جدة:منذ نحو 100 عام، اتسمت العلاقات السعودية-الإيرانية (أيام الملكية وحتى الثورة الإسلامية) بفترات اشتباك وتقارب، ودفء وبرود، منذ تبادل الاعتراف الدبلوماسي بين البلدين عام 1929. ليس جديداً على البلدين، الاختلاف والحوار والمواجهة والتصالح، مهما اختلفت العهود الملكيّة أو الأنظمة السياسية في البلدين. وقد وصف الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون البلدين في سبعينات القرن الماضي بأنهما «الركنان التوأمان»(Twin Pillars)الضروريان لأي استقرار في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
لقد جرب كل ملك سعودي، منذ أيام الملك الراحل عبد العزيز آل سعود (1876-1953)، وصولاً إلى الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز (1924-2015)، حالات التقارب والتباعد حول ملفات إقليمية متشابكة. وقد تزامن وصول العهد السعودي الحالي بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الحكم في ذروة الاشتباك المعقد بين البلدين حول ملفات إقليمية ودولية، يخص معظمها فائض القوة الثورية الإيرانية، الذي جعل طهران لاعباً ثقيلاً على الساحات العربية، يتجاوز حدود السياسة إلى العسكرة، مع خلافات عميقة حول أمن الخليج والطاقة وملفات اليمن والعراق والمشروع النووي وقضايا التسلح الاستراتيجي وغيرها.
وقد جرى حوار في الآونة الأخيرة بين الرياض وطهران على المستوى الاستخباراتي في بغداد بوساطة عراقية في محاولة لترتيب أوراق المنطقة. فما هو مدى التفاؤل بحدوث اختراق؟ وما هي الأولويات السعودية؟ وهل يمكن الحديث عن حلول خلاقة في ظل توجه سعودي لأخذ المنطقة إلى مربع الاستقرار من جديد؟
حوار واقعي واتفاقات سابقة
قبل نحو شهرين أدلى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بحديث إلى قناة «CNN»الأميركية، اعتبر فيها الجلوس مع الجانب الإيراني أمراً واقعياً، مشترطاً حدوث تقارب بين البلدين بـ«معالجة التهديدات الخطيرة جداً للاستقرار والأمن الإقليميين من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، بالإضافة إلى الأنشطة داخل دول المنطقة (بما في ذلك السعودية) بتزويد الإرهابيين بمعدات صنع القنابل وأشياء من هذا القبيل».
لقد فتح حوار بغداد نافذة في جدار أصم بين البلدين بوساطة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وهو رجل استخبارات، ويعرف أن القنوات الأمنية هي البداية الممكنة والمعقولة لأي محاولة للتقارب بين البلدين.
ولم يكن هذا الحوار من أجل الحوار فقط، بل إن وزير الخارجية السعودي فتح إمكانية قيام شراكة بين البلدين بقوله: «نريد من إيران وقف أنشطتها المزعزعة لاستقرار المنطقة وكذلك سلوكها العدواني. بالطبع، إذا كانت على استعداد للقيام بذلك، فإن ذلك سيفتح الأبواب ليس فقط للتقارب، ولكن حتى للشراكة».
يمتلك البلدان بالفعل اتفاقيات أمنية وتجارية وأخرى تتعلق بمكافحة المخدرات، جرى التوقيع عليها منذ سنوات، وهي موجودة بالفعل ومصادق على تنفيذها بين البلدين. فقد جرى توقيع اتفاقية أمنية هامة عام 2001. كما شهد البلدان منذ التسعينات زيارات هامة على أعلى مستوى بين البلدين، استمرت خلال العقد الأول من الألفية الجديدة.
