[caption id="attachment_55249645" align="aligncenter" width="620"] محطة "اندرغراوند"هولبورن[/caption]
لو أن لي قدرة على أن أوقظ الشاعر الإنجليزي إدريان ميتشل من نومته الطويلة، وأقوده إلى شارع «هاي هولبورن»، لما ترددت لحظة. ولكن من أين لي أن أفعل هذا!
كلما سرت في هذا الشارع أجدني أردد قصيدته «سيليا.. سيليا».. أحيانا بصوت ظاهر.
لا أعلم كيف علقت هذه القصيدة ذات البيتين اليتيمين في ذاكرتي.
لكن هذا الشارع المستفز والمزدحم يرغمني على تذكرها كل يوم تقريبا.. وأجدني في بعض الأوقات أرددها من دون أن أدري.
هذه القصيدة القصيرة البسيطة، ليس فيها شيء لافت يدفعك إلى ترديدها، ولا تعبير فريد يستوقفك، إنما مناسبتها، وذكر اسم الشارع نفسه فيها. فمن حيث المعنى لا تستطيع هذه القصيدة أن تصمُدَ أمام معنى واحد من معاني أبيات مجنون ليلى، ولم تكن لتضارع بيتا بسيطا من شعر جميل..
فأين من هذه القصيدة قول قيس:
[blockquote]
تخبّرني الأحلام أني أراكمُ
فيا ليت أحلامَ المنامِ يقينُ
أو قوله:
إذا طلعتْ شمس النهارِ فسلِّمي
فآيةُ تسليمي عليكِ طلوعها
بعشرِ تحياتٍ إذا الشمس أشرقتْ
وعشرٍ إذا اصفَرَّت وحانَ وقوعُها
وبيته:
تعلّقَ روحي روحَها قبلَ خلْقِنا
ومن بعدِ أن كنَّا نطافاً وفي المهدِ[/blockquote]
في قصيدة إدريان ثمة إيحاء بأن هذا الشارع «هاي هولبورن» يسوده الهدوء، وهذا ما يثير قارئها. فليس في هذا الشارع هدوء، بل وقع أقدام وكلام وقهقهات وضجيج بلا حدود، وأفواج من البشر من كل الأعراق غادية رائحة.
كم رددتها في الليل وأنا خارج من العمل، لأحلم باللحظة التي قال فيها إدريان هذه القصيدة.. ولكن لم أمسك بهذه اللحظة مطلقا.
لم يعد هذا الشارع كما كان عهد هذا الشاعر به..
لم يعد هادئا.. بل إن الضوضاء سكنت فيه فما فارقته.. فهو درب مؤد إلى ثلاثة شوارع يتكالب عليها السياح: كوفن غاردن، وتوتنهام كورت رود، وأكسفورد. كما يؤدي هذا الشارع إلى المتحف البريطاني.
في أحيان كثيرة أنزل من الرصيف لأسير بمحاذاته لئلا اصطدم بأفواج البشر.
أقول في نفسي ما الذي دها هذا الشاعر الذي يقول في هذه القصيدة إنه «عندما يشعر بالسأم والحزن يسير في هذا الشارع، ويتذكر سيليا.. ».
كم أود أن أوقظ هذا الشاعر الآن ليرى هذا الشارع المكتظ.. هذا الشارع الذي كان يرتاده لينتعش ويزيل السأم عنه، ها هو ذا مثار للسأم!
ولكن إذا كانت هذه القصيدة قصيدة عابرة، وصورتها الشعرية متواضعة إلى حدّ ما، فما الذي دفع هيئة الإذاعة البريطانية إلى الادعاء بأنها من ضمن القصائد المفضلة لدى الإنجليز.. فلقد عدتها «بي بي سي» من قصائد الحب المفضلة لديهم! ووضعتها في كتاب أصدرته بجوار سوناتات شكسبير: الثامنة عشرة والتاسعة والعشرين والمائة وست. وقصائد للّورد بايرون.. ويليام بليك، ويليام وورثسوورت، ويليام ييتس، توماس هاردي وآخرين من فحول شعراء انجلترا، وأيضا جبران خليل جبران.
أطلق على هذا الشاعر مرة شاعر «البلاط الظلي»..
وله كلام جميل في الشعر، فمما قال: «إن معظم الناس يتجاهلون معظم الشعر، لأن الشعر يتجاهل معظم الناس». هذا كلام لا غبار عليه، ويلخص ما آل إليه الشعر بعد أن وضع أصحابه أنفسهم في أبراج عاجية.
وعودة إلى القصيدة نقول إنه في عالم الشعر، لا ينبغي أن نحاسب الشاعر على شكل القصيدة وعنوانها.. لا لشيء إلا لأن كل قصيدة يقولها شاعر إلا ولها مناسبة معينة في نفس الشاعر..
لكن ومع هذا مازالت قصيدة ادريان تغيظني جل أيام الأسبوع.. وما زلت أتمنى أن تكون لي قدرة على إيقاظه ليعيد صياغة هذه القصيدة، وينظر إلى هذا الشارع المزدحم.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.