امرأة بزي شعبي بدوي، عباءة سوداء، وشاح أسود، يخرج منهما وجه وأيادٍ مجعدان ومنقطان باللون الأزرق، والتي ترمز لشيء معين في بيئة البداوة أو عند الغجر، وغالبا ما يهتم الناس لمعرفة طبيعتها ورمزيتها، فينظرون إليها ويمضون في سبيلهم.
بصوت خافت للمارة تقول لهم أشياء ربما تثير فضولهم، فيتوقفون لمعرفة مضمون الهمسات التي تفوهت بها، و«يبيضون الفال» هذه هي العادة إن أراد أحد ما معرفة «حظه» أو «بخته».
«حياة».. هكذا تفضل أن تسمي نفسها دون أن تعلن اسمها الصريح أو وجهها أمام عدسة الكاميرا، هي تعرف أن تصطاد الزبائن في زمن القحط ومتى يجب أن توقفهم بحسب الموقف، فتراها تهمس بالقرب من شابة في الثلاثينات من عمرها، تمشي في سوق الصالحية بدمشق بعبارات لها علاقة بالارتباط أو الإنجاب، وذلك إذا ما حدقت الفتاة بها قبل أن تحاول متابعة سيرها، أو تراها تلقي بعض الكلمات لشاب عن مستقبله، إن ما وجدته بشكل يوحي لها بأن تفعل ذلك، وبالطبع ليس كل من تناديه يلفته الموضوع ويتوقف، بل هنالك من يرونها ويتابعون سيرهم.
البصارات في دمشق عودة بعد دراسة الواقع
لعل موضوع معرفة المجهول هو أكثر ما رافق الإنسان في حياته منذ الأزل، فكل مخلوق يسعى وراء المعرفة سواء أكانت إيجابية تدفعه ليكمل ما يصنعه، أو سلبية تنهيه عن فعل ما أو الاقتراب من شيء معين، حتى إن العراف وقارئ الغيب كان يستشار من قبل قادة المعارك والملوك والسلاطين، لمعرفة ما سيحدث، وهل يدخلون في حرب أو صلح، وكان لمهنة العرافة باع طويل وأشكال مختلفة وعلى حسب البيئة والمكان، قراءة الكف، اسم الشخص وميزان حروفه، التطير والتي تتم من خلال طائر وعلى حسب اتجاه طيرانه يرى العراف «بخت» المقروء له، إضافة للتبصير من خلال الضرب على الرمل، وفي سوريا كان لفنجان القهوة النصيب الأوفر حظاً، حتى بات طقساً صباحياً عند النسوة.
يأتي مصطلح «بيض الفأل» ضمن نهج البصارات لكونها نابعة عن أساس الجن المسخر لخدمتها كي تعرف المعلومات وتطلع عليها، حيث إن الجن لا يرضى إعطاء المعلومات إلا في حال وجود قربان، والقربان عند البصارات يعني المال، وتأتي كلمة الفأل بمعنى البخت أو الحظ، فيما كلمة «بيّض» بمعنى أن ادفع أكثر حتى تقرأ البصارة للشخص بشكل أبيض أي جيد.
حياة تلك المرأة الغجرية بزيها الفلكلوري، تبصر للناس بالكف أو عن طريق فنجان القهوة، ولكل شكل تبيّض «تسعيرة» مختلفة، ولا يخلو الأمر من الدفع الزائد إن أصابت للشخص شيئا حدث له في الماضي، وأعطته أمرين إضافيين سيحدثان في المستقبل ويحققان له الربح الوفير.
كيف تستطيعين التبصير للناس؟
من غير مبالاة، تركز حياة عيونها على المارة لتعرف كيف ستلقط رزقها، وترد: من الله يا ابني، لمجرد توقف الصبية أو الرجال أمامي ونظرت في عيونهم، تفتحت أساريرهم، وكُشفت حياتهم أمامي، ويدفعون لي بدورهم بعد أن يعرفوا الحقائق.
الفكرة السائدة حيال الإنسان أنه يؤخذ بما يقال لمجرد النظر... لم تعجب حياة، حيث اعتبرت الكلام استهزاءً بقدراتها على معرفة الغيب، وتابعت لكن مع نظرة حادة هذه المرة، «شغل الله لله، أما