تونس: إذا كانت من نقطة اتّفاق داخل الطبقة السياسيّة، فهي الاعتراف بل الإقرار بأنّ تونس تعيش أزمة اقتصاديّة خانقة، لكنّ الأزمة الأكبر بحسب كثير من الخبراء تكمن في انعدام رؤية استشرافيّة تمكّن من إيقاف النزيف أوّلا، وأساسا في الشروع في إصلاح هيكلي يتجاوز عمليّات الترميم التي عمدت إليها الحكومات على مدى العشريّة السابقة.
لقراءة هذا المشهد المركّب واستطلاع آفاق التحسّن الممكنة وأساسًا الحديث عن الحلول الكفيلة بجعل البلاد وأساس العباد يغادرون منطقة الخطر، التقت «المجلّة»الدكتور علي عبدالله، الأستاذ الباحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، الذي يرى الأزمة الاقتصاديّة أبعد ممّا هو بادٍ، بل يرى المخرج مرتبطا بعوامل اقتصاديّة وأخرى تخصّ الخيارات السياسيّة الكبرى للبلد.
* الحكومة بين استحالتين: استحالة المضي في دعم المواد الأساسيّة والسقوط أكثر في دوّامة التداين، مقابل استحالة الإقلاع عن الدعم وما لذلك من آثار على الاستقرار الاجتماعي، كيف السبيل للخروج من هذه المتاهة؟
- علاقة الدعم بالمديونية أكيدة والوضع صعب جدا، لكن لا يصل في تقديرينا إلى حد الاستحالة. بل نتحدث اليوم عن «مثلث اللاتطابق» في ما يتعلق بالمالية العمومية للكثير من البلدان النامية خاصة مع أزمة كوفيد-19. حيث نجد حكومات هذه البلدان وصناع القرار فيها أنفسهم أمام ثلاثة تحديات حينية:
الأولى: زيادة المصاريف العمومية بغية التعافي الصحي والاقتصادي.
الثانية: احتواء التداين العمومي المتصاعد.
الثالثة: الحاجة إلى مزيد من المداخيل الجبائية.
العمل على تحقيق عنصر كلّ مطلب يعيق تحقيق الآخرين، بل حتى يزيد في تأزيم وضعيتهما. المسألة ليست إذن محصورة في علاقة التداين بالدعم، كما يتمّ التسويق لذلك، بل بإجمالي المصاريف العمومية. من هنا وجب تفكيك هذه المصاريف والتدقيق فيها مما يسهل عملية المعالجة. يتم ذلك طبقا لمعايير يمكن رصدها كالتالي:
- الأهمية النسبية في الميزانية
- إمكانية الإصلاح السريع
- سرعة النتائج وتحقيق العائدات
- الكلفة الاجتماعية
منظومة الدعم على أهميتها في تفاقم عجز المالية العمومية وحسب هذه المعايير المقدمة ليست هي الأولى المعنية بالإصلاح بل يجب الاتجاه نحو المؤسسات العمومية التي لا تساهم في مداخيل الدولة بل تستنزفها سنويا بما يفوق 3 مليارات دولار سنويّا. لكن يبقى الحل حسب رأينا مرتبطا أساسا بالعمل على تحرير الإنتاج وزيادة الناتج الداخلي الخام. العنصر الأهمّ في تأمين أي عملية إصلاح.
* تبرّر الحكومة التراجع التدريجي عن الدعم، بما تقول إنّ الدعم لا يذهب إلى الفئات المحتاجة والمعوزة. ما صحّة هذا القول؟
- الأمر لا يعدو أن يكون عاملا من العوامل، بل يمكن الجزم بأنّ «الدعم يذهب إلى كل الفئات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية بما في ذلك التي لا تستحقه». أمام تفاقم العجز وانعدام الحلول طيلة عقد كامل وجدت الحكومات المتعاقبة نفسها تعمل على استيعاب الآني وبالتالي اتخاذ إجراءات تتبعها عائدات مالية حينية، مثل رفع الدعم ولو تدريجيا.
