قالت "ديلما روسيف" رئيسة البرازيل -بعد اجتماع مع "سيب بلاتر" رئيس الاتحاد الدولي (الفيفا) (رويترز 23 يناير)- إنه لن تكون هناك مشاكل فيما يتعلق باستعدادت بلادها لاستضافة نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2014، وأكدت روسيف أن البرازيل سوف تستضيف "أروع نهائيات لكأس العالم على الإطلاق".
الخبر يعبر (ربما) عن الإنجاز والتحدي معًا؛ التقدم الاقتصادي والسياسي الذي حققته البرازيل وجعلها مؤهلة لاستضافة بطولة كأس العالم، وفي الوقت نفسه السؤال الملح والمقلق عن مستوى التقدم والاستقرار والأمان والخدمات والمرافق التي تجعل البرازيل قادرة على استضافة الملايين، الأمن والاستقرار، والقدرة التنظيمية والإدارية، والمطارات والفنادق والملاعب والمدرجات والطرق والمواصلات والمطاعم؟!
تقول روسيف رئيسة البرازيل: نحن مستعدون، .. ولكنها مناسبة للنظر والتساؤل عن التقدم المدهش الذي حققته البرازيل اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا في غضون سنوات قليلة، وفي الوقت نفسه الخوف والتساؤل عن مدى صلابة وتماسك هذا الإنجاز!
أسطورة دي سيلفا
تبدو البرازيل اليوم مثالاً عالميًّا يقتدى حتى في دول الشمال المتقدم، ويعول تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية على النموذج البرازيلي للخروج من الأزمة العالمية وإنقاذ الفقراء، وهي تجربة مرتبطة برئيس البرازيل السابق دي سيلفا..
يعبر "دا سيلفا، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا"؛ الرئيس البرازيلي السابق عن أسطورة مدهشة، لعلها تفوق أسطورة أوباما، فهذا العامل الكادح الذي ترك المدرسة في الصف الخامس الأساسي ليعمل في السوق والورش، ثم عاملاً حرفيًّا ثم نقابيًّا ورئيسًا لحزب العمل فرئيسًا للبرازيل، يشكل أسطورة مدهشة، ولكن الأسطورة ليست في تطور العامل البسيط إلى رئيس جمهورية البرازيل (200 مليون نسمة ومساحتها 9 مليون كم2) خامس أكبر دولة في العالم، ولكن "دا سيلفا" وحزبه الحاكم استطاع أن يحول البرازيل إلى دولة ناجحة، وتمثل البرازيل اليوم نموذجًا عالميًّا ناجحًا يصلح للاقتداء حتى في دول الشمال الغنية والمتقدمة.
بدأ "سيلفا" حياته عاملاً بسيطًا ليساعد أمه وإخوته، ثم يدرب نفسه إلى حرفي تعدين، ثم نقابي نشيط يواجه الاستغلال ويسعى لتحسين أوضاع العمال، لينتخب عام 1978 رئيسًا لنقابة عمال الحديد، والتي كانت تضم مائة ألف عامل! وتعرض للاعتقال والمحاكمات العسكرية، ثم بدأ في الثمانينات يخوض العمل السياسي لمواجهة الحكم العسكري، فشارك في تأسيس وقيادة حزب العمل، وانتخب عام 1986 نائبًا، ثم انتخب رئيسًا لجمهورية البرازيل عام 2002 وجدد رئاسته عام 2006، وفي عام 2011 خلفته "ديلما روسيف" زميلته في حزب العمال.
استطاع "سيلفا" أن ينقل البرازيل من دولة فقيرة فاشلة إلى دولة ناهضة يراها تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية محركًا أساسيًّا للأسواق العالمية، ويعول عليها مع الهند والصين أن تقود العالم في أزمته الاقتصادية الضاربة منذ خمس سنوات.
كيف استطاع هذا العامل الفقير الذي لم يكمل تعليمه المدرسي أن يقود دولة كبيرة مثل البرازيل، ثم ينظر إليه العالم كمخلص من الأزمة؟ المسألة ببساطة هي العدالة الاجتماعية دون التخلي عن السوق، وتطوير الدور الإنمائي للدولة دون تعطيل الشركات والمجتمعات، يقول أوباما: إن "سيلفا" هو اليوم الأكثر شعبية في الكرة الأرضية!
