إذا دخلت إلى موقع البحث «غوغل»،وأجريت بحثا بسيطا عن الانسحاب الإيراني من سوريا، ستحصل على عشرات التحليلات والتصريحات والمقالات في السنوات الأخيرة التي «تؤكد»أن إيران على وشك الانسحاب من سوريا، وأن دولا عقدت اتفاقات بين بعضها لإرغام إيران على الانسحاب، وأن شرط إعادة تعويم الأسد هو طلبه من إيران الانسحاب من سوريا. ولكن بنظرة أعمق قليلا على هذه التحليلات والآراء، سنجد أن أغلبها أقرب إلى التمنيات منها إلى الواقع.
غير أنه قبل الحديث عن أي انسحاب إيراني من سوريا، هناك سؤالان لا بد من الإجابة عنهما، الأول: لماذا ستنسحب؟
منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة في سوريا، حرص على بناء تحالف استراتيجي مع إيران الشاه يومها، وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران لم يترك الأسد فرصة إلا وأعلن انحيازه لإيران، ومع ذلك حافظ الأسد الأب على شعرة معاوية مع باقي دول المنطقة وتحديدا الدول العربية، وعندما ورث ابنه بشار الحكم عنه، صار الانحياز إلى إيران وانتهاكاتها بحق الدول العربية فجا لدرجة الوقاحة، فبشار لم يعلن فقط انحيازه لدولة الولي الفقيه، بل حتى إنه لم يترك فرصة إلا وهاجم فيها الدول العربية المعترضة على سياسات طهران، مستعملا ألفاظا لا تمت للعمل السياسي بأي صلة، إرضاء لطهران، فتحول إلى بوق من أبواقها.
عندما انطلقت الثورة السورية، سارع بشار الأسد إلى طلب التدخل العسكري الإيراني في سوريا ضد السوريين المنتفضين على سياسة القمع، ولكن قبل ذلك كان التوغل الإيراني في سوريا يجري على قدم وساق، من بناء حسينيات إلى نشر التشيع مقابل أموال، إلى إلحاق السياسة الخارجية السورية بإيران بشكل كامل دون أي تمايز، وجاءت الثورة وردة فعل النظام عليها لتفتح المجال أمام إيران لتدخل عسكريا هذه المرة، وليصل الأمر إلى أن تتحكم بجميع مفاصل الدولة السورية.
راهن البعض بُعيد التدخل العسكري الروسي المباشر في العام 2015 على أن إيران ستكون الخاسر من هذا التدخل، متجاهلين أن التدخل أساسا حصل بناء على طلب طهران بعد أن كادت إيران ومعها نظام الأسد يخسران المعركة أمام تقدم المعارضة السورية في مختلف المناطق.
مع التنويه أن كلمة انسحاب إيران من سوريا تتضمن كما كبيرا من التضليل، فإيران أصلا لا تملك قوات عسكرية نظامية في سوريا، لكن نفوذها يكمن في العلاقة العضوية التي تربطها مع نظام الأسدين في سوريا والتي تستمد جذورها من شعور التصدي الثنائي للطرفين الشيعيين (إيران والأسد)، في مواجهة المحيط السني، إيران تتواجد في سوريا على شكل مستشارين عسكريين إيرانيين لا يزيد عددهم على 500 مستشار في أكبر التقديرات، وميليشيات عابرة للحدود، وهذه الميليشيات تم دمج أغلبها في قوات الدفاع الوطني التي تتبع لوزارة دفاع النظام في حالة شبيهة بحالة الحشد الشيعي في العراق، بينما المعاهدات الكثيرة على المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية والتعليمية تكاد لا تترك مجالا من مجالات الحياة في سوريا إلا وكانت بصمات إيران واضحة فيها...
إيران بالنسبة لنظام اعتمد على سياسة طائفية غارقة في هواجس الخوف الوجودي غير المبرر من الآخر والذي يستند لتاريخ موهوم ومخيلة شعبية ترى في المواطن السوري المغاير لطائفة الرئيس عدوا يجب التصدي له، تشكل أحد عناصر المواجهة بالنسبة لبشار الأسد وحاضنته الطائفية، وبالتالي فإن مجرد الحديث عن رغبة بشار الأسد بالتخلص من إيران هو أقرب للعبث ولتزييف الواقع الذي يوضح لنا أن الأنظمة الطائفية لا يمكن أن تتخلى عن سندها الطائفي لأنها تدرك أنها ستفقد حاملها الاجتماعي في نفس اللحظة وستسقط بسبب انهيار منظومة العصبية التي تقوم عليها مثل هذه الأنظمة.
