كثرت في الآونة الاخيرة الاقتراحات السياسية التي أطلقتها بعض الجهات اللبنانية خاصة المارونية منها كمحاولة لإيجاد حلول للأزمات المستعصية التي يمّر بها لبنان. حياد لبنان مثلا فكرة أطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي داعيا المجتمع الدولي إلى عقد مؤتمر من أجل حماية البلد والحفاظ على «هويته». هناك أيضا جهات أخرى تكلمت عن تطبيق نظام فيدرالي مذهبي سوّقت له إحدى الشاشات المحلية، وهو طرح لطالما نادت به بعض الجهات المارونية كحل يستطيع تنظيم «التعايش»الإسلامي المسيحي على مساحة الـ10452 كيلومتر مربع.
لندع لبرهة موضوع الهوية اللبنانية جانبا والامتعاض الماروني من تجرؤ الطائفة الشيعية تغييرها كما جاء في بيان البطريرك.
طبعا ليس هناك من ضرر في البحث عن حلول للمشاكل التنظيمية التي يواجهها البلد على كل الصعد، خاصة أنها أفضت في نهاية المطاف إلى حروب أهلية وتعطيل لعمل مؤسسات الدولة كقاعدة للعمل السياسي فيه وليس استثناء له إن كان في العمل التشريعي لمجلس النواب أو العمل التنفيذي لمجلس الوزراء أو في سدة الرئاسة الأولى.
المشكلة تكمن في أن الطروحات المقدمة لم تحد في جوهرها عن الفلسفة الطائفية التي تأسس عليها لبنان.
فالنظام الطائفي كان وراء تعطيل عمل مؤسسات الدولة، وهو آخذ في الازدياد مع بروز الطائفة الشيعية كلاعب ثالث وأساسي في العمل السياسي اللبناني الذي اقتصر قبلا على الثنائية المارونية السنية والتي استمرت حتى اندلاع الحرب الأهلية. هذا التغيير اكتسب بعدا ديموغرافيا، وماليا، وعسكريا مؤثرا، أتى على حساب الطائفة المارونية خصوصا، وأيضا على حساب الدولة الهشّة التي قامت على «التفاهمات» و«التوازنات»الطائفية من خارج أي نص دستوري أو قانوني، بمعنى أن حرد طائفة كبرى في البلد يستطيع تعطيله برّمته. من هنا الطروحات المقدمة نفسها والتي لا تأخذ بعين الاعتبار هذا التغيير الطارئ على التركيبة اللبنانية تعتبر ناقصة. هذا في الشكل. أما في المضمون فمن الواضح أن طارح الحل ممتعض بكل بساطة ومن دون الحاجة للمواربة من صعود ما يمكن وصفه «بالشيعية»السياسية وأفول ما اعتمد على تسميته «المارونية»السياسية قبل عام 1975 عام اندلاع الحرب الأهلية.
كان من الطبيعي أن يخلق هذا الواقع المستجد نوعا من عدم التوازن على أكثر من صعيد ويفجر توترات طائفية تؤدي إلى ما نحن بصدده اليوم؛ أي انهيار الدولة التي قامت بالأساس على مبدأ مبهم جدا يعطي نوعا من التفوق في اتفاق غير مكتوب (الميثاق الوطني) لطائفة على حساب طوائف أخرى برعاية دولية وإقليمية. حاول «الطائف»الموازنة بين صلاحيات الطوائف فزاد الأزمة حدة. لأن المشكلة في فلسفة النظام الذي يلغي البلد والمجتمع والمواطن لصالح الطائفة.
من سخرية الأقدار أن يعتمد الموارنة في لبنان نظاما قام أساسا على العدد، فإلى جانب ادعاء الموارنة أن حصولهم على أغلبية الوظائف المهمة في الدولة (حاكمية مصرف لبنان، فإن الأغلبية في مجلس النواب قبل الطائف، الأمن العام، قيادة الجيش.. إلخ) هي ضمانة وحماية «للكيان»اللبناني من إمكانية اتحاده مع أقطار عربية أو إسلامية، كانوا يتحججون بمسألة تفوقهم العددي على باقي المكونات الطيفية في البلد.