كان نجاح "دي سيلفا" في الانتخابات الرئاسية يبدو للوهلة الأولى صدمة للرأسمالية ورجال الأعمال في البرازيل والولايات المتحدة ودول القارة الأمريكية، ولكن السوق البرازيلي والعالمي يبدو اليوم أكثر اطمئنانًا وامتنانًا لهذا الرجل العظيم الذي حول البرازيل من بلد مفلس إلى بلد يتمتع بفائض يزيد على مائتي مليار دولار!، ويحظى بالمرتبة الثامنة بين الدول حسب قوتها الاقتصادية (2.3 تريليون دولار)، وأن يخفض عدد الفقراء في بلده ويرفع مستوى دخلهم ومشاركتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأن يحدث الجيش البرازيلي، وأن تحظى البرازيل باستضافة بطولة كأس العالم عام 2014 ودورة الألعاب الأولمبية عام 2016 تتويجًا لصعودها العالمي متخطية الدول الكبرى التي تنافس لأجل ذلك مثل الولايات المتحدة وإسبانيا واليابان، ودون أن يتخلى عن الاشتراكية أو فكرتها الجوهرية وهي العدالة الاجتماعية.
الوجه الآخر
ولكن في المقابل ثمة تقارير صحفية اقتصادية عن تراجع أسواق المال البرازيلية، وكان التضخم (5.91%) أعلى مما توقعت الحكومة (4.5%) لنهاية العام الماضي، ورفع البنك المركزي أسعار الفائدة بنسبة كبيرة، ويشكل الفائض المالي (1%) نسبة إلى الناتج المحلي أقل مما هو مطلوب لتحقيق الاستقرار في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، وقد يؤدي ذلك إلى خفض قيمة العملة والتصنيف الائتماني، ولن يتجاوز النمو الاقتصادي نسبة 2.2% أي بلا تغيير عن العام الماضي.
ويتوقع أن يؤدي كاس العالم إلى نشاط اقتصادي في بيئة محدودة مثل الأطعمة والمشروبات والسياحة وشركات الطيران والفنادق وبيع التجزئة والإلكترونيات، ولكن أيضًا فقد يكون لهوس البرازيليين بكرة القدم أثر سلبي على العمل والإنتاج.
وقد اندلعت في الفترة الماضية مظاهرات احتجاجية واسعة في البرازيل، وتدخلت الشرطة لفض هذه المظاهرات بالغازات المسيلة للدموع، وقد يشكل ذلك تحديًا لتنظيم البطولة إذا استمرت هذه المظاهرات، كما أن وسائل الإعلام تتحدث عن تردي مستوى الخدمة والتنظيم، فحتى في الظروف الحالية قد يدفع المشجع ثمنًا باهظًا لتذكرة حضور المباراة، ولكنه يفاجأ بالفوضى وصعوبة المواصلات والنقل، فقد يحتاج إلى 3 ساعات للوصول إلى مكان المباراة والعودة منه.
[caption id="attachment_55250006" align="alignleft" width="227"] دي سيلفا .. أسطورة البرزايل الحديثة[/caption]
[blockquote]يعبر "لولا دا سيلفا"؛ الرئيس البرازيلي السابق عن أسطورة مدهشة، لعلها تفوق أسطورة أوباما[/blockquote]
هناك نوعان آخران من المظاهرات المعارضة لكأس العالم، إحداهما وطنية تحتج على التكاليف الباهظة وعدم الجدوى الاقتصادية لاستضافة كأس العالم، والأخرى هي المجموعات المناهضة للعولمة والتي اتخذت اسما آخر هو المنتدى الاجتماعي العالمي، ومن المعلوم أن مدينة بورتو اليغري البرازيلية كانت مقرًا للملتقيات المناهضة للعولمة (يضيف عادة الرأسمالية) حتى إنها اعتبرت المدينة المقابلة لدافوس، بمعنى العولمة الاجتماعية إن صح التعبير في مواجهة العولمة الرأسمالية، ويقال رمزيًّا بورتو اليغري في مواجهة دافوس.
وفي إطار التداعيات العالمية للربيع العربي فقد جرت مظاهرات واسعة في البرازيل مثل دول أخرى في العالم (ومنها الولايات المتحدة، مثل حركة احتلوا وول ستريت)، ووجد المتظاهرون في البرازيل محتوى واسعًا للمعارضة والاحتجاج، فقد شارك مئات الآلاف احتجاجًا على مجموعة من القضايا مثل ارتفاع أجور النقل العام، وبناء ملاعب فخمة مكلفة، وتراجع مستوى الخدمات العامة..
وحسب نيويورك تايمز (17 حزيران يونيو/2013) فإن المظاهرات التي جرت هي الأعنف والأكثر جماهيرية في البرازيل منذ عام 1985 وهي المظاهرات التي أسقطت الحكم العسكري في البرازيل، وأسست لانتخابات ديمقراطية شارك فيها الرئيس السابق "دا سيلفا" وانتخب نائبًا عن ولاية سان باولو.
