أصبح «صك» مصطلح جديد يضاف إلى لقائمة «المابعديات» هو - في حالات كثيرة - هدف بحد ذاته واختنقت الموضوعية تحت ركام ضخم من الصياغات اللغوية الضخمة الفخمة التي خدعت القارئ والكاتب معا، وأخفت وراء بريق اللغة حقيقة أن الجهة «منفكة» بين النتائج والمقدمات وأن اللغة هي الشكل والمضمون.
وخلال عملي مع المفكر العربي الإسلامي المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، لاحظت في حوارات كثيرة معه أنه كان يرى أن «موجة المابعديات» ليست سوى مسار يفضي «معرفيا» إلى هدم كل ما هو حقيقة، أو أساس مستقر، أو قانون مطلق، أو فكر شامل، وقصد بذلك ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الليبرالية، وما بعد العقلانية، إلى غيرها من المابعديات التي يصفها المسيري بـ«الفوضوية والعبثية واللاشيئية»، وهو يرى أنها «شهادة وفاة» لـ«موجود» دون كتابة «شهادة ميلاد» لما يحل محله، وهي بالتالي - حسب رأيه - تعبير عن حالة من التشاؤم.
ومع التطورات في مصر منذ الثالث من يوليو (تموز) يتحدث غير قليل من المحللين السياسيين عن «نهاية الإسلام السياسي» بوصفه السمة المميزة لمرحلة تلي «حتما» فترة حكم الرئيس الإخواني المعزول الدكتور محمد مرسي. وأول الملاحظات على هذا النزوع الواسع الانتشار في الخطابين السياسي والإعلامي إلى تبني حتميات وإطلاق أحكام قاطعة، أنه قد يكون مفهوما - وإن بقي غير مبرر - أما انتقال هذا النزوع المابعدي - مصحوبا بحتمياته وأحكامه القاطعة - إلى الخطاب التحليلي الذي يفترض أنه أكثر رصانة وأميل إلى التحفظ في إطلاق الأحكام القاطعة وتبني الحتميات، فهو مما لا يجوز قبوله، ولا يسوغ تبريره.
الفكر وعاءً للغة!
وكما أن اللغة - كما أشرنا سلفا - تربطها في هذه الموجة من الكتابات علاقة معكوسة بالفكر، فمن الملاحظ أيضا أن عجلة التنظير لـ«ما بعد الإسلام السياسي» انطلقت بأسرع مما كان متوقعا، حيث من المفترض دائما أن الوقائع تحتاج إلى أن تبقى على «مسافة» من دارسها حتى لا تطغى مشاعر اللحظة وحسابات الخصومة وغياب «بعض» البيانات المتصلة بالوقائع المدروسة على الاستنتاجات ودرجة دقتها، وفي الوقت نفسه فإن التنبؤ الذي هو موضوع علم «المستقبليات» يقوم على الترجيح، ونتائجه - غالبا - بدائل لكل منها نسبة من الاحتمال.
والتبشير بما بعد الإسلام السياسي يمكن النظر إليه - في سياق الصراع التاريخي المزمن (العلماني/ الإسلامي) في الثقافة العربية، فهذا التبشير – إلى أن تستكمل أدبياته الشروط الموضوعية التي تجعلها موضع اعتبار - ليس سوى نوع من «التفكير بالتمني»، الذي يصمت - عمدا - عن حقيقة أن العلاقة بين الدين والسياسة واحدة من أكثر القضايا تعقيدا في التاريخ الحديث، وخلال السنوات القليلة الماضية شهدت تجارب اجتماع إنساني غربية حالة مراجعة عميقة جدا إزاء تصور «الفصل التام» بين الدين والسياسة. وعلى سبيل المثال فإن باريس، مهد الثورة الفرنسية، التي تبنت هذا الفصل التام بين الدين والسياسة وصدرته إلى كل أنحاء العالم تقريبا، شهدت ميلاد مصطلح «العلمانية المؤمنة» على يد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان يحاول بذلك رأب هذا الصدع التاريخي.
وهذه القضية الشائكة حظيت بكم قد لا يحصيه عدٌّ من محاولات التنظير في الثقافات المختلفة، فضلا عن عدد من التجارب التي تجعل الادعاءات - التي أعترف أنها لا تخلو من شجاعة - بالقدرة على حسمها في سياقنا العربي على هذا النحو، قفزة كبيرة في الفراغ. ولا بأس أن أضيف أنها غير مأمونة العواقب، لا نظريا ولا عمليا. ومما يجدر تذكره هنا أن هذا السياق العربي المشار إليه يشهد تحولات متسارعة منذ بدء «الربيع العربي»، وهي تحولات أعادت طرح الكثير من الأسئلة الأولى عن الدولة والدين والهوية والوطنية.. وستمر - في تقديري سنوات قد تطول - قبل أن تتبلور أجوبة واضحة عن هذه الأسئلة.
