القاهرة: تصريحات أطلقها وزير الري المصري حول إجراءات مصرية تتخذها كافة أجهزة الدولة للتغلب على الآثار السلبية حال إقدام إثيوبيا على الملء الثاني بقرار منفرد ودون الوصول لاتفاق مع دولتي المصب مصر والسودان، اعتقد البعض أنها قد تكون تسليما مصريا بالقرار الإثيوبي المتعنت والذي أكدت عليه أديس أبابا من أن الملء الثاني لخزان السد سوف يتم في موعده، وهو ما ألقى ظلالا أخرى على تحركات الدولة المصرية خاصة في المجال العسكري بعدما قامت مصر بإرسال قوات برية، وقوات جوية، وآليات عسكرية إلى السودان، حسبما أعلن الإعلام الحربي السوداني.
كما أعلن الإعلام الحربي السوداني عن اكتمال الاستعدادات لبدء التمرين العسكري المشترك بين الجيشين السوداني والمصري، والذي بدأ في السادس والعشرين من مايو (أيار)، وحتى 31 مايو (أيار)، وإعلانها أن هذه الإجراءات تأتي في إطار تنفيذ تدريبات شاملة بين الجيشين المصري والسوداني تجري على الأراضي السودانية تحت اسم «حماة النيل»وهو ما يفهم منه من خلال تسمية التدريبات، أنها قد تكون رسالة موجهة إلى الجانب الإثيوبي مفادها أن مصر والسودان لن تفرطا في حقوقهما المائية في نهر النيل، خاصة النيل الأزرق.
وقد تلقت إثيوبيا الرسالة على ما يبدو حيث صرح المتحدث باسم الخارجية دينا مفتي في مؤتمر صحافي الثلاثاء الماضي أن بإمكان القوات المشتركة للسودان ومصر فعل ما يريدان معا ما دامت أنشطتهما بعيدة عن انتهاك سيادة إثيوبيا، ومشددًا في نفس الوقت على أن لإثيوبيا دفاعا على مدار 24 ساعة، وجيشا قويا قادرا على حمايتها، وأن الملء الثاني لسد النهضة سيكون في موعده المقرر.
رسائل لها مغزى... والعمل العسكري وارد
العلاقة بين إمكانية تحمل مصر لصدمة الملء الثاني لخزان سد الهضة الإثيوبي دون اتفاق، وبين إجراء تدريبات «حماة النيل»والتي تم إرسال قوات مصرية وقوات جوية، وآليات عسكرية للأراضي السودانية من أجل إجرائها، وهل يمكن التعويل على هذه التدريبات لتوجيه ضربة عسكرية للسد بعد تعنت إثيوبيا المستمر والتواصل لفرض سياسة الأمر الواقع، يمكن تلخيصها على ضوء تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي «أكد أنه ليس في مصلحة مصر الإعلان عن الإجراءات التي يمكن للدولة المصرية اتخاذها في مواجهة تعنت الجانب الإثيوبي، وهذا كلام منطقي»، وذلك حسب مستشار أكاديمية ناصر العسكرية العليا اللواء أركان حرب محمد سلمان، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»،
وأضاف الخبير العسكري أن هناك أزمة استراتيجية تواجه الدولة المصرية والتي هي في الأساس دولة مؤسسات، تقوم فيها كل مؤسسة بالدور المطلوب منها، أما بخصوص إجراءات ترشيد المياه فهناك عمل في هذا الاتجاه منذ فترات طويلة، فمثلا مشروع تبطين الترع سوف يوفر كميات كبيرة من المياه، والمياه هي أولوية للدولة، حيث إن مصر تعد من الدول الفقيرة مائيا، ويصل حجم الفقر المائي إلى حوالي 50 في المائة، مضيفا «وبالتالي فنحن في حاجة إلى أي إجراءات يمكن بها توفير المياه، أو إعادة استخدام المياه، أو تحلية مياه البحر، أو البحث عن مصادر للمياه الجوفية، فنحن في حاجة إلى جميع هذه الأشياء، لكن رغم اتخاذ الدولة لهذه الإجراءات فليس هذا معناه أن مصر ستستسلم للملء الثاني لسد النهضة».
وأكد اللواء محمد سلمان من جهة ثانية أن إجراء تدريبات، أو مناورات «حماة النيل»بمشاركة قوات مصرية وسودانية والتي تجرى على الأراضي السودانية يوفر شيئين، هما «التدريب المشترك، والتعرف على مسرح العمليات، أو الأرض التي من الممكن أن تكون مسرحا مستقبليا للعمليات بالنسبة لقواتنا، وفي نفس الوقت هي رسالة ردع للطرف الآخر، وأن تعنته لن يمر مرور الكرام، وأن مصر والسودان لن يقفا مكتوفي الأيدي عند التعدي على حصتيهما التاريخية من مياه النيل، كما أن مصر والسودان قد يتعرضان لمخاطر كبيرة حال انهيار السد بسبب العيوب الفنية، والتي لم يضطلع عليها كل من مصر والسودان بسبب التعنت الإثيوبي».
