجية استطاعوا التأقلم مع التغيرات الجذرية التي طرأت على المنطقة.
فتفكك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتقاسم نفوذها بين الفرنسيين والبريطانيين كقوتين عظميين، جعلا المنطقة تعيش على وقع الفوضى. وكثرت المطالب وتعددت النزعات لدى شعوب المنطقة.. منها ما كانت ذات نزعة قومية (التوحد مع سوريا)، ومنها ما كانت ذات نزعة إسلامية (الملك فيصل الأول بن الحسين)، ومنها ما كانت ذات توجه وطني (مسيحيو لبنان، علويو سوريا).
المسيحيون ظنوا الفرصة مواتية لتثبيت هذا الكيان الذي نشأ في الجبل، مما دفعهم إلى مطالبة القوى العظمى المجتمعة في فرساي باستقلال لبنان الكبير. وبالفعل سنة 1919 توجه البطريرك إلياس الحويك إلى مؤتمر الصلح مطالبا باستقلال لبنان.
وبالفعل في عام 1920 أعلن الجنرال الفرنسي غورو دولة «لبنان الكبير»، وبيروت عاصمة لها. وهكذا دخل لبنان والمنطقة عصر الانتداب، الذي أجازته عصبة الأمم بحجة مساعدة وتمكين تلك الدول الناشئة.
[caption id="attachment_55250180" align="alignleft" width="300"] صورة ارشيفية لوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير ونظيره الايطالي ماسيمو داليما الجلوس، وزعماء لبنان المتناحرين سياسيا من اليسار إلى اليمين ميشال عون، وأمين الجميل، سعد الحريري، سمير جعجع، مروان حمادة خلال اجتماع في مقر اقامة السفير الفرنسي في بيروت (أكتوبر 2007).[/caption]
الخلاف الذي نشأ بين المسلمين والمسيحيين، على خلفية استقلال لبنان عن سوريا من جهة أو عن دولة عربية موحدة من جهة أخرى، سرعان ما تحول إلى ميثاق وطني بين الطائفتين المسيحية والمسلمة، والذي مهد لولادة لبنان الكبير واستقلاله عن فرنسا عام 1943.
والميثاق الوطني هو اتفاق غير مكتوب، وفق بين رفض المسيحيين الانضواء تحت مشاريع التوحيد سواء أكانت قومية أو عروبية، خوفا من ذوبان هويتهم في هذا المحيط الإسلامي ورفض المسلمين الالتحاق بالغرب. هذا الاتفاق أعطى المسيحيين بعض الضمانات في التوزيع الطائفي في مؤسسات الدولة، لا سيما مجلس النواب، وصلاحيات رئاسة الجمهورية، ومناصب الدولة من الفئة الأولى.
ظلت الأمور على هذا المنوال حتى انفجار الحرب الأهلية عام 1975. وتداخلت في هذه الحرب الأهلية عوامل كثيرة، منها العامل الفلسطيني ذو البعد الإقليمي، ومنها العامل السوري الذي يريد السيطرة على لبنان، ومنها البعد الداخلي الذي برز في مطالبة المسلمين بتطوير النظام اللبناني، بحيث يحصلون على المناصفة في مؤسسات الدولة.
الأم الحنون
برزت خلال تلك الحرب نزعة قوية عند المسيحيين للاستقلال عن محيطهم، عبرت عنها الجبهة اللبنانية التي جمعت أبرز الأحزاب المسيحية، بالإضافة إلى رجال فكر، كالدكتور شارل مالك والمؤرخ جواد بولس، أو المؤرخ فؤاد افرام البستاني. في المقابل ظلت الكنيسة المارونية تؤمن بلبنان الموحد، وباندماج المسيحيين في محيطهم.
هذه النزعة للانفصال عن المحيط الإسلامي لم تكن أبدا وليدة الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في عام 1975، بل كانت حاضرة أيام الحركة الاستقلالية اللبنانية منتصف القرن الماضي، حيث بعض التيارات المسيحية كانت تفضل عدم الانفصال عن فرنسا، «الأم الحنون»، كما كان يعرف بها اللبنانيون، وتلك النزعة كانت حاضرة في أعوام الحرب الأهلية أيضا في فكر الجماعات المسلحة المسيحية، وهي حاضرة اليوم أيضا في خضم التحولات الكبرى للعالم العربي وصعود نجم الحركات الإسلامية المتشددة.