لطالما اعتبر العقل السياسي السعودي أنه لا غنى عن الوصول إلى تفاهم طويل الأمد بين البلدين من أجل إراحة المنطقة والتوجه أكثر نحو التنمية المشتركة والسلام والاستقرار، ويشاركهم في هذا التوجه بشكل عام، الأجنحة والتيارات الإصلاحية في إيران من الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي، وحتى الرئيس الحالي حسن روحاني، إلا أن الأجنحة الأكثر تشدداً في النظام الإيراني، ترى أن المملكة تنتمي سياسياً إلى المنظومة الغربية، التي يصعب التفاهم معها.
وقد أثبتت تسريبات تسجيل وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي قضى فترات دراسته في الولايات المتحدة، سطوة المتشددين في الحرس الثوري وتدخلهم في الشؤون السياسية. لكن متغيرات طرأت منذ قيام حرب اليمن (2015)، التي تعتبرها السعودية خاصرة رخوة، وكذلك استهداف منشآت شركة النفط العملاقة (أرامكو السعودية) في بقيق وخريص (2019) عقدت الأمور أكثر فأكثر، وأصبحت المواجهة شبه يومية عبر حلفاء طهران في صنعاء.
أولويات سعودية
تتركز الأولوية السعودية الأولى في أي حوار حول اليمن وأمن الخليج من ناحية البرامج النووية والصاروخية، وبخاصة مع تخلي الإدارة الأميركية الحالية عن منطقة الشرق الأوسط، والخليج في قلبه، لصالح تصعيد المواجهة مع الصين وروسيا، وكذلك استعدادها لتفاهم مع إيران، التي دخلت معها في مفاوضات شاقة، لا ترغب الأجنحة الإيرانية المتشددة في نجاحها.
إن الدعم الإيراني المستمر للجماعة الحوثية في اليمن يقلق الرياض ويمد عمر الأزمة اليمنية، وبخاصة أن استمرار الحرب، يعني مزيداً من تثبيت أوضاع شاذة على أراضي الجارة الجنوبية للمملكة، الأمر الذي يهدد الأمن القومي السعودي. ويشكل الحوار بشأن اليمن مدخلاً جيداً، لكن الرياض لا تريد- في الوقت ذاته- أن يكون لطهران نفوذ غير عادي في اليمن، وأن تتدخل في تشكيل الحكومات اليمنية أو الحلول الممكنة لاحقاً.
في جولات الحوار السعودي- الإيراني في عقد التسعينات لم يكن هناك ملفات متفجرة كما هو الآن؛ رغم حصول أحداث إرهابية كتفجيرات الخبر 1995، التي اتهم فيها ما سمي آنذاك بـ«حزب الله السعودي». كانت المنطقة أكثر هدوءًا من الآن. وبعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 وسقوط العراق في السلة الإيرانية واندلاع صراع طائفي مقيت، ظلت هناك محاولات سعودية للاحتواء وترميم العلاقات.
أما أمن الخليج، فهو مسألة بالغة الحساسية، فالرياض لا تريد للخليج العربي أن يكون بحراً إيرانياً، وبخاصة أن هناك دولاً تعاني خطر الابتلاع مثل البحرين، الذي يتجدد الحديث عن تبعيتها لإيران منذ أيام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي مرت بينه وبين الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز (1906-1975) جولات من الشد والجذب حول الموضوع البحريني، انتهى بتسليم الشاه باستقلال البحرين، لكن تبع ذلك استيلاء على 3 جزر إماراتية، لم ولن تعترف الرياض بالسيادة الإيرانية عليها.
أما بالنسبة للبرنامج الصاروخي الإيراني، فإن الجانب السعودي يتمتع بإمكانات هائلة لمجاراة أي تطور عسكري إيراني، لكن المسألة ليست سباقاً على التسلح على حساب التنمية والرفاهية. ليست السعودية دولة ثورية ولا ترغب في توجيه قدراتها كلياً نحو ذلك السباق غير المجدي. ما يحصل حالياً هو أن أي زيادة في القدرات العسكرية الإيرانية، سيقابله حتماً تعزيز لنظيرتها السعودية.