وقد استخدم العنف لقمع المظاهرات وتفريق المتظاهرين، وحسب الصحيفة ووكالات الأنباء فإن مائة ألف متظاهر اقتحموا مبنى المجلس التشريعي لولاية سان باولو واشعلوا فيه النيران، وصعدوا على سطح المبنى وهم يغنون ويرقصون، وبالمناسبة فهو مبنى حديث صممه المهندس المعماري "أوسكار نيماير".
مثل هذه الاحتجاجات -برأي من تصفهم نيويورك تايمز بالمحللين- كانت واسعة غير شائعة نسبيًا في البرازيل، وقد تعبر عن ثقافة جديدة مقتبسة من دول مجاورة أو بعيدة؛ الاحتجاج على عدم المساواة، وضعف مستوى الخدمات العامة.
ولكن الحركات الوطنية والاجتماعية (العولمية) تراجع مستوى زخمها، ولم تعودا تملكان التأثير والجماهيرية التي كانتا عليها في الفترة بين عامي 1999 – 2007، وربما يعود ذلك إلى التكاليف المالية المرتفعة لتنظيم هذه البرامج والأعمال، وتحول العولمة الرأسمالية نفسها إلى اتجاهات مؤثرة في العدالة الاجتماعية والاقتصاد الاجتماعي، وبخاصة بعد الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية.
البرازيل: تقدم في التنمية البشرية
برغم صحة ما يقال عن التضخم وتباطؤ النمو في البرازيل والاحتجاجات ضد السياسات الاقتصادية فإنها لا تخفي التقدم الاقتصادي والاجتماعي في البرازيل، والتي كانت تعاني من أبشع أنواع الجرائم وخطف الأطفال واستغلالهم جنسيًّا، والفوارق الاقتصادية والاجتماعية الهائلة بين طبقات المجتمع، ويقول المسؤولون البرازيليون إنهم لا ينظرون بقلق إلى هذه المظاهرات والاحتجاجات، وإن كانوا قلقين من النوع الأول وهو الاحتجاج على سوء إدارة وتنظيم بطولة كأس العالم؛ لأنها إن حدثت في أثناء المباريات فسوف تعطل وتربك المونديال وتنظيمه، وتزيد التوتر والضغط على المرافق والمواصلات، وتؤدي إلى اختناقات عظيمة.
وعودة إلى تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة للعام 2013، فقد أشاد التقرير بأداء مجموعة من دول الجنوب (الاقتصادات الناشئة) ومنها البرازيل؛ ما يخولها برأي التقرير ليــس فــي تأميــن المــوارد الماليــة لدعــم عمليــات التنســيق والتعــاون الإقليمي والمتعــدد الأطــراف فحســب، بــل المســاهمة فــي المــداولات لنقــل تجاربهــا الناجحــة فــي إنجــازات التنميــة البشــرية والسياســات العمليــة فــي الكثيــر مــن المجــالات.
وهي نهضة تؤدي إلى مزيد من التنوع في الساحة العالمية وأصوات جديدة لأجل عالمية لمشكلات يواجهها العالم بأسره، كما أنها يمكن أن تساهم في توفير كثير من السلع الأساسية والتخفيف من آثار التغير المناخي، ومواجهة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي ومكافحة الإرهاب، كما أن للتراكم الاحتاطي المالي والثروة السيادية التي حققتها دول الجنوب يساهم في تحريك اقتصاد الدول الفقيرة، ورفع مستوى وتيرة التقدم الاقتصادي العالمي.
وفي عام 2011 كانت سبع شــركات برازيليــة مــن أكبــر شــركات العالــم فــي قائمــة "فورتشــن غلوبــل 500". محققة زيادة عما كانت عليه في العام 2006 حيث كانت 3 شركات فقط، وفي عام 2007 اشتركت شركة "جي بي اس فريبوي" البرازيلية للأغذية شركة "سويفت" الأمركية المنافسة لها لتسهيل دخولها إلى أسواق الولايات المتحدة.