في المقابل، كانت هناك رغبة في الاندماج بالمحيط، عبرت عنها الكنيسة المارونية في كل المراحل الحساسة التي مر بها لبنان. ودعوة الطوباوي يوحنا بولس الثاني لمسيحي لبنان، عام زيارته للبنان، ليست سوى دليل إضافي على تلك السياسة التي انتهجتها الكنيسة في التأكيد على استقلال لبنان واندماجه بمحيطه في آن، على ما جاء في الإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان»: «إن مصيرا واحدا يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة.. بودي أن أشدد، بالنسبة إلى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها. وأدعوهم إلى اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربية، التي أسهموا فيها إسهاما كبيرا، موقعا مميزا، لكي يُقيموا، هم وسائر مسيحيي البلدان العربية، حوارا صادقا وعميقا مع المسلمين. إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيام عز وأيام بؤس، مدعوون إلى أن يبنوا معا مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف إلى تطوير شعوبهم تطويرا إنسانيا وأخلاقيا، وعلاوة على ذلك قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيّي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى».
من دون أدنى شك كانت الحرب الأهلية اللبنانية مدمرة للمجتمع المسيحي. فهو إلى جانب قتاله ضد القوى الفلسطينية في أولى مراحل الحرب ومن ثم القوات السورية، شهد تقاتلا داخليا شرسا، وانتفاضات دموية متتالية، كانت آخرها حرب الإلغاء عام 1989، بين ألوية الجيش اللبناني تحت إمرة قائده الجنرال عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، والتي انتهت بدخول الجيش السوري المناطق المسيحية عام 1991، ونفي الجنرال عون، ومن بعدهما سجن سمير جعجع.
مع اعتماد الطائف دستورا، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1991، شعر المسيحيون بأنهم خسروا امتيازات لطالما اعتبروها ضمانات لوجودهم. لم يعد رئيس الجمهورية صاحب الصلاحيات الواسعة لا بل المطلقة، بحسب دستور الطائف لم يعد يحق له التصويت داخل مجلس الوزراء بعد أن كان هو يعين رئيس الحكومة وهو يقيله. أصبحت تلك الصلاحيات موزعة على مجلس الوزراء مجتمعا. أما تقسيم المقاعد النيابية، والتي كانت لصالح التفوق العددي المسيحي، فعاد إلى المناصفة.
قرر المسيحيون مقاطعة الانتخابات النيابية، عام 1992، وكانت الأولى بعد غياب البرلمان عن الساحة السياسية قرابة 20 سنة. كان برلمان 1992 مفصليا لجهة القرارات التي كان عليه اتخاذها بعد جمود دستوري أصاب لبنان على مدى 20 عاما.
وقعت على البرلمان الجديد مهمات دستورية وقانونية مهمة أسهمت في ترسيم هيكلية الدولة. مثل مرسوم التجنيس، مثلا الصادر عام 1994 والذي خلق خللا فادحا في التوازن الطبيعي الديموغرافي، حيث بلغ عدد المجنسين 202000 توزعوا بنسبة 51071 من المسيحيين و150929 من المسلمين، مما لعب دورا مفصليا في إيصال إلى الندوة النيابية الشخصيات الموالية لسوريا.
كما قرر المسيحيون مقاطعة الدولة من خلال الإحجام عن دخول مؤسساتها، مما خلق أيضا خللا في التوزيع الطائفي لوظائف الدولة.
سوريا وإضعاف المسيحيين
الوصاية السورية على لبنان والتي امتدت قرابة الخمسة عشر عاما أمعنت في إضعاف المسيحيين. من خلال نفي أو سجن قيادتهم، أو من خلال توقيف والتضييق على الناشطين بالأحزاب اللبنانية المناهضة لوجودهم، لا سيما التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وغالبا من خلال الحد من حرية التعبير التي قدسوها.
لكن القادة الروحيين المسيحيين لم يكفوا عن المطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان، وتطبيق اتفاق الطائف في عظاتهم أو في خطبهم ومواقفهم. فدخول الأميركيين إلى المنطقة عزز الشعور لدى اللبنانيين بأن تغييرا ما حاصلا في المنطقة. فازدادت المطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان. وانضم إلى المسيحيين معظم الطوائف الأخرى، وهو ما حصل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 على وقع المظاهرات الضخمة التي جمعت أكثر من مليون شخص من مختلف المناطق اللبنانية ومن مختلف الانتماءات السياسية والدينية في ساحة البرج مطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال.