* هناك من يرى أنّ الأزمة سياسيّة بالأساس، أي أزمة خيارات، وأنّ منوال التنمية المعتمد حاليا، أثبت فشله منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، وبالتالي أيّ «إصلاحات» ضمن هذه الخيارات، تأتي عديمة الجدوى. ما هو رأيك؟
- الأزمة مركّبة، يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي، بل الأخطر من ذلك أنها أيضا أزمة فكر اقتصادي حيث انحسرت صياغة السياسات الاقتصادية إلى قوالب جاهزة ومعولمة، لا تفتح المجال للعمل من خارجها. الأكيد أن منوال التنمية المعتمد منذ سبعينات القرن الماضي قد فشل رغم التنقيحات العديدة التي أدخلت عليه في التسعينات. لكن المناويل التنموية لا تباع ولا تشترى في السوق العالمية.
* تراجع مداخيل الدولة وانفجار المصاريف، السبب الأساسي أو على الأقلّ الظاهر للأزمة، كيف السبيل لتداركه؟
- الأزمة ذات أبعاد متعددة وعدم تطابق المداخيل مع المصاريف يبقى عنصرا مهما، خاصة إذا امتدت هذه الحالة لسنوات عدّة. من البديهي في علم الاقتصاد أنّ البلد الذي ينتج أقل مما يستهلك يتجه مباشرة إلى المديونية. الإشكال اليوم يكمن في أنّ الامور تدار بعقلية محاسبتية، تعتمد على الظاهر من الأرقام. ما يتوجب فعله اليوم الرجوع إلى التحليل الاقتصادي المعمق والذي ينظر إلى الأمور على أنّها مركبة ويجب تفكيكها. بفعل الزمن وظهور حاجيات جديدة من الطبيعي أنّ ترتفع المصاريف من سنة إلى أخرى ولكن في المقابل، لماذا لا ترتفع مداخيل الدولة؟ الإجابة نجدها في الردّ على السؤال الثالث، حيث أدّى منوال التنمية المعتمد إلى تقليص دور الدولة الاقتصادي وعمل حتى على تحييدها. تبعا لذلك لم يعد لديها ما يكفي من الموارد، قرابة النصف يأتي اليوم من الضريبة على الأجر، حين يمكن القول إن الدولة اليوم هي دولة موظفين، تعيش بالموظفين وللموظفين. لتدارك هذا الوضع الكارثي يجب العمل في نفس الوقت على ترشيد المصاريف وإصلاح مكامن الخلل فيها، خاصة في ما يتعلق بالمؤسسات العمومية، كما ذكرنا سابقا. لكن الأهم يكمن في إيجاد موارد جديدة ومعتبرة للدولة، مثلا من خلال توسيع القاعدة الضريبية، ومساهمة المؤسسات العمومية بعد إصلاحها، والاستثمار الاستراتيجي والشراكات بمختلف أنواعها.
* يتفّق الخبراء أنّ الخروج من الأزمة أو على الأقلّ مغادرة منطقة الأزمة، يتطلّب سنوات. هل ترى ذلك ممكنا وسط عدم الاستقرار السياسي القائم حاليا؟
- الخروج من الأزمة سيكون صعبا وطويلا على المستوى الزمني. وعدم الاستقرار السياسي لا يساعد على شيء. لكن الأهم من ذلك أن البلد عرف انعدام نمو لمدة عقد كامل مع نسبة سلبية غير مسبوقة في 2020 بلغت قرابة 9 في المائة، في ظل انفجار للحاجيات. مما يعني أن التدارك يتطلب نسبة نمو مرتفعة وعلى مدى سنوات.
* ماذا يمكن طرحه من أفكار على مستوى العلاقات مع الجوار والدول الشقيقة والصديقة، لتعميق التعاون والخروج من الأزمة؟
- للأمر بعدان. يتعلق الأول بالفضاء الاقتصادي المغاربي والذي أرى أن رحاه يجب أن تكون جزائرية، المغرب الأوسط. فالبلد ذو ثروات طبيعية هائلة ويتجه نحو تحرير اقتصاده وتنويع منظومته الإنتاجية وصادراتها. مثل هذا النمط التنموي اتبعتاه على حد السواء تونس والمغرب اللتان تفتقدان للنفط والغاز. التكامل والتعاون في إطار استراتيجية تنموية لسوق المائة مليون مستهلك هو الحل.
أمّا البعد الثاني فيشمل تنويع العلاقات والشراكات الاقتصادية بما يعني الاتجاه شرقا كالانخراط فعليا في مشروع طريق الحرير وحزامه الواسع، الذي يشملنا، أيضا الاتجاه نحو البلدان الآسيوية الإسلامية الكبرى. لكن يبقى السؤال الحارق مطروحا: كيف نفعّل دبلوماسية اقتصادية ناجعة في ظل الوضع السياسي الراهن؟