لهذه الأسباب تقاسم الموارنة البلد مع المسلمين بنسبة 6 على 5 في مجلس النواب، وقد ظل العمل بتلك الفلسفة السياسية قائما حتى اندلاع الحرب الأهلية واجتماع اللبنانيين حول اتفاق الطائف.
طبعا لم يسأل الموارنة الذين يفتخرون بتأسيسهم للبلد: ما العمل في حال تفوق غيرهم من الطوائف عددا كما هو حاصل اليوم؟ (الكاتب الفرنسي أوغوست كونت كان يقول الديموغرافيا هي القدر). أو كيف بالإمكان تبرير أو الحفاظ على الامتيازات التي حصلوا عليها مع «الميثاق الوطني؟».
المشكلة في الطروحات «المارونية»الهوى اليوم، أنها تريد مداواة المريض «بالتي كانت هي الداء». وكأنهم لم يتعلموا من تجارب الماضي الأليم. فالطرح الفيدرالي الطائفي أو حتى الحياد يريد أن يعود بالتاريخ للحظة الاتفاق على «الميثاق الوطني»مع أهل السنّة، وبكلام آخر يريد أي من الطرحين استعادة الموارنة لحصصهم ودورهم الذي يعتقدون أن اتفاق الطائف سلبهم إياه. وهذا أمر بات مستحيلا نظرا لتضاؤل عديدهم بشكل دراماتيكي ولأسباب أخرى تتعلق لاسيما بنوعية القيادات السياسية التي تمثلهم.
والسؤال: هل تطبيق أي من الطرحين يمكنه أن يحل المشكلة اللبنانية؟ قطعا لا؛ فإعادة البحث في صلاحيات الطوائف على ضوء المستجدات والتغييرات الحاصلة سيجر الحديث عن واقع الأعداد الديموغرافية والتي سيكتشف الموارنة معها أنها لن تتيح لهم فرض أي وجهة نظر لا ترضى عنها الأكثرية الشيعية والسنية، تماما كما حصل عام 1943، حيث فرض الموارنة استقلال لبنان، متجاهلين توجهات شعوب المنطقة وتوصيات لجنة كينغ كراين بعدم فصل لبنان عن سوريا وتثبيت الانتداب الفرنسي عليه والذي إن حصل حسب التقرير من شأنه أن يؤدي إلى حالة من عدم التوازن لا يمكن التعافي منها.
ثم لا يمكن لمبدأ الفيدرالية أو الحياد أو أي نظام آخر أن يلغي فكرة الدولة. حتى في الأنظمة الفيدرالية هناك دور للدولة ومؤسساتها كمرجعية يركن إليها في أوقات الأزمات. مقارنة لبنان بأي دولة تتبع النظام الفيدرالي أو مبدأ الحياد كالولايات المتحدة أو حتى سويسرا أمر صعب إن لم يكن مضحكا، فتلك الدول لها فلسفة وجودية قائمة على التجارب التي مرّت بها شعوبها وأفضت إلى اعتماد هذا النظام. على عكس لبنان الذي جاءت علّة وجوده من رفض الموارنة للذوبان في قطر عربي أو سوري مثل رفض المسلمين الالتحاق بالغرب خاصة الفرنسيين. وهنا لب المشكلة.
إذن النقطة الأولى في الرحلة للبحث عن أية حلول لأزمات البلد المستعصية يجب أن تنطلق من الأسئلة التالية: أي دور للبنان اليوم؟ على أية مبادئ يجتمع اللبنانيون؟ ما هو الدور الاقتصادي للبلد في المنطقة؟ ما علاقته بمحيطه؟ ما هو دور الدين في الدولة؟... إلخ.
إذا استطاع قادة هذا البلد (وهو أمر شبه مستحيل) أن يجدوا أجوبة على تلك الأسئلة وغيرها طبعا، تجمع أكبر عدد من اللبنانيين حولها، يصبح ساعتئذ البحث عن تنظيم العلاقات وبناء الدولة واقتصادها أمراً متاحاً.
نقض النظام الطائفي أصبح واجباً أخلاقياً قبل أي شيء، والتخلص منه ضرورة لاستقرار البلد، وأي حلول لا تنطلق من نبذه هي محاولة لاسترجاع تجارب الماضي واستعادة مآسيه.
ولكن للأسف، العقلية الطائفية لها سطوة كبيرة على البلد ومصيره مهما تبدلت النسب الديموغرافية للمذاهب فيه.