ويضيف اللواء محمد سلمان: «نحن والسودان أصبحنا متفقين بعدما أدرك السودان مؤخرا أن السد يمثل ضررا كبيرا عليه، وأن إدارته إن لم تكن إدارة حكيمة ورشيدة بمشاركة سودانية مصرية إثيوبية فمن الممكن تعرض البلاد لأخطار جمة كما حدث العام الماضي عندما تعرض السودان لأخطار الجفاف، وأخطار السيول، وذلك من خلال الملء الأول ولمرة واحدة، والذي قامت به إثيوبيا وبشكل منفرد، وبكمية لا تتجاوز 5 مليارات متر مكعب من المياه، وكانت نتيجتها تعرض السودان لخطري الجفاف والسيول، وتضررت مرتين الأولى من الحجز المفاجئ للمياه، ومرة أخرى عند فتح المياه، وما حدث جعل الجميع في السودان يعيد حساباته من جديد خاصة من كانوا يعتقدون أن السد لن يحقق سوى مصالح كبيرة للسودان».
وأكد الخبير العسكري المصري أن «كل الاحتمالات حول استخدام القوة العسكرية واردة، ولا بد من العودة لتصريحات وزير الخارجية المصري والتي تلخص كل شيء، وأنه ليس من مصلحتنا الإعلان عن موعد وشكل خطواتنا القادمة».
ضرورة استخدام القوة العسكرية بدلا من التلويح بها
مصر والسودان لا يمكن لهما تحمل صدمات الملء الثاني لسد النهضة الإثيوبي دون التوصل لاتفاق ملزم مع إثيوبيا، وقد أثبتت السنوات الماضية خطأ وعبثية الاستمرار في التفاوض مع الجانب الإثيوبي الذي يأتي لطاولة المفاوضات لهدف واحد وهو كسب الوقت عن طريق السير في مفاوضات لا تأتي بنتائج حاسمة.
هكذا أكد الكاتب والسياسي السوداني خالد هاشم لـ«المجلة»، حيث أضافأن مناورات «حماة النيل»يجب أن تخرج عن كونها تلويحا باستخدام القوة العسكرية في وجه إثيوبيا إلى عمل عسكري حقيقي يجب أن يستهدف وبشكل مباشر موقع سد النهضة.
وقد علل هاشم ذلك بأن «تدرك إثيوبيا أن تشددها واستهانتها بحق شعبي السودان ومصر في موارد النيل الأزرق له ثمن وتكاليف باهظة يجب عليها أن تدفعها من أمنها وسلامتها بعد أن رفضت التوافق على التوصل لتفاهمات عبر الحوار والتفاوض على مدى عشر سنوات كاملة».
مشروعات توفير المياه حتمية والإجراء العسكري آخر الحلول
وعن المساعي المصرية حول الاستفادة من مياه النيل أشار مدير مركز الموارد المائية وأستاذ الجيولوجيا بكلية الدراسات الأفريقية الدكتور عباس الشراقي، أن «مصر تقوم بإجراءات ومشروعات مائية للاستفاد القصوى من مياه النيل ليس من الآن فقط، ولكن منذ عهد محمد علي ونحن نقوم بعمل هذه المشروعات للاستفادة من مواردنا المحدودة والتي تمثل الحصة السنوية لمصر من مياه النيل، والتي كانت ذروتها إنشاء السد العالي، الذي تم إنشاؤه حينما كان تعداد مصر لم يتجاوز 20 مليون مواطن، وقد زاد عدد السكان الآن على 100 مليون نسمة، مع ثبات نفس الحصة من المياه، مما أوجب على الدولة القيام بمشروعات لتعظيم الاستفادة من هذه الكمية، وبرغم جهود الدولة في هذا الإطار فإن أزمة سد النهضة عجلت بتنفيذ بعض هذه المشروعات، ويأتي ضمن جهود الدولة في هذا الإطار، تبطين الترع».
وأضاف الدكتور عباس الشراقي، لـ«المجلة»حتمية هذه الإجراءات، لتوفير المياه وذلك في إطار رؤية مستقبلية لترشيد استهلاك المياه المستخدمة في ري الأراضي الزراعية. إضافة إلى إنشاء محطات معالجة المياه للتغلب على زيادة الاستهلاك، وفي سبيل ذلك سيتم افتتاح محطة معالجة بحر البقر خلال يوليو (تموز) القادم لمعالجة حوالي 5 ملايين متر مكعب يوميا، وسيتم استخدامها في مشروع ترعة السلام والمساهمة في ري 4 آلآف فدان، إضافة إلى محطة «المحسمة»بالإسماعيلية، والتي تم افتتاحها منذ 6 أشهر وتعالج حوالي مليون متر مكعب يوميا، سيتم استخدامها في الزراعة بشبه جزيرة سيناء، حيث تسهم هذه المشروعات في زراعة ما يقرب من 9 ملايين فدان.
وبرغم التعنت الإثيوبي في أزمة سد النهضة، حسب دكتور الشراقي، إلا أن مصر كانت تصر على إنهاء الأزمة عن طريق التفاوض والحوار واستبعاد الحلول العسكرية، والتي قد تأتي آخر الحلول، «وبالتالي فلا أعتقد بوجود الخيار العسكري في الوقت الحالي، حيث إن وزير الخارجية سامح شكري، أوضح أن تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الخط الأحمر المتعلق بالمساس بمياه النيل، والمتعلق بالملء الثاني لسد النهضة دون اتفاق، وأن الخط الأحمر يتعلق بوجود ضرر على مصالح مصر المائية، وأن التخزين الثاني قد لا يضر المواطن المصري بسبب وجود مخزون استراتيجي للمياه في بحيرة ناصر أمام السد العالي، ولأن مصر استعدت لجميع الاحتمالات، عن طريق وضع خطة لزيادة المخزون في السد العالي».
وليس معنى أن المواطن المصري لن يتضرر من الملء الثاني عن طريق الأخذ من احتياطي السد العالي، أن هذا المخزون تم الحصول عليه مجانا، فقد جاء نتيجة المشروعات التي قامت بها وزارتا الري والزراعة، والتي كلفت الدولة المصرية ما يزيد على 200 مليار جنيه، إضافة إلى معالجة المياه التي تتكلف مبالغ كبيرة جدا، إذن المخزون في السد العالي جاء نتيجة مجهودات وأموال طائلة تم إنفاقها، كما تضرر الفلاح نتيجة منع زراعة الأرز والمحاصيل عالية استهلاك المياه وهذا أوقع ضررا على المواطنين والدولة معا، وهذا يعني أن الملء الثاني لسد النهضة يحقق ضررا كبيرا على مصر رغم إجراءات تفادي هذه الأضرار.
وأشار الدكتور الشراقي أن «ضرب سد النهضة قد لا يكون بسبب وقوع ضرر مائي على مصر، ولكن بسبب الاعتداء على الحقوق والكرامة المصرية، وتجاهل إثيوبيا للاتفاقيات السابقة، والحفاظ على هيبة مصر أمام العالم، وأمام دول منابع النيل، لأن إثيوبيا بتصرفاتها الحالية تعتدي على مصر، ما قد يدفع دول المنابع الأخرى إلى أن تحذو حذو إثيوبيا في تجاهل الحقوق المصرية، ومن الممكن أن تتحمل مصر أضرار ملء خزان سد النهضة حال الوصول إلى اتفاق ملزم مع إثيوبيا والحل العسكري قد يكون واردا ولكنه آخر الحلول؛ حيث إن مصر تسعى مع السودان للحصول على حقوقهما المائية دون إطلاق رصاصة واحدة، ولكن لو أصرت إثيوبيا على تعنتها فقد يكون الحل العسكري هو الملجأ الأخير».
عمل استباقي في إطار ضرب سد النهضة
ومن جهته، أكد مساعد وزير الخارجية الأسبق الدكتور عبد الله الأشعل، لـ«المجلة»أن هناك احتمالا كبيرا في أن تكون مناورات «حماة النيل»عملا استباقيا في إطار الاستعدادات العسكرية لضرب سد النهضة، لأن إثيوبيا فرضت أمرا واقعا على الدولتين وتعتقد أنه لا أحد يمكنه ردعها، فلم يعد أمام الدولتين مصر والسودان سوى اتخاذ إجراء عسكري معها.
وأضاف الأشعل لـ«المجلة»أن مصر والسودان لهما قرار مستقل بعيدا عن الاستفزازات الإثيوبية، وأن إثيوبيا دائما تستفز مصر، وهذا الاستفزاز ليس له قيمة، لأنه في حال دخول القوات المصرية والسودانية في عمل عسكرى فلن يقوموا بضرب البنى التحتية الإثيوبية، ولكن سوف يتم ضرب سد النهضة فقط.
وأكد الأشعل أن «ما أطلقته وزارة الخارجية الإثيوبية من تصريحات مفادها أن لها جيشا يحميها هو كلام ليس له معنى، لأنها دولة معتدية وتنتهك القانون الدولي، وتمارس البلطجة، ولا أحد قام بتهديد أمن إثيوبيا وكل المطلوب منها عدم الملء الثاني إلا بعد اتفاق ملزم».
ولفت الدبلوماسي المصري السابق أن مناورات «حماة النيل»تعتبر تخويفا لإثيوبيا لردعها، «ومن الممكن أن تكون أيضا تدريبات تستبق العمل العسكري، ونحن جميعا نتمنى قيام مصر بعمل عسكرى مع السودان في مواجهة إثيوبيا لهدم سد النهضة، لأنه لم يعد هناك حلول أخرى مع إصرار إثيوبيا على إيقاع الضرر بمصر، ومن الممكن أن تكون هذه التدريبات رسالة موجهة إلى إثيوبيا بأن استعمال القوة ضدها بات وشيكا، ومن الممكن أن يكون هناك قرار فعلي باستخدام القوة العسكرية».