باكو: «تعتبر الملاحة في قناة السويس الأكثر أماناً والأوفر وقتاً بالمقارنة بالقنوات الملاحية الأخرى في العالم»، بهذه العبارة التي تتصدر الموقع الإلكتروني لهيئة قناة السويس على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) تنطلق الدولة في سياستها لتطوير القناة وتحديثها والنهوض بأدائها بما يجعل من هذه العبارة واقعا حقيقيا بشكل مستمر، بدءا من المشروع القومي لازدواج القناة والذي تم بأيدٍ مصرية وبتمويل مصري خالص وكان مفخرة لمصر في احتفالية مهيبة، حيث شارك في افتتاح المجرى الثاني للقناة ملوك ورؤساء دول تقديرا للإنجاز الذي حققته الإرادة المصرية عقب انتصارها على التهديدات التي كادت أن تعصف بالدولة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الإرادة المصرية عن الاستمرار في النهوض بالقناة وأوضاعها في مواجهة أية تحديات طارئة أو تهديدات قائمة، فكان المشروع القومي لتنمية محور قناة السويس، وذلك ضمن مشروعات استراتيجية التنمية المستدامة المعروفة بعنوان «رؤية مصر2030»، حيث هدف هذا المشروع إلى تعظيم الاستفادة من الإمكانيات الهائلة لقناة السويس من خلال إنشاء مركز لوجيستي عالمي وتدعيم وتقوية شبكة الطرق الرابطة بين إقليم قناة السويس وباقي أقاليم الجمهورية خاصة العابرة لهذا المحور. وتتمثل رؤية المشروع في أن يكون هذا الإقليم إقليماً متكاملا اقتصادياً وعمرانياً، ومتزناً بيئياً، ومركزاً عالمياً متميزاً في الخدمات البحرية واللوجيستية والصناعية والسياحية، ومحوراً مشاركاً في تشكيل معالم التجارة العالمية بحلول عام 2030.
ويضم هذا المحور الأراضي الواقعة في منطقة قناة السويس بمساحة حوالي 460 كيلومترا مربعا، حيث تعتبر منطقة اقتصادية ذات طبيعة خاصة، وتتكون من ميناء غرب بورسعيد، وميناء شرق بورسعيد، والمنطقة الصناعية بالقنطرة غرب، ووادي التكنولوجيا شرق الإسماعيلية الجديدة، وميناء الأدبية، ومنطقة وميناء العين السخنة، وميناء العريش، وميناء الطور. كما يضم المشروع كذلك تنمية منطقة شمال غرب قناة السويس التي تشتمل على منطقة صناعية كبرى بالقرب من ميناء العين السخنة، ويغطي مساحة 200 كيلومتر مربع، ويشتمل على متنزه صناعي على مساحة 176.5 كيلومتر مربع، ومساحة 22.5 كيلومتر مربع متصلة بالميناء وتضم منطقة اقتصادية على مساحة 20.4 كيلومتر مربع.
ومع البدء في تنفيذ هذا المشروع، ارتفع أداء كافة المؤشرات الاقتصادية للقناة، حيث تزايدت أعداد السفن العابرة للقناة، كما ارتفعت حمولتها الصافية وإيراداتها المتولدة عنها، وذلك على النحو الذي يوضحه الجدول الآتي:
وكان من المتوقع استمرار هذه التطورات الإيجابية كمحصلة لمواصلة الهيئة تطوير أعمالها سواء بالنسبة للأرصفة والمراسي والمعديات، أو بالنسبة لكافة أصولها الثابتة من أوناش ولوادر وروافع، أو بالنسبة لسياستها التسويقية والتسعيرية المرنة الهادفة إلى دعم قدرتها التنافسية مقارنة بالممرات الملاحية الأخرى، إلا أن وقوع جائحة كوفيد-19 وتفاقم تداعياتها السلبية على حركة التجارة الدولية، أديا إلى تراجع الأداء وإن ظل مرتفعا، ولكن دون المأمول، ويجد ذلك تفسيره فيما أوضحه الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس بقوله: «إن مصر حرصت دوماً على أن تواكب قناة السويس مختلف المتغيرات على الصعيد العالمي، خاصة ما يتعلق بحركة التجارة العالمية، وهو ما مكنها من التعامل مبكراً مع أزمة جائحة كورونا التي ضربت مفاصل حركة التجارة والاقتصاد العالمي مطلع عام 2020»، إذ سرعان ما أعدت الهيئة استراتيجية استباقية متكاملة رباعية المحاور لمواجهة تداعيات الجائحة، وتمثلت هذه المحاور الأربعة فيما يأتي:
الأول: فتح خطوط اتصال وتسويق مباشر على مدار الساعة مع كافة الخطوط والتوكيلات العالمية.
الثاني: إطلاق حملة التسويق الأخضر لقناة السويس باعتبارها أقصر المسارات الملاحية الواصلة بين الشرق والغرب بما يسهم في تقليل استهلاك وقود السفن والحد من الانبعاثات الكربونية الضارة.
الثالث: تبني سياسة تسويقية مرنة والإعلان عن حزم تخفيضات لمختلف أنواع السفن.
الرابع: استهداف أسواق جديدة وبعيدة جغرافياً عن قناة السويس لاجتذاب أعداد من السفن كانت لا تعبر القناة في السابق.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية في الحد من تداعيات الجائحة عند حدها الأدنى، يدلل على ذلك مؤشرات الأداء السابق الإشارة إليها. ولكن لا يعني ما سبق أن تأثير الجائحة سيظل محدودا كما كان خلال النصف الأول من العام الجاري (2021)، بل تشير بعض التوقعات إلى احتمالية تراخي حركة الملاحة الدولية بنسبة 4 في المائة قياسا بالعام الماضي (2020) ليس فقط بسبب تأثيرات الجائحة وإنما بسبب بعض التحديات القائمة والمتوقعة، والتي يمكن أن نجملها في ثلاثة تحديات على النحو الآتي:
- الأول: يتعلق بالحروب التجارية سواء الإقليمية أو الدولية، وخاصة تلك الواقعة في مناطق التجارة الحيوية أو مصادر المواد الخام، ومن أبرزها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.
- الثاني:يتعلق بتأثير انخفاض تكلفة الوقود على مسارات بعض الخطوط الملاحية، إذ مع الوفر الكبير في تكلفة الوقود اتجهت بعض الشركات الملاحية إلى تفضيل مسارات ملاحية أخرى تفاديا لدفع رسوم القناة.
- الثالث: يتعلق بتنامي حجم التجارة البينية خاصة بالنسبة للحاويات، وهو ما يعني توجه العالم نحو الإقليمية مرة أخرى في ظل القيود التجارية الحمائية التي تفرضها الدول، وتؤثر سلبا على حركة التجارة العالمية وسلاسل التوريد الدولية.
وسعيا لمواجهة هذه التحديات وتعظيم الأهمية الاقتصادية للقناة على النحو الذي كان قائما، إذ تمثل القناة شريانا رئيسيا لحركة التجارة العالمية المنقولة بحرا، حيث يعبر من خلالها نحو 10 في المائة من إجمالي حركة التجارة العالمية، وما يناهز 25 في المائة من إجمالي حركة البضائع المحواة عالميا، و100 في المائة من إجمالي تجارة الحاويات المنقولة بحرا بين آسيا وأوروبا. فضلا عما تتميز به القناة من ارتفاع قدرتها الاستيعابية لكافة أنواع السفن، إذ بمقدورها استيعاب 100 في المائة من الأسطول العالمي لسفن الحاويات، ونحو 93 في المائة من أسطول سفن الصب الجاف، ونحو 62 في المائة من ناقلات البترول ومنتجاته.
من هذا المنطلق، طرحت الهيئة العامة لقناة السويس رؤية تنموية مستقبلية تستهدف تغيير وظيفة القناة من مجرد ممر مائي أي ممر عبور ملاحي إلى منطقة تنموية تضم مناطق ترانزيت وإعادة تصدير. وقد ارتكزت استراتيجيتها التطويرية على ثلاثة محاور رئيسية:
الأول: يتعلق بتسريع وتيرة التحول الرقمي لربط كافة الجهات المعنية بالاستثمار في المنطقة الاقتصادية إلكترونيا، بحيث يتم إصدار التراخيص بصورة موحدة من خلال منظومة رقمية متكاملة، حيث يتم من خلالها تيسير وتبسيط الإجراءات والخدمات المقدمة، ومن أبرزها:
- تبسيط وتيسير إجراءات الإفراج الجمركي وتوفير النسق الإلكتروني للمستندات.
- تيسير التداول بين مشروعات المنطقة الاقتصادية.
- تسهيل إجراءات تصدير منتجات مشروعات المنطقة للسوق المحلية.
- تفعيل آليات التخليص الجمركي المسبق.
- تطوير البنية التحتية والمرافق الأساسية بالمناطق الصناعية.
الثاني:يتعلق بالتوطين الصناعي والتكنولوجي لشركات عالمية متخصصة، من خلال تقديم حزم من التسهيلات والحوافز، وذلك بهدف توطين المشروعات المنتجة لسلع بديلة للواردات المصرية لتلبية احتياجات السوق المحلية واستشراف فرص التصدير (ويذكر في هذا الخصوص أن المنطقة الاقتصادية تضم حاليا 247 شركة منها 40 شركة خدمية والباقي شركات صناعية)، ومن أبرز المشروعات في هذا الخصوص:
- المنطقة الصناعية الروسية الواقعة بالقطاع الشمالي للمنطقة بشرق بورسعيد.
- المنطقة الصناعية الصينية بالعين السخنة.
- الاتفاق مع الشركات الأميركية بإقامة أكبر مصنع لصناعة كابلات الألياف الضوئية بالعين السخنة. وكذلك الاتفاق على توطين صناعتي المسبوكات والقطاعات بمنطقة شرق بورسعيد.
الثالث: يتعلق بتطوير الخط الملاحي والخدمات الملحقة به بما يضمن سلامة الملاحة في ممر القناة، حيث تم وضع حزمة من المشروعات التطويرية في هذا الخصوص، من أبرزها ما يأتي:
- استكمال بناء الكراكات وتطوير الأوناش وأنظمة التحكم بها.
- شراء قاطرات ووحدات دفع وشمندورات.
- تعميق التفريعة الغربية وتوسيع وتعميق مناطق الانتظار في البحيرات المرة.
- إنشاء مجمع إصلاحات بالمنطقة الشمالية وورش صيانة بناء السفن.
- استكمال مشروعات تنمية مباني ومرافق الهيئة.
- تطوير الأسطول البحري خاصة ما يتعلق ببناء 8 قاطرات بحرية بقوة شد 70 طنا طرازات مختلفة.
- استكمال تنفيذ إنشاء أنفاق أسفل قناة السويس.
- تنمية وتطوير ترسانات الهيئة ببورسعيد وبورتوفيق لمواجهة التطور العالمي للسفن العابرة وتطوير نظم إصلاحها.
- توفير الإمكانيات اللازمة لمجابهة حوادث السفن في القناة، خاصة حوادث الانسكاب البترولي وجنوح السفن العملاقة، وذلك من خلال التوسع في إنشاء سلسلة من الجراجات العملاقة على القناة الجديدة، وتعميق وصيانة الجراجات الموجودة على القناة الأصلية.
- تطوير محطات مراقبة الملاحة البحرية (البالغ عددها 16 محطة) بطول المجرى الملاحي.
في ضوء هذه الرؤية التطويرية، تتعاظم مكانة القناة كشريان عالمي للملاحة، حيث تعد من أهم حلقات سلاسل الإمداد العالمية، إضافة إلى دورها على صعيد الاقتصاد الوطني، حيث تعد مصدرا رئيسيا مولدا للنقد الأجنبي، وهو ما يدفع الدولة المصرية إلى العمل على تطويرها والنهوض بقدراتها وإمكاناتها لتنتقل من مجرد ممر عبور ملاحي إلى منطقة تنموية متكاملة تسهم في تنفيذ استراتيجية التنمية المستدامة المستهدف تحقيقها بحلول عام 2030.