تونس: مجرّد تغريدة على «تويتر»أو بالأحرى سطر إن لم نقل جملة منها، كان كافيا ليفهم الخاصّ والعامّفي تونس بكاملها، أن أوروبا لا ترى الانتقال الديمقراطي في هذا البلد، سوى عبر «حوار هادئ». لم تكن هذه «الرغبة» الصادرة عن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال عبر هذه التغريدة سوى «أمر» مبطن، بل فهمته جهات تونسيّة عديدة بصيغة «التهديد» في حال عدم الانصياع.
هذا الموقف الأوروبي الذي عبّر عنه أحد أهمّ المسؤولين عن هذا الاتّحاد الذي يمثّل الشريك الاقتصادي الأوّل لتونس على مستوى حجم المبادلات التجاريّة، وكذلك بالنظر إلى قيمة الاستثمارات الخارجيّة المباشرة، دون أنّ ننسى حجم «المساعدات» بجميع أصنافها، يعبّر بالتأكيد عن انشغال عميق جدّا، لما آلت إليه أوضاع هذا الجار المتربّع على مساحة ليست واسعة من الضفّة الجنوبيّة للبحر الأبيض المتوسّط، لكنّها شديدة الأهميّة على المستوى الاستراتيجي، ضمن جميع معاني الكلمة.
حسبت قطاعات واسعة من الأوساط السياسيّة في تونس أنّ هذا «الأمر المقنّع» في شكل نصيحة، الذي عبّر عنه أحد أهمّ المسؤولين في الاتّحاد الأوروبي بمناسبة الزيارة التي أدّاها رئيس الجمهوريّة التونسيّة قيس سعيّد إلى بروكسل للمشاركة في القمّة الثانية «تونس- الاتحاد الأوروبي»التي انعقدت يومي 3 و4 يونيو (حزيران) 2021، سيؤدّي إلى البدء أو على الأقّل إعلان حسن النوايا والتعبير عن الاستعداد للحوار، أو مجرّد تخفيض حدّة التوتّر القائم بين رأسي السلطة التنفيذيّة، أو في أضعف الإيمان الامتناع عن التصعيد، إلاّ أنّ الأمور شهدت أيّامًا قليلة بعد صدور «النصيحة» تصعيدًا شديد الخطورة، لا ينسف الآمال المرجوّة والتمنيات المعقودة، بل رفع سقف التوتّر بصفة جدّ ملحوظة، ما جعل أيّ أمنية للحوار أشبه بسراب انقشع في سرعة البرق...
القطرة التي أفاضت الكؤوس جميعها
فيما تعمل جهات عديدة بناء على «النصيحة الأوروبيّة» لإيجاد مخرج يحفظ ماء وجه الطرفين، ويفضي إلى حوار جدّي، تضع من خلالها الحروب جميعها أوزارها، أقدم هشام المشيشي على تنحية عماد بوخريص رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
سارع رئيس الجمهوريّة إلى استقبال هذا المسؤول المقال الذي، وفق الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة على موقع «فيسبوك»:«أطلع رئيس الدولة على كل الصعوبات التي وجدها وواجهها وعلى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى إقالته، فضلا عن الجوانب القانونية التي لم يقع احترامها في قرار الإقالة».
