لم تدم الأجواء الإيجابية التي سيطرت على ملف تشكيل الحكومة طويلا، فما إن بدأ الحديث عن اتفاق يجهد رئيس مجلس النواب نبيه بري مع أطراف أخرى بالتوصل إليه، لجمع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف للوصول إلى صيغة حكومية مقبولة من جميع الأطراف بعد 7 أشهر على التكليف، حتى قام رئيس الجمهورية بإرسال تشكيلتين حكوميتين إلى البطريرك الراعي، الأمر الذي أثار موجة من الانتقادات الحادة لخطوة بعبدا، كونها تتنافى مع المبادئ الدستورية والقانونية والأعراف المتبعة في تشكيل الحكومات.
بعد رسالة رئيس الجمهورية
شرخ كبير وحاد أصابته رسالة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب والتي طالب من خلالها المجلس باتخاذ الموقف أو القرار المناسب بشأن تأليف الحكومة، محاولا إحراج الرئيس سعد الحريري ووضعه في موقع المعطل، ولكن ردّ الحريري الشامل على رسالة عون وتبيانه الحقائق راميا الكرة مرّة جديدة عند عون وفريقه السياسي، بأنّ هدفهم فقط إحراج الحريري لدفعه إلى الاعتذار، وإصرارهم على الثلث المعطل وتشكيل حكومة مبنية على المحاصصة وتوزير من سماهم «الأزلام».
ولكن ما حصل بعد مناقشة الرسالة في المجلس النيابي الذي أكّد على تكليف الحريري، أعاد شيئا من الأمل للبنانيين الذين ينتظرون بفارغ الصبر تشكيل حكومة تضع حدا للانهيار. فبدأت بوادر تسوية لتسريع التشكيل كان عرابها رئيس مجلس النواب نبيه بري والبطريرك الراعي الذي طالب في عظة الأحد الماضي الرئيس المكلّف بإعداد تشكيلة جديدة وإرسالها لرئيس الجمهورية والاتفاق عليها، كما عمل المبادرون على صيغة حكومية جديدة من 24 وزيرا بدل 18 وزيرا والتي كان يصرّ عليها الحريري.
الجميع حاول بثّ نوع من الإيجابية وتقديم التنازلات من قبل طرفي النزاع أي رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، وحكي أن الحكومة يمكن أن تشكل خلال ساعات إذا بقي المعنيون على انفتاحهم.
ولكن يبدو أن رئيس الجمهورية الذي اعتاد نسف الفرص، والذي يبدو أنّه قرر أن يقضي على ما تبقى من أمل للبنانيين قبل رحيله، سينسف هذه المرّة الفرصة «الجديّة» التي يحاول المصلحون أن يكللوها بتشكيلة حكومية تدير البلاد، قبل الانتخابات النيابية المقررة العام المقبل.
فبحسب ما كشفته وسائل إعلامية محلية، سجل رئيس الجمهورية سابقة يضيفها إلى سوابقه كما اعتاد من خلال خرق الدستور والأعراف، فبعد أن استفز الرئيس الحريري عبر إرساله نموذجاً لتشكيلة حكومية طالبا منه تعبئتها بواسطة درّاج، عاد عون وخرق الدستور من جديد وقام بتقديم تشكيلتين حكوميتين كاملتين من 24 وزيراً للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وزّع خلالهما الحقائب على المذاهب ووضع مرجعية التسمية (أي المرجعية الحزبية)، وهذه الخطوة تعتبر سابقة، كون أن التشكيل بحسب الدستور يجب أن ينحصر بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية، ولم يعتد لبنان أن قام رئيس جمهورية بإعداد مسودة تشكيلة حكومية أو مناقشة تشكيلة حكومية مع مرجعية دينية!
وفي المسودتين الحكوميتين حصل عون على ثمانية وزراء (6 لرئيس الجمهورية + 1 طاشناق + 1 ديمقراطي) ووضع ملاحظتين على الحقيبتين العائدتين للوزيرين المسيحيين من خارج حصة الأحزاب للاتفاق على الاسمين بين الرئيسين عون والحريري، وهذا ما يعني حصوله على الثلث المعطل بطريقة غير مباشرة بمجرد أن يكون أحد الاسمين مقرباً إلى عون.
وإضافة إلى أن التشكيلة المرسلة من عون تظهر أن الرجل خلافا لما يدعي أنّه لا يريد ثلثا معطلا، بل إنّه يصرّ على تسمية كل الوزراء المسيحيين، الأمر الذي يرفضه بشدة الرئيس الحريري، فالرئيس المكلّف بحسب الدستور يشكّل الحكومة بالتشاور مع رئيس الجمهورية، ولم يقسم الدستور مرجعية تسمية الوزراء حسب طائفتهم، ورفض الحريري نابع من أن رئيس الحكومة هو رئيس حكومة كلّ اللبنانيين وليس فقط المسلمين السنّة، ورئيس الجمهورية يجب أن يكون كذلك رئيسا لكل اللبنانيين وليس فقط رئيس المسيحيين، وإن رضخ الحريري لمطلب عون بترك تسمية الوزراء المسيحيين له يكون قد ساهم في تسجيل سابقة ستتحول إلى عرف «طائفي» خطير في الحكومات المقبلة.
هل طار التشكيل؟ وما الخطوة التي سيتخذها الحريري؟
يبدو أن الجو التفاؤلي قد تبدد، فمنذ اليوم الأول لتكليف الحريري، وضع الأخير خطوطا حمراء منع أن يتجاوزها أحد، حكومة من اختصاصيين مهمتها وضع حدّ للانهيار، حصر التأليف بينه وبين رئيس الجمهورية، رفض تسجيل أي سوابق خلال عملية التكليف كالرسائل التي يوجهها عون أو مسودات التشكيل التي ردّها سابقا من قصر بعبدا مع الشكر، أو حصر تسمية المسيحيين من قبل رئيس الجمهورية، أو السماح لرئيس الجمهورية بتفخيخ الحكومة من داخلها عبر حصوله وفريقه السياسي على الثلث المعطل.
حتى الساعة لم يصدر عن الرئيس المكلّف أو من مصادره أي تعليق على مسودتي عون، ويبدو أنه سيتعاطى معهما كما فعل سابقا بخروقات عون الدستورية، الذي يشير تصرفه إلى أنه يصرّ على محاصرة الحريري في صلاحياته والاستحواذ عليها. وكأن رئيس الجمهورية هو من يشكل الحكومة ويضع هيكلها، بينما من مهمة الرئيس المكلف إضافة الأسماء. فالحريري رفض بالمطلق التعاطي مع هاتين التشكيلتين أو مقاربتهما، لأنه يرفض أن يتعدى عون على الدستور، الذي تناط به صلاحية تشكيل الحكومة.