ولأن النتيجة التي تمثل عمود الخيمة لكل تنظيرات «ما بعد الإسلام السياسي» هي استنتاج متعجل من وقائع جزئية، وفي غياب القدر الكافي من الحقائق التي تصلح أن تكون «مقدمات» في قياس منطقي صحيح، وفي غياب الاستحضار الذي يبدو ضروريا للتجارب المماثلة أو المشابهة، فإن هذه النتيجة هي في الحقيقة «مقولة» لا سبيل إلى وضعها في موضع الاختبار، حتى إشعار آخر!
ومما يطرحه هذا المسار المابعدي من تحديات على سالكيه أنهم - كما أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله - لا يطرحون ملامح «بديل» وكأن نهاية الإسلام السياسي هي بحد ذاتها «عملية تطهر وطني» لا صلة لها بما بعدها. فالثقافة العربية المعاصرة عرفت عشرات الإجابات المتعارضة عن هذه الأسئلة في تصورات لفكرة النهضة رسم صورة وافية لها الدكتور فهمي جدعان في مؤلفه المتميز «أسس التقدم عند مفكري الإسلام»، لكن الأسئلة بقيت بلا إجابة يمكن وصفها بأنها «الخيار الوطني» أو «الخيار العربي» أو..
الإسلام السياسي أم جماعاته؟
ومصطلح «الإسلام السياسي» مصطلح رمادي فضفاض، فضلا عن أنه حديث النشأة. وهو مصطلح يرفضه بعض الباحثين ويتحفظ عليه كثير من الباحثين، حيث العلاقة فيه بين «الاسم» و«المسمى» رمادية أكثر مما ينبغي، فهو يشير إلى طيف واسع من الظواهر الفكرية والدعوية والاجتماعية والثقافية. وهو ذو وجوه متعددة، فالبعض يستخدمه لغاية تصنيفية فيما آخرون يستخدمونه - دون مواربة - بغرض التشويه والوصم!
ومصطلح «الإسلام السياسي»، فضلا عن كل ما سبق، نتاج حقبة من الزمن شهدت القدر الأكبر من التحامل على الإسلام ومعالم وجوده في ساحة الشأن العام (السياسي والثقافي) من أطراف غربية ومحلية، وهو أمر أسهم فيه بشدة صراع بعض الحركات الإسلامية مع النظم الحاكمة في بلادها، وأسهم فيه أيضا مناخ ما بعد «الحرب الباردة»، وصولا إلى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما تلاه. واتساقا مع هذه الحقيقة شهدت هذه الحقبة ظهور مصطلح «الإسلاموفوبيا».
[inset_left]السؤال الأكثر إلحاحا: هل دور الإسلامي أن يوجب على الناس أم أن يستجيب لهم؟[/inset_left]
ومن الخطر الشديد على واقعنا ومستقبلنا أن ندرس مآلات المستقبل في قضية كهذه، ونحن محملون بهذا الثقل الكبير لحالة عميقة من حالات الرفض المبدئي، حتى لو كان هذا الرفض مقصورا على المنتمين لتيارات فكرية وسياسية معينة في الواقع العربي. ولعل أحد أهم التحولات الإيجابية في مناهج العلوم الإنسانية في السنوات القليلة الماضية، قناعة البعض بأن إعلان الباحث عن «انحيازاته المسبقة» من شروط الموضوعية، وهو منحى بدأ يحل بالتدريج محل الادعاء العريض بأن دراسة العلوم الإنسانية لا تتأثر بميول باحثيها.
وإذا كان الحديث - في هذه اللحظة المرتبكة - هو عن جماعات الإسلام السياسي، فقد يصح - احتمالا - أن بعض الأقطار العربية هي على أعتاب مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي»، أما تصور البعض أن هذا سيكون حالة عربية عامة، ففيه كثير من الخطأ، أما المبشرون بأن العالم الإسلامي كله سيشهد اختفاء هذه التنظيمات، فلا أرى جدوى من مناقشة دعواه.
والتنظيمات ذات القواعد الجماهيرية الكبيرة تتحرك في التاريخ وفقا لمنطق أقرب إلى «خطوة الفيل»، فهو أقل سرعة من كائنات أخرى كثرة أصغر حجما، لكن خطوته تهز الأرض هزا، وعليه فإن الأرجح تغير ميكانيزمات التحرك - ولو ببطء - لكن «حلم الاختفاء السريع»، سيظل حلما يراود البعض.