ردّ قيس سعيّد جاء بالصوت والصورة أمام الكاميرا معلنًا أنّ «الإعفاء طال من يقاوم الفساد، معتمدًا على معطيات كثيرة وصحيحة، ثم يرفع [أيّ هشام المشيشي رئيس الحكومة] شعار مقاومة الفساد»، ليضيف (مخاطبا عماد بوخريص): «كان متوقّعا أن يتمّ إعفاؤك لأنّك أثرت جملة من القضايا وقدمت جملة من الإثباتات، المتعلّقة بعدد من الأشخاص، من بين هؤلاء من تمّ رفض أدائهم اليمين الدستوريّة [في إشارة إلى عدد من الوزراء الذين رفض سعيّد أداءهم اليمين أمامه]، ممّن تعلّقت بهم قضايا فساد، وهناك من له قضيّة أمام القطب المالي [جهاز قضائي مكلّف بقضايا الفساد المالي]، وهناك من له ملفّات فساد، رغم عدم رفع القضايا ضدّهم، لكن بالاعتماد على الوثائق المتوفّرة، ثابت تورّطهم، أو أنّهم يختبؤون وراء عدد من الأشخاص ثمّ يتحدّثون عن مقاومة الفساد. عن أيّ (مقاومة) يتحدّثون؟ إنها (مقاومة من يقاومون) الفساد. يقاومون من تصدّى للفساد. هذا فضلا عن خرقهم للقانون الذي وضعوه. علما عن استحالة مقاومة الفساد من خلال الآليات التي وضعوها، بل عبر آليات أخرى. حيث جاءت تلك التي وضعوها بغاية إخفاء عدد من الملفّات. وصلتني بعض ردود الأفعال اليوم من عدد من الأشخاص والمنظمات، التي ساءها هذا الإعفاء وهذا التغيير، فضلا عن عدم احترام الجوانب القانونيّة عند الإعفاء».
لا أحد في تونس أو متابع لشأن هذا البلد، إلاّ وفهم أنّ تهمة «التغطية على الفساد وحمايته» موجهة مباشرة إلى هشام المشيشي رئيس الحكومة رأسًا ودون غيره.
عقدة جديدة تنضاف إلى سابقاتها، التي كانت ولا تزال منذ الشروع في تشكيل الحكومة، ليس فقط توتّر العلاقة بين رئيسي الحكومة والجمهوريّة، بل (وهنا الخطورة) صارت «جبهة الصدام» الأهمّ والأخطر في البلاد، التي على أساسها قام الاصطفاف الأخطر على الاستقرار في البلاد، وبسببها توتّرت الأوضاع وتعطلت دواليب الدولة ممّا يهدّد فعليا بانهيار اقتصادي وما ينتج عن ذلك ويتبعه من فوضى اجتماعيّة....
عودة فرنسا إلى «حماية» تونس
يمكن الجزم بأنّ الزيارة التي قام بها الوزير الأوّل الفرنسي جان كاستاكس، يومي 2 و3 يونيو (حزيران) الماضية، جاءت عاديّة جدّا. حديث عن حسن النوايا واستعداد فرنسي لمساندة تونس وأيضًا التعبير عن دعم التجربة الديمقراطيّة، إلاّ نقطة واحدة، ليس فقط شكّلت «مفاجأة» (بأتمّ معنى الكلمة)، بل صدمت قطاعات واسعة من السياسيين في تونس، حين اقترح هذا المسؤول الفرنسي الرفيع على مخاطبيه في تونس تشكيل «وكالة تصرّف في الديون»، تكون مهمّتها الأولى تولّي هذا الملفّ عوض الدولة التونسيّة، وثانيا إيجاد «حلول» لهذه المعضلة. علمًا أنّ فرنسا ستكون طرفًا في هذه «الوكالة»، بمعيّة أطراف أخرى، من بين الجهات التي قامت بإقراض تونس.
يذكر التونسيون جيّدا أن من أسباب تنصيب الفرنسيين في البلاد وأدّى إلى إمضاء «اتفاقيّة الحماية» مع فرنسا سنة 1881 ميلادية، ما أنجزه «الكومسيون المالي»، وهي لجنة مالية دولية تشكلت بتونس عام 1869، تحت ضغط بعض الدول الأوروبية، في ظرفية اشتدت فيها الأزمة المالية التونسية واستحال على الدولة تسديد ديونها الخارجية التي بلغت آنذاك 125 مليون فرنك.