وبالنسبة للبرنامج النووي الإيراني، وبغض النظر عن تمكن طهران من امتلاك قنبلة نووية، فإن هناك مخاوف بيئية جدية في ظل سهولة اختراق أمن تلك المفاعلات، وهو ما أثبته انفجار مفاعل نطنز مؤخراً، إلى جانب الخطر البيئي، إذ يعرف عن إيران أنها دولة نشطة زلزاليا!
أما في حال حصول إيران على القنبلة النووية، فإن ذلك يعني اختلالاً إضافياً في موازين أمن منطقة الخليج، وهو أمر يثير المخاوف السعودية، وما تريده المملكة، وكذلك المجتمع الدولي، هو تطمينات عملية وحقيقية بخلو الخليج من الأسلحة غير التقليدية.
الملفات الأخرى
خففت السعودية من انخراطها في تفاصيل الأزمة السورية، فقد علقت عمل هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية لحين استئناف عملها. كما صدرت تصريحات عن دعم الرياض للحل السياسي في البلاد بمشاركة النظام الحالي، بأسلوب يفضي إلى خروج القوات والميليشيات الأجنبية من البلاد.
أما بالنسبة للعراق، فإن السعودية مرتاحة حالياً لتوجهات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي يرغب بإعادة تنشيط الدور العراقي في المحيط العربي. إن استضافة الحوار السعودي- الإيراني مؤخراً، يدل على دفء العلاقات مع حكومة الكاظمي، الذي يتمتع بعلاقات شخصية طيبة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وقد زاد في الآونة الأخيرة، تبادل الزيارات الرسمية بين البلدين، وتعهدت السعودية بمنح لإنجاز بعض مشاريع إعادة الإعمار. تعلم السعودية أن إيران جار للعراق، وأن هناك حدوداً للنفوذ، ينبغي احترامها، وأن لا يتحول العراق إلى جار شمالي يثير القلق والإزعاج في منطقة هشة أصلاً.
لا يبدو لبنان هذه الأيام مثيراً للاهتمام، فحجم مشكلات البلد هائل، والصراع السياسي والانهيار الاقتصادي فيه، يكاد يقضي على وجوده. وقد لا يكون موجوداً أصلاً على طاولة الحوار السعودي- الإيراني، وبخاصة في هذه المرحلة الصعبة.
وهناك ملفات تتعلق بتهريب المخدرات، التي صارت أشبه بعدوان صريح على المملكة، سيما أن إيران معبر تهريب أساسي لخطوط التهريب. ويكفي العودة إلى الاتفاقية الأمنية 2001 وتطبيقها بشكل صارم؛ للحد من دخول السموم إلى المملكة.
تفاؤل صعب
إن حجم الهوة بين البلدين كبير، ويحتاج تقريب وجهات النظر إلى جهود شاقة وابتكار للحلول الخلاقة من أجل مستقبل المنطقة. تتمتع المملكة بالمرونة للدخول في حوارات معمقة مع الجانب الإيراني، وهي ليست متصلبة في الوصول إلى حلول توافقية. وكما أن الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا، داخلة حالياً في مفاوضات شاقة في فيينا حول رفع العقوبات، فإن السعودية، تجد أن المناخ موات للوصول إلى حلول أو تسويات معقولة، توقف الحروب العبثية وتسليح الميليشيات في أكثر من دولة عربية.
إن توقف الحرب في اليمن والضغط على الجماعة الحوثية المحاربة في اليمن وتحويلها إلى حزب سياسي والتفاهم على أمن الخليج، بداية جيدة، لكن الطريق شاق جداً والحل ممكن، فالمملكة تجد أن الشراكة مع إيران ممكنة والأجنحة الإصلاحية لديها رغبة مقابلة، لكن في حال كانت كلمة المتشددين الثوريين الإيرانيين هي العليا، فإن المراوحة باقية والمواجهة مستمرة؛ حتى إشعار آخر بين القطبين الكبيرين في منطقة الشرق الأوسط.