[blockquote]يتوقع أن يؤدي كاس العالم إلى نشاط اقتصادي في بيئة محدودة مثل الأطعمة والمشروبات والسياحة وشركات الطيران والفنادق وبيع التجزئة والإلكترونيات، ولكن أيضًا قد يكون لهوس البرازيليين بكرة القدم أثر سلبي على العمل والإنتاج.[/blockquote]
واســتثمرت البرازيــل مبالــغ كبيــرة فــي معــدات التعديــن فــي مناجــم كونكــوال للنحــاس فــي المقاطعــة الشــمالية الغربيــة لزامبيــا بــإدارة شــركة هنديــة، وتدير شــركة فــال البرازيليــة الكبيــرة للتعديـن مشــروعًا مشــتركًا مــع شــركة "راينبــو" مــن جنــوب أفريقيــا بالتنقيــب عن النحاس والتعديــن فــي زامبيــا، وكانت القيمة الأولية للاستثمار 400 مليــون دولار، ووقعت البرازيل وزامبيــا اتفاقــات تعــاون فنــي فــي قطاعــي الماشــية والصحــة. وتعتبــر البرازيــل والصيــن والهند من أكثــر الجهات فعاليــة فــي تقديــم المســاعدة الإنمائيــة، وبخاصة لبلــدان جنــوب الصحــراء الأفريقيــة الكبــرى، فقد نقلت البرازيــل برنامــج المنــح الدراســية الناجــح وبرنامــج محــو الأميــة إلــى شــركائها فــي أفريقيــا. وفــي عــام 2011 كان لديها 53 اتفاقًا صحيًّا ثنائيًّا مع 22 بلدًا أفريقيًا.
وكانــت التكنولوجيــا الزراعيــة أيضــا إحدى نقاط القوة في البرازيل، ويقدر أنهــا فــي عــام 2006 أنفقــت 41 فــي المائــة مــن مجمــوع إنفــاق أمريــكا اللاتينيــة علــى الأبحــاث الزراعيــة. وســاهم نظــام الأبحــاث الزراعيــة والابتــكار فيهــا إلــى حــد كبيــر فــي زيــادة كفــاءة القطــاع الزراعــي للعامــل الزراعــي الواحــد مــا يقــارب أربعــة أضعــاف، وقامــت مؤسســة البرازيــل للأبحــاث الزراعيــة، وهــي مؤسســة مملوكــة للدولــة بــدور فعــال فــي زيــادة مســاحة الأراضــي التــي يمكــن اســتخدامها للزراعــة. وطــورت البرازيــل العديــد مــن البرامــج الزراعيــة التــي تعمــل علــى أســاس عامــل الاســتدامة. فلكــي يكــون المزارعــون مؤهليــن للحصــول علــى دعــم الأســعار وبرامــج الائتمــان، ينبغــي أن يلتزمــوا بقوانيــن تقســيم المناطــق. ويوفــر برنامــج آخــر هــو برنامــج موديراغــرو Moderagro، قروضــًا للمزارعيــن لتحســين ممارســاتهم الزراعيــة والحفــاظ علــى المــوارد الطبيعيــة. ويوفــر برنامــج برودوســا Produsa قروضًا للزراعــة فــي الأراضــي ذات التربــة المتدهــورة، فــي حيــن يقــدم برنامــج بروبفلــورا Propflora قروضــًا لتشــجيع زراعــة الغابــات وخاصــة شــجر زيــت النخيــل.
وبدأت البرازيــل حسب تقرير الأمم المتحدة في التحول إلى دولة إنمائية عام 1994 وكانت الحكومة قد نفذت إصلاحات اقتصادية لكبح التضخم، مــن خــلال خطة "ريال"، وأتمــت تحريــر التجــارة الــذي بدأتــه فــي عــام 1988 بتخفيــض التعريفــات الجمركيــة وإزالــة القيــود الأخــرى، وتبــع ذلــك انفتــاح تجــاري وسياســة نقديــة وماليــة حكيمــة، وكذلــك برامــج اجتماعيــة مبتكــرة أدت إلــى الحــد مــن الفقــر وتقليــص الفــوارق فــي الدخل. وفــي المجتمعــات الكبيــرة والمعقــدة، مــن البديهــي أن تكــون نتائــج أي سياســة غيــر مؤكــدة، لذلــك تحتــاج الــدول الإنمائيــة إلــى توجــه عملــي، يمكنهــا مــن اختبــار مجموعة من المناهج المختلفة.
البرازيل والتحولات الكبرى
شهدت القارة الأمريكية الجنوبية في السنوات الاخيرة تحولات كبرى، وأخذت وجهة اقتصادية وسياسية واجتماعية جديدة، وتتميز الحركات السياسية في أمريكا اللاتينية -والتي وصلت إلى الحكم في عدة دول- باستلهامها الدين المسيحي باعتبار التعاليم المسيحية تحض على مناصرة الفقراء والعدالة الاجتماعية، وتعتبر المسيح -عليه السلام- قائدًا اجتماعيًّا متواضعًا منحازًا للفقراء، وتقف الكنيسة هناك أيضًا موقفًا مناصرًا للعدالة الاجتماعية، وتدعو لمناهضة الهيمنة الرأسمالية.