هل تموت الفكرة؟
أما الحديث عن «موت الفكرة» فتغليب لا تسانده الشواهد ولا تؤكده التجارب، فهذه الإجابة أو تلك عن علاقة الدين بالسياسة، ستظل مطروحة ومؤثرة إلى مدى زمني ليس بالقصير، وبخاصة أن التاريخ العربي الإسلامي الحديث شهد تجارب حاول أصحابها تقديم إجابات مغايرة عن علاقة الدين بالسياسة كان مصير أغلبها الفشل، وبقي الدين مكونا ذا تأثير في الوجدان العام أكبر بكثير مما ظن من حاولوا إعادة هيكلة دوره وفقا لتصورات مسبقة تبلورت في سياق التاريخ الغربي.
وقد يكون المراد هنا نهاية دورها المحرك الذي قامت به خلال العقود التي بدأت بسبعينات القرن العشرين المشار إليها غالبا بوصفها فجر «إحياء ديني عالمي»، فحركات الإسلام السياسي بقيت منذ هذا التاريخ أحد أكثر الفاعلين تأثيرا في الواقع العربي بدرجات متفاوتة، لكن هذا فيه تغليب لاحتمال أن تموت الأفكار بتصدع التنظيمات، أو أن يؤدي حظرها قانونا إلى تشييع جثمانها. وحقيقة الأمر أن هذا أيضا ليس «الأرجح» بل ربما كان الأرجح أن هذا الفرض مستحيل، في ضوء عدة حقائق.
أول هذه الحقائق أن البديل لم ينضج بعد، حيث بقيت بنية السلطة في عديد من الدول العربية تعاني أزمة «مشروعية» طالما كانت ثمرتها صبغة دينية واضحة - لا مفر منها - في الخطاب الرسمي، منحت «الخصم» (جماعات الإسلام السياسي) مشروعية ضمنية للوجود ومنافسة الخطاب الرسمي. وحتى اليوم لم يزل بديل خطاب الإسلام السياسي غائبا، وهذه الطاقة الوجدانية سوف تظل لفترة طويلة تبحث عن مسار لها في ظل ما يعانيه الخطاب الديني الرسمي من عجز مزمن عن استيعاب هذه الطاقة. وأما الحديث عن بديل خارج «المظلة الإسلامية»، فيعد ضربا من التمني، فالنخب التي تتبنى تصورات ذات مرجعية مغايرة لم تنجح - حتى الآن على الأقل - في أن تكون بديلا على الأرض، وغير صحيح أن السبب الوحيد لذلك أن «الإسلام السياسي» يخلط الدين بالسياسة، فهذه التيارات فشلت فشلا ذريعا في إنتاج خطاب اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي يسحب البساط - ولو جزئيا - من تحت أقدام خصومهم.
تحديات وأسئلة
هذا الذي سبق لا يعني أبدا أن «الإسلام السياسي» بوجهيه الفكري والتنظيمي سيستمر في مسار خطي لا تحول فيه، فالصدام الذي شهدته مصر - وكادت أن تشهده تونس - منعطف تاريخي سيكون له ما بعده، وبخاصة فيما يتصل بالأفكار ذات الصلة بعلاقة الدين بكل من: الدولة والوطنية، وكذلك العلاقة بين: «الدعوي» و«السياسي». حدود كل من: الديمقراطية وقبول الآخر والتعددية، وسيكون السؤال الأكثر إلحاحا: هل دور الإسلامي أن يوجب على الناس أم أن يستجيب لهم؟
في الحالات المحتملة على اختلافها سيختلف منطق ترتيب الأولويات بعد تجربة المشاركة السياسية الأولى في دول الربيع العربي. وستشكل قضية «الخطاب»، بوصفه المرآة التي تنعكس عليها الأفكار، أولوية متقدمة خلال الفترة المقبلة. وليس من المستبعد أن يظهر مسار فرعي داخل الظاهرة يستنتج مما حدث نتيجة واحدة: «الرصاص هو الحل»، فالحركة الإسلامية خلال الثمانينات والتسعينات خاضت تجارب شديدة القسوة في سوريا والجزائر ومصر، بسبب طرح خيار الصراع المسلح على الطاولة، وليس مستبعدا أبدا أن تنضج التجربة الأخيرة مسار عنف، أرجح - بدرجة قريبة من اليقين - أنه سيكون مسارا فرعيا.
وقد يصح عندئذ - مع التجاوز - الحديث عن مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي»، لا وفقا لسيناريو افتراضي يبدو واضحا من كتابات المبشرين بالمقولة، ويمكن أن نسميه: «التصدع العظيم»، بل على قاعدة إعادة الهيكلة التي تجعله مختلفا إلى حد كبير (الصورة النمطية) لا عن الفكرة المؤسِّسة. وفي هذه الحالة ستكون العلاقة بين اللغة أكثر اتساقا!