بيروت: 300 دولار فقط، لولا هذا المبلغ «كنا متنا من الجوع»، هكذا يصف هيثم (35 عاما- وهو عاطل عن العمل)، لمجلة «المجلة» معاناته اليومية في لبنان بعدما أصبح يعتاش هو وعائلته على المبلغ المالي الذي يرسله شقيقه المغترب في السعودية؛ «انقلبت حياتي رأسا على عقب، فجأة وجدت نفسي بلا عمل بعدما قررت إدارة المطعم الذي كنت أعمل فيه فصلي بسبب الأزمة الاقتصادية التي فاقمتها جائحة كورونا والإقفال العام».
حال هيثم كحال عشرات آلاف الأسر في لبنان، التي أصبحت تعتمد بشكل أساسي على ما يرسله ذووها من «فريش دولار»، بعدما هبطت مداخيلها مع انهيار العملة الوطنية، وبات أفرادها ينتظرون بفارغ الصبر هذه التحويلات التي رفعت من مستوى معيشتها بعكس غالبية اللبنانيين غير المحظوظين، مع فقدان العملة الوطنية 82 في المائة من قيمتها أمام الدولار الأميركي.
ويمكن القول إنه في قلب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي لم يشهد لها لبنان مثيلا منذ عقود، باتت أموال المغتربين، طوق نجاة للعديد من الأسر، لمواجهة التحديات المعيشية والغلاء الفاحش والتضخم الكبير، ففي الإحصاءات تعتمد الأسر اللبنانية على تحويلات المغتربين المالية التي تدعم نحو 200 ألف عائلة؛ وقد تقلّصت هذه التحويلات من 15 مليار دولار سنويًا إلى ما دون 10 مليارات.
وتقدّر حجم التحويلات من الخارج إلى لبنان بـ7 مليارات دولار سنويا عبر المصارف وشركات التحويل أيضاً، إضافة إلى كميات كبيرة تأتي إلى لبنان مع المسافر اللبناني مباشرة ويقدر حجمها بأكثر من 4 مليارات دولار سنوياً، بحسب ما أشار الباحث في «الدولية للمعلومات»، محمد شمس الدين لـ«المجلة».
إلاّ أنّ المفارقة أن قيمة الدولارات الوافدة إلى لبنان، باتت تشكل قيمة أكبر من السابق، بسبب ارتفاع سعر صرفها بالليرة اللبنانية التي تتهاوى بشكل دراماتيكي.
فالدكتور عدنان، وهو طبيب مهاجر في رومانيا، أشار لـ«المجلة» إلى أنه، قلّص المبلغ الذي يرسله إلى زوجته في لبنان، منذ العام الفائت، إلى ما دون الألف دولار بسبب انهيار الليرة، علما أن المبلغ يساوي ما يقارب الـ10 ملايين ليرة، وهو ما يكفي زوجتي وابني حتى إنه يفوق حاجتها على حد قوله.
وبحسب عدنان، فإن أسرته باتت قادرة على ادّخار مبلغ كبير من التحويلات، بعد أن كانت مضطرة إلى إنفاق كامل المبلغ ما قبل الأزمة.
الـ«فريش دولار» حلم كل لبناني
كان المغترب اللبناني يحتاج في السابق ربما إلى إرسال 800 دولار شهرياً إلى عائلته، لكن بإمكانه الآن أن يكتفي بتحويل 400 دولار على سبيل المثال، لأن سعرها في السوق السوداء صار أكبر، برغم التضخم الحاصل في الأسعار، حيث لا تزال الدولة تطبق السعر الرسمي (1500 ليرة) فيما يتعلق بسلع أساسية مثل البنزين والمازوت والاستشفاء والدواء والإنترنت والجمارك وغيرها، وعلى الرغم من أنّ أسعار السلع ترتفع بشكل خيالي، إلّا أنّ أسعار المواد الاستهلاكية والغذائية باتت، نسبةً إلى سعر صرف الدولار، أرخص بكثير لمن يحصل على مدخول دولاريّ «فريش»من الخارج.