[caption id="attachment_55250183" align="alignright" width="300"] البطريرك بطرس الراعي[/caption]
وكان الصراع الشيعي السني بدأ يظهر إلى العلن في المنطقة خاصة بعد خلع الرئيس العراقي صدام حسين. رويدا رويدا ستتوسع رقعة هذه المواجهة لتشمل كلا من اليمن ولبنان والبحرين وسوريا.
ثورة الأرز تلك كان من المفترض أن تكون تجسيدا لحلم اللبنانيين عامة والمسيحيين خصوصا، وسببا في توحد اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم حول السيادة والاستقلال والحرية. انسحاب السوريين من لبنان فتح الآفاق أمام عودة زعمائهم من المنفى لتحرريهم من الوصاية كان يجب أن يكون فاتحة لعهد جديد.
ولكن اتت انتخابات 2005 النيابية، وكان المسيحيون يتوقون إلى أن يكون لهم قائد وزعيم يتساوى على الأقل مع غيره من قادة الطوائف وزعمائها، فاستفاقوا على اتفاق رباعي بين الأطراف المسلمة يرعى توزيع المقاعد النيابية، ويستثني عون العائد من المنفى.
حقق عون نتائج فاقت توقعاته، واكتسح المقاعد المسيحية، وأصبح الزعيم الأول عند المسيحيين. وسرعان ما طرأ تحول على خطابه السياسي، مستفيدا من حجم انتصاره في الانتخابات ومن النقذة المسيحية من تحالف رباعي انتخابي إسلامي، ضم كلا من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وأمل وحزب الله، ورأوا فيه محاولة لاستتباعها، ولفرض ممثليها عليهم كما أيام الوصاية السورية.
وبدل الانفتاح على جميع الفرقاء، لا سيما المطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال، أعلن الجنرال عون العداء للطائفة السنية، وبدأ في التقارب مع حزب الله، وصولا إلى ورقة تفاهم، وقعها وأمين عام حزب الله حسن نصر الله في كنيسة مار مخايل في ضاحية بيروت الجنوبية، مباشرة بعد يوم من تحول الاحتجاجات من قبل متظاهرين غاضبين من نشر صحيفة دنماركية رسوما مسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، إلى فوضى أعادت مشاهد الحرب في لبنان، والتي أصيب فيها عشرات في صدامات مع الشرطة، بينما تعرضت ممتلكات وسيارات للتدمير واعتداءات في المنطقة الشرقية المسيحية في بيروت.
وهكذا انتقل عون ومعه قاعدة مسيحية كبيرة إلى الضفة الأخرى، متكئا على الخوف المسيحي مجددا. فشارك في محاصرة السراي الحكومي مع حلفائه الجدد، وبدأ رحلة التقرب من النظام السوري فزار الرئيس الأسد في أكثر من مناسبة، وغطى ارتكابات سلاح حزب الله بحق السلم الأهلي اللبناني كما في 7 مايو (أيار)، وتراجع عن كل ما قاله بحق الاثنين أيام المنفى المذهب الباريسي.
من دون شك الأسئلة كثيرة في شأن هذا التحالف بين متناقضين في الرؤية والأهداف والمبادئ. ففي الوجدان الشعبي المسيحي حزب الله يناقض كل ما يؤمن به المسيحيون عموما وكل ما ناضلوا من أجله على مر القرون. فالمسيحيون مثلا لا يرون الغرب أو الولايات المتحدة كعدو، مثلما يراه حزب الله، لا بل كحليف.