سوريا أيضا بالنسبة لإيران هي نقطة الوصل لاستعادة إمبراطوريتها الطائفية أو هلالها الشيعي الممتد من طهران وحتى شواطئ المتوسط، فبعد أن تحقق لها السيطرة على العراق ولبنان بمساعدة وتنسيق وتحالف مع نظام الأسدين، كان لا بد من السيطرة على سوريا ليصبح الخط الواصل بين طهران والمتوسط تحت كامل السيطرة الإيرانية، ولا ننسى أن تأسيس حزب الله جاء ثمرة عمل مشترك بين نظام حافظ الأسد ونظام الملالي في طهران.
لا يمكن أن ننكر أن لإيران استراتيجية طويلة الأمد، تعمل عليها كما تعمل على حياكة السجاد، هي دخلت لتضم سوريا إلى «إمبراطوريتها»، ولسيطرة إيران أشكال عدة، في لبنان مثلا لن نرى ضابطا إيرانيا يعطي الأوامر، ولكن القاصي والداني يعرف أن لبنان يقع ضمن نفوذ إيران وأن الكلمة الفصل بالقرارات الأساسية لا تصدر دون موافقة وبركة الولي الفقيه. واليوم بات لإيران ميليشيات في سوريا تدين لها بالولاء والطاعة، تماما كما معظم مؤسسات الدولة وكبار موظفيها، وحتى ملكية الأراضي الحدودية بين لبنان وسوريا باتت تعود لإيران أو لمقربين منها، هذا عدا عن سياسة الإحلال التي اتبعتها إيران والأسد في سوريا، حيث هجروا ملايين السوريين وحل محل الكثير منهم إيرانيون أو أفغان وباكستانيون يتبعون السياسة الإيرانية، فباتت دمشق عاصمة الأمويين أشبه بحسينية كبيرة.
أما السؤال الثاني فهو: كيف تنسحب إيران؟
عندما تخطى بشار الأسد الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباماـ تغاضى أوباما عن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، فقد كان حينها يفاوض الإيرانيين سرا، ولم يرغب أن تعكر صفو مفاوضاته جثث مئات من السوريين ماتوا اختناقا. آنذاك رفع أوباما العقوبات عن إيران، دون أي شرط أو ضغط عليها لتوقف «احتلالها»لعدة دول من بينها سوريا، أو لتوقف دعم ميليشيات مصنفة إرهابية في الولايات المتحدة نفسها، وفي غيرها من الدول.
مع مجيء ترامب الذي أعلن انسحابه من الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه، مارس ترامب ضغوطات على إيران، وفرض مزيدا من العقوبات، ولكن للأسف استطاعت طهران أن تصمد دون أن تقدم تنازلا واحدا أو تنسحب من شبر من الأراضي التي تحتلها، واليوم مع عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وتحديدا الرئيس بايدن الذي يشبه أوباما بإدارته ونظرته إلى المنطقة حد التماهي، ومع الحديث عن رفع العقوبات والعودة إلى الاتفاق السابق، ما الذي سيجعل إيران تنسحب من سوريا؟
وأيضا، لماذا سيقبل الأسد بفك تحالفه مع طهران؟ وما هو المقابل الذي سيحصل عليه، إن كانت قوى العالم تفاوض طهران؟
معركة تحرير سوريا من إيران هي جزء من معركة تحرير العراق ولبنان من النفوذ الإيراني، وهي جزء أساسي من معركة تحرير سوريا من سطوة النظام الأسدي الجاثم على صدرها منذ خمسة عقود، وطالما أن لا وجود لأي عمل مشترك بين هذه الدول بداية، وبين دول الاعتدال العربي، ولا وجود لأي خطة واضحة أو استراتيجية للخلاص من هيمنة الولي الفقيه على هذه الدول وغيرها، فإن إيران ستبقى هي الدولة الأقوى في المشرق العربي، ليس لأنها تملك عناصر القوة، بل لأن خصومها متفرقون لم تقدر على جمعهم المصلحة المشتركة بعد، ولم يتفرغوا لوضع استراتيجية واضحة موحدة منذ سقوط بغداد وبيروت ودمشق.