وفيما بلغ حجم تحويلات المغتربين الوافدة إلى لبنان بـ6.2 مليار دولار أميركي في العام 2020 (6.9 مليار دولار في العام 2019) ليحل لبنان بذلك في المركز الثالث إقليمياً، بحسب تقديرات البنك الدولي، أشار الخبير الاقتصادي والمصرفي، نسيب غبريل في حديث لـ«المجلة»إلى أن «التحويلات تراجعت 15 في المائة، وهذا الأمر طبيعي بسبب فيروس كورونا الذي اجتاح العالم والتي أثرت على مصادر تحويلات المغتربين ليس للبنان فحسب إنما لجميع البلدان النامية بسبب الانكماش الاقتصادي الذي تسبب به هذا الوباء».
كما لفت إلى أن «تحويلات المغتربين ليست بأمر جديد على لبنان بسبب الأزمة الاقتصادية، فهي لطالما شكلت مصدرا أساسيا للعائلات في لبنان تاريخيا، ويبلغ معدلها سنويا 7 مليارات دولار أميركي تقريبا، وهي تستخدم لأغراض الاستهلاك اليومي ولسد الحاجات وليس للاستثمار، وبالتالي تساعد على رفع المستوى المعيشي والصحي»، وتابع: «أما اليوم، فإن قيمة هذه الأموال ارتفعت بالتأكيد مع تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار».
ولفت إلى أن حوالي 35 في المائة من تحويلات المغتربين تصل إلى لبنان من خلال المصارف التجارية، و25.7 في المائة عن طريق الأقارب أو الأصدقاء القادمين إلى لبنان والذين يحملون المبالغ نقداً معهم، و25.6 في المائة عبر شركات التحويل المالي بالوسائل الإلكترونية، وقال إن هذه النسب كانت سائدة قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان إذ من المرّجح أن تكون نسبة التحويلات عن طريق الزائرين ارتفعت.
وشدد على أهمية حجم هذه التحويلات الذي يوازي ما نسبته 23 في المائة من الناتج المحلي في 2020، مقابل التضخّم وتراجع القدرة الشرائية لدى معظم اللبنانيين.
إلى ذلك، أكّد غبريل على الأهمية الحيوية لـ«الفريش دولار»، خصوصا مع توقف تدفق رؤوس الأموال من معظم المصادر الأخرى للبنان، مشيرا إلى أن «تحويلات المغترب اللبناني لذويه مستمرة بغض النظر عن الأوضاع في لبنان، لأن هذا الأمر بمثابة التزام شخصي للمغترب تجاه عائلته»، مضيفا أن «بحوث صندوق النقد الدولي تشير إلى أن التحويلات ترتفع عندما يكون ثمة أزمة في البلدان التي تعتمد على التحويلات، وفي لبنان التراجع ليس بسبب الأزمة الاقتصادية إنما بسبب تداعيات كورونا».
وعن مدى قدرة هذه التحويلات على «فرملة» الانهيار المالي وتدهور سعر صرف العملة الوطنية، لا سيما بعدما أشارت التقديرات إلى أنه لا سقف لتحليق الدولار، قال غبريل إن «من شأن التحويلات الدولارية ومجيء المغتربين إلى لبنان ضخ عملة صعبة في الاقتصاد اللبناني، وتابع: «ربما حدّت التحويلات من تراجع سعر صرف الليرة في السوق الموازية ولكن لا يمكن الجزم، لأن السوق الموازية تخضع للمضاربة والمضاربين، لافتا إلى أن «كل الأرقام التي تتحدث عن أن الدولار سيصبح بـ30 و50 ألف ليرة، هي مجرد تهويلات ومزايدات غير مبنية على أسس علمية، إضافة إلى أن السوق السوداء هي سوق غير شفافة ولا تخضع للرقابة، وهي كذلك تتأثر بالطلب الخارجي (مثل سوريا) على دولار لبنان إضافة للعوامل السياسية».
كما أكد على أنه «في ظل عدم وجود أي خطة إصلاحية وعدم وجود سلطة تنفيذية وعدم التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وعدم وجود أي سيولة تأتي من الخارج على شكل تحويلات أو سياحة، فمن شأن التحويلات المساعدة نوعا ما»، مشيرا إلى أنه «حتى التعميم الصادر عن مصرف لبنان الذي يتيح سحب 400 دولار كاش للمودعين (بعدما كانت الودائع بالعملات الأجنبية تسدد بالليرة مقابل 3900 ليرة مع بدء الأزمة علما أن الدولار الواحد تجاوز عتبة 14 ألف ليرة)، من شأنه ضخ دولارات في السوق والمساعدة على لجم تراجع سعر الصرف في السوق السوداء».