وفي علاقتهما معًا فإن الكنيسة والحركات اليسارية والنقابية والاجتماعية قد أنتجتا نموذجًا تفاعليًّا يؤثر فيه كل طرف في الآخر على نحو إيجابي وفريد، ذلك أن التحالف السياسي والنضالي بين الحركات السياسية وبين الكنيسة جعل كلاً منهما يتجه نحو اليسار الاجتماعي، فلم يعد "أورتيغا" -رئيس نيكاراغوا المنتخب- هو الثائر الماركسي المؤمن بدور الدولة والتأميم الاقتصادي، ولكنه يدعو إلى نظام اقتصادي منفتح يكون للقطاع الخاص والاستثمارات التجارية فيه دور كبير، ولكنه يحقق في الوقت نفسه العدالة الاجتماعية والرفاه والتنمية لجميع المواطنين وعلى نحو عادل، وفي الوقت نفسه فإن الكنيسة المتحالفة مع اليساريين تنظم عمليات ومؤسسات اجتماعية ونقابية تناضل لأجل العدالة الاجتماعية والتنمية والحريات.
وفي البرازيل تبنت الكنيسة هوية جديدة بوصفها "كنيسة الشعب"، وكان لذلك دور كبير في التحول الديمقراطي، وقد بدأ الخلاف بين الدولة والكنيسة في البرازيل منذ القرن التاسع عشر بعدما كانت الكنيسة مؤسسة تابعة للدولة في البرازيل ومن قبل للتاج الإسباني، ولكن جرت تسوية هذه الخلافات، وأعيدت الكنيسة إلى التضامن مع السلطة.
[caption id="attachment_55250007" align="alignleft" width="300"] واجهت البرازيل اجتجاجات مناهضة لكلفة استضافة كأس العالم[/caption]
ولكن الحركات الاجتماعية التي نشأت في البرازيل وبخاصة بعد سياسات إهمال الريف وتجاهل الفقراء شملت الكنيسة لتشارك في برامج الإصلاح الزراعي، والانحياز لخيار الفقراء مما جعلها توصف بأنها "كنيسة الشعب" بل وتحول أساقفة الكنيسة إلى دعاة راديكاليين يهاجمون الأوضاع غير الإنسانية للفقراء والمزارعين، ويدعون علنًا إلى الاشتراكية ومناهضة الرأسمالية.
وساهمت الكنيسة في تشكيل ونشأة الحركات النقابية الريفية، ومواجهة الحكم العسكري الذي جاء نيتجة انقلاب عام 1964 وبدأت مواجهة قوية بين الكنيسة وبين الدولة موضوعها حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وكان رد الكنيسة على سياسات الحكومة والاستثمارات الرأسمالية التي أدت إلى نشوء هجرة واسعة من الريف إلى المدن، وقيام أحزمة البؤس حولها بمساعدة الهنود والريفيين على تنظيم أنفسهم، وتقديم الدعم والحماية لهم في مواجهة الإقطاعيين والسلطات المحلية والمركزية والشركات الاستثمارية، وأنشئت أيضا مؤسسات كنسية من الأساقفة لهذه الأغراض، مثل اللجنة الرعوية لشؤون العمال والسكان الأصليين (الهنود)، ولجنة العدل والسلام لتنسيق النشاطات الإنسانية والاجتماعية والنقابية، والعمل السياسي والإعلامي في مواجهة التعذيب والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
ومع بداية الثمانينات كان يعمل في البرازيل حوالي 8000 جمعية كنسية تعمل كتنظيمات شعبية بين الطبقات الفقيرة بين البرازيليين البالغ عددهم حوالي 150 مليونًا يعاني نصفهم على الأقل من الفقر، ويعيشون على الهامش، وتعتبر الكنيسة هناك صوتهم الأساسي في مواجهة حالة لا يجدون فيها تمثيلاً لآرائهم واهتماماتهم، فالكنيسة كما توصف هناك "صوت من لا صوت له".
إن الدرس المهم الممكن أن يستفيد منه عالم الجنوب بخاصة هو أن الثقافة الدينية والتاريخية والاجتماعية يمكن أن تشكل موردًا لاستنهاض الهمم، وإنشاء نموذج سياسي واقتصادي يجعل من العولمة والرأسمالية موردًا للعدالة الاجتماعية والتنمية والإصلاح أيضًا، فلم تعد المجتمعات والدول أمام خيارين لا ثالث لهما، ولكنها يمكن أن تبدع نظامًا تعاونيًّا بين الحكومات والمجتمعات والشركات والأفراد يحقق لجميع مكونات وعناصر المجتمع والدولة أهدافها.