يتساءل التونسيون عن مجالات التلاقي ونقاط الاختلاف بين سنتي 1869 و2021 ميلادية، بفاصل 152 سنة، فهل يعيد التاريخ نفسه، مع اختلافات ربّما؟
للإجابة عن هذه الأسئلة التقت «المجلّة» الأستاذ شكري الصيفي باحث في التاريخ من تونس لاستجلاء الأمر أوّلا، وثانيا البحث في مدى التطابق بين ما حدث سنة 1869 وسنة 2021 ميلادية، فكان هذا الحوار:
* هل ترى تشابها بين الوضع الحالي وما كان عليه الحال قبل تنصيب الكومسيون المالي؟
- يسقط الكثيرون في مقارنة أحداث تاريخية بعينها قد تتشابه بل وتتطابق. لكن سابقاتها مختلفة وظروفها أيضا. الكومسيون المالي جاء في ذروة الاستعمار المباشر وتقاسم المستعمرات مع بدء أفول الإمبراطوريات القديمة وصعود أخرى بفعل ثورة صناعية قلبت العالم وأزاحت الاقتصاد التقليدي. بالنسبة لتونس اليوم لا وزن حقيقيا لها في موازين المنظومة الاقتصادية الحالية، بل إن الكتلة المغاربية لا ثقل لها دوليا (في حال توحدت). تونس تبقى مجال نفوذ فرنسي برقابة أميركية وتدخلات متنوعة. لذلك فإن وضع الهيمنة لا يعد جديدا بل هو متحول، ولعل الكومسيون المالي الحقيقي اليوم هو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان تتفاوض معهما تونس لنيل قروض جديدة.
* وكالة التصرف في الديون التي تقترحها فرنسا، هل ترى لها نفس الدور؟
- يكفي أن تثير هذه الوكالة مثل هذا الجدل وأن تكون مشابهة للتجربة الفرنسية لتطرح عدة أسئلة بشأن تدخل خارجي في تسييرها. كما تأتي في ظل تراجع تصنيف تونس الائتماني الحالي والمستقبلي وارتفاع نسب البطالة والهجرة. مما يجعل تصريحا لمسؤول فرنسي رفيع المستوى في زيارة رسمية أقرب إلى الحقيقة خاصة إذا ما علمنا أن بلاده هي الشريك الرئيسي في أوروبا لتونس.
* كيف ترى بناء على قراءتك للتاريخ، الطريق الأيسر للخروج من الأزمة؟
- الأزمة السياسية والاقتصادية في تاريخ تونس الحديث والمعاصر متكررة وهي غالبا ما تأخذ منحى دوريا، يراه بعض المؤرخين المهتمين بالتاريخ الاقتصادي خاصة مرتبطا ببنية الإنتاج ومساراته. واقع الأزمة الراهن لا يجب أن يقتصر على العنصر المهم المرتبط بعجز نخب السياسة الصاعدة منها والتي تم تدويرها، ما بعد نظام بن علي، في إدارة الأزمة وتصريف الشأن العام، إذ لا بدّ أن ننظر إلى الأزمة الحالية كنتيجة لمسار من التخبط التنموي يعود إلى عقود مضت، عندما كرس القائمون على الحكومة خيارا اقتصاديا لا ينسجم مع موارد وإمكانيات تونس البشرية والاقتصادية والاجتماعية...
ما السبيل لتجاوز هذا الوهن؟ يجمع الاقتصاديون خاصة في ظل جائحة كورونا التي فاقمت العجز، أنّ لا حل سحريا لمجمل مشاكل توتس، في المقابل هناك فرص حقيقية تعتمد على رسم ملامح جيو اقتصادية واضحة لرصد احتياجات البلد... الجوار الليبي الجزائري يمثل جزءا لا يستهان به من الحل الناجع والإسرع ويأتي بالتوافق مع استعادة وتيرة الإنتاج الفلاحي والصناعي وتوجيهها وجهتها الصحيحة. لكن قبل ذلك وجب حسم الخلافات بين أقطاب الحكم وفق نظرة برغماتية ترسّخ التعايش السياسي وتُنجح تجربة الانتقال السياسي لتحقيق استقرار سياسي واجتماعي نسبي، لكن شديد الأهميّة لبلد يعيش مثل الأزمة التي تعيشها تونس.