وشدد غبريل على أنه «لا يمكن بعد مرور سنة ونصف السنة على الأزمة، وعشرة أشهر على استقالة الحكومة أن يبقى الوضع على حاله»، مشيرا إلى أن «سبب الأزمة هو سوء إدارة الشأن العام ولكن الوضع الذي وصل إليه لبنان اليوم هو بسبب سوء إدارة الأزمة، وهذا الأمر أسوأ من جذور الأزمة»، مؤكدا على أن «لبنان ليس البلد الوحيد الذي يتوقف فيه تدفق رؤوس الأموال وتهرب فيه رؤوس الأموال إلى الخارج بسبب فقدان الثقة، ولكن حكومات الدول بغض النظر عن ميولها الآيديولوجية تتخذ إجراءات فورية لمعالجة الأزمة، أما في لبنان فإن الأزمة أصبح عمرها سنة ونصف ولم يتخذ أي إجراء لوقف الانهيار».
تحويلات المهاجرين.. الرئة المالية لاقتصاد لبنان
وعلى الرغم من الضمور الذي أصاب الأموال المحولة من الخارج، فإنّ هذه الأموال هي الرئة التي يتنفس منها لبنان، وهي واحدة من أبرز العوامل التي ساهمت في منع الانفجار الاجتماعي وفرملة انهيار الليرة حتى اللحظة من خلال منحها شبكة أمان لعشرات آلاف الأسر ومساعدتهم على الحفاظ على الحد الأدنى من قدرتهم الشرائية ومواجهة تضخم الأسعار والفقر والبطالة، بعد أن تراجع الناتج القومي فيه من 50 مليار دولار إلى حوالي 18 مليار دولار، ومع تراجع القوة الشرائية لليرة اللبنانية بنسبة 90 في المائة.
اما أخطر ما في الأمر، فهو الفجوة الكبيرة التي أحدثتها هذه الأزمة الاقتصادية في المجتمع اللبناني، فكما رفعت قسما من المجتمع فوق الريح، أصبح القسم الأكبر من اللبنانيين «تحت سابع أرض»مع تدهور قيمة رواتبهم التي يتقاضونها بالليرة عند تجاوز الدولار عتبة الـ13 ألف ليرة، دون وجود أي مصدر خارجي يخفف عنهم الأعباء المعيشية، فيعمد جزء صغير من الموظفين الذين يعملون لصالح مؤسسات خارجية ويتقاضون رواتبهم بالدولار لشراء عقارات وأراض بعدما باتت هذه الرواتب تساوي 8 مرات ما كانت تساويه قبل نحو عام وأصبحت حياتهم رفاهية. وتقول لارا (32 عاماً) تعمل في إحدى شركات الأدوية وتتقاضى ما يقارب الـ5 آلاف دولار شهريا، أنها من بين اللبنانيين المحظوظين الذي يتقاضون رواتبهم بالعملة الصعبة، مشيرة إلى أنها تحاول استغلال الفرصة لتحسين أوضاعها هي وأسرتها عبر شراء عقار أو منزل ثان، مشيرة إلى أن حياتها انقلبت رأسا على عقب وبالطبع بالمعنى الإيجابي.
من جهة ثانية، يتقاضى 90 في المائة من اللبنانيين رواتبهم بالليرة اللبنانية، ويسعى قسم كبير من الشباب اليوم للهجرة بعدما باتت رواتبه تساوي ما بين 70 و500 دولار أميركي، وبالكاد تكفيه أسبوعين نتيجة الغلاء الجنوني، ويبحث قسم آخر عن عمل يقوم به من دون أن يضطر للهجرة لصالح مؤسسات إقليمية ودولية تحوّل له الدولارات «الفريش»، ومن حالفهم الحظ وينتظرون تحويلات الأقارب للعيش وتحدي الواقع الاقتصادي المزري.