ثم كيف يمكن التوفيق بين تيار يمثله العماد عون يعلن احترامه الدستور اللبناني شرعة للحكم، كما جاء في مبادئ التيار، مما يعني احترامه أن «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة»، وبين حليف يؤمن بأن أوامر «الولي الفقيه» تعتبر في حكم القانون الملزم، بل هي مقدمة على كل قانون أو دستور في حال تعارضها معه، وأن الشرعية لا تأتي من الناس؟
كيف التوفيق بين تيار عون الذي يؤمن «بفصل الممارسة السياسية عن الدين، سعيا إلى الدولة العلمانية»، ومن يؤمن بأن سلطة الولي الفقيه تقوم «على أساس الشرعية الإلهية المباشرة ولا تأتي من الناس»؟
كيف يتعايش إيمان عون «بإرساء الديمقراطيّة نظام حكم وأسلوب حياة»، مع نظرية تقوم أساسا على إلغاء الدور السياسي للأمة، وتتعامل مع فقيه منصّب من قبل الله، لا يمكن الاعتراض على سياسته وتأخذ تصرفاته صبغة مقدسة غير قابلة للمساس؟
هذه الأسئلة وغيرها لم تمنع عون من الاستدارة المدروسة، وجنح خطابه الداخلي نحو الكراهية الطائفية والعنصرية، متهما تيار المستقبل بخراب البلد، والسرقة. وأفرد إعلامه لهذا الأمر، وأصدر كتابا بعنوان «الإبراء المستحيل» يتهم فيه الحريرية السياسية بهدر المال العام.
الإسلام السياسي
ومع الثورات العربية وصعود الإسلام السياسي أعطى عون وفريقه ذريعة إضافية ليؤكد على صوابية خياراته، وتحالفاته، واستغل الفوضى القائمة في العراق وسوريا خصوصا مع وحشية الصور الآتية من هناك، ليحذر المسيحيين من المصير الذي ينتظرهم في حال انتصرت تلك الحركات.
طبعا المزاج الشعبي المسيحي كان مهيأ لهذا الكلام، فهو المحبط نظرا للظروف السياسية القاسية التي تعرض لها إبان عصر الوصاية السورية، وقبلا مع الطائف الذي اعتبره اتفاقا أخذ من نفوذه وأعطاه للطائفة السنية. أضف أن نظرية الانفصال عن المحيط كانت دائما قائمة في بعض الوجدان المسيحيين. في فترة النضال الاستقلالية كانت النزعة تجنح نحو الإبقاء على فرنسا قوة منتدبة، ثم إبان الحرب الأهلية كان العامل الفلسطيني سببا للانفصال عن المسلمين، أما اليوم فالتطرف التكفيري هو الحجة الأكثر رواجا عند محبي الفيدرالية أو التقسيم.
فهم عون أن هناك فرصة لاستغلال الخوف المسيحي في ظل التحولات الكبرى في العالم العربي. لكنه وبدل أن يتحالف مع القوى المعتدلة في المجتمع اللبناني فضل أن يتحالف مع حزب الله القوى الأكثر تشددا في المجتمع اللبناني.
طبعا استدارة عون شرحها لاحقا كريم بقرادوني في كتابه «صدمة وصمود.. مبادرة لعودة ميشال عون»، التي أعدها كريم بقرادوني وكانت تتضّمن «أن يسهر رئيس الجمهورية بالتفاهم مع دمشق على إقفال كل الملفات والدعاوى القضائية المقامة ضد الجنرال عون ورفيقيه الجنرالين عصام أبو جمرا وإدغار معلوف وسائر الضباط الموالين، وسداد التعويضات المستحقة لهم، وحماية أمن الجنرال الشخصي حين عودته في لبنان».
في المقابل «يتعهد الجنرال عون الدفاع عن موقع رئاسة الجمهورية، والقبول بتأجيل الانتخابات النيابية إلى ما بعد إتمام الانسحاب الكامل للجيش السوري من لبنان، وإصدار قانون جديد للانتخابات إفساحا في المجال لخوض انتخابات حرة ونزيهة في مناخات ديمقراطية، وتسوية مسألة سلاح حزب الله بالحوار معه ومن دون اللجوء إلى استخدام القوة، وتأكيد ضرورة تحسين العلاقات اللبنانية السورية المميزة»، وأن «يشارك عون في الحكومة شخصيا أو عبر من ينتدبه».
وختم بقرادوني المبادرة باقتراح الآلية الآتية «عند الاستحصال على الموافقة المبدئية من الرئيس إميل لحود، يلتقي إميل إميل لحود وكريم بقرادوني بالجنرال عون في باريس لوضع هذه المبادرة موضوع التنفيذ». ويضيف بقرادوني «سلمت نص المبادرة إلى ابن الرئيس لحود، الذي حملها إلى دمشق وعرضها على صديقه ماهر الأسد الذي استوضح الملابسات والخلفيات، واستمهل إلى حين عودة شقيقه بشار الأسد من الخارج. وقبل أن يصل لحود إلى بيروت اتصل به ماهر الأسد ليخبره بأن الرئيس بشار عاد لتوه ووافق على المبادرة شرط أن يكون حزب الله شريكا في العملية، وأن تحصل بإشراف مباشر من الرئيس لحود».
في 8 أبريل (نيسان) 2005، يروي بقرادوني «دخلنا على عون في الوقت المحدد. بادره إميل لحود بالقول «بيسلّم عليك الوالد». هز عون رأسه ولم يقل شيئا (...) شرح لحود الابن لعون تفاصيل المبادرة والخطوات التي تمت تسهيلا لعودته، ونقل إليه حرص والده على أمنه وسلامته، واقترح عليه أن يختار مجموعة من الضباط والجنود الذين يرتاح لفصلهم على سبيل الحماية».
أخرج عون من جيبه ورقة بمطالبه وسلمها لبقرادوني، وهي تتضمن معالجة الدعاوى والأحكام المتعلقة به وبكل من بيار رفول وحبيب فارس وفايز كرم، فطمأنه بقرادوني بأن «كل المواضيع الواردة فيها قابلة للمعالجة بتوجيهات رئيس الجمهورية لأن عودتك هي لدواعي المصلحة العليا».
اطمأن عون إلى أن المبادرة تسير على ما يرام، وقال للوفد «حدّدت 7 أيار تاريخا لعودتي». في هذه الظروف عاد عون، وأقنع المسيحيين بأن تطرف حزب الله أفضل لهم من اعتدال السنة.
النظام اللبناني ليس نظاما مثاليا، وهو بحاجة من دون شك إلى تطوير، ولكن يبقى لبنان بلدا ميثاقيا، حيث إن التعايش يكون في النفوس قبل أن يكون في القوانين والدساتير. هو هذا الالتماس اليومي بين أشخاص عاديين يعيشون ويعملون ويأكلون ويضحكون ويبكون معا، ويحترمون اختلافهم الديني، ويعيشونه بسلام. يقول ميشال شيحة، أبو الدستور اللبناني، وأحد المدافعين عن فلسفته «طبعا، الحلم هو أن نرى اللبنانيين يتفقون كلهم فجأة. لكن ذلك لا يمكن أن يكون إلا حلما. لن يقوى أحد على اجتراح أعجوبة توحيد اللبنانيين في يوم واحد...»، ليس «بالتنازلات السريعة والجسيمة، ولو متبادلة يتوحد لبنان، كما لا يعيش إذا كانت كل طائفة تعيش والميزان في يدها، تضع وزيرا قبالة وزير، وحاجبا قبالة حاجب، فتسوق لبنان إلى حدود الحلول المستحيلة. والعدالة إذا أكثرنا من موازنتها تنقلب ظلما، لأنها تبعدنا عن مكسب الطائفية الوحيد، الذي تعلمناه عبر الأجيال: التسامح والتعايش».
ليس مستغربا أن يخاف المسيحيون، كما باقي الأقليات، وكذلك المعتدلون في المجتمع الإسلامي، من صعود التيارات المتشددة، ومن ظاهرة العنف والقتل على الهوية الدينية، من مصر إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان. من الطبيعي أن يخافوا من مجموعات تنتهك مقدساتهم، ولكن لا يمكن أن يكون الحل في الانفصال عن محيطهم إذا ما كان مضطربا، ولا يمكن أن يكون الحل في تفضيل جماعات متشددة على أخرى، والتحالف مع واحدة ضد أخرى، تماما كما فعل ميشال عون، حيث تحالف مع تيار لا يقل خطورة عن التيارات المتشددة الأخرى التي ينتقدها، إنما يكمن الحل في الالتصاق بالجماعات المعتدلة وما أكثرها، والعمل معها من أجل القضاء على ظاهرة التطرف والإرهاب، والعمل على تمكين الديمقراطيين ونشر ثقافة حقوق الإنسان وحرية التعبير والمساواة على أساس القيمة الإنسانية.أليس هذا ما يحصل في تونس تحديدا؟.
المسيحيون اليوم في لبنان ليسوا بخير، ولا مسيحيو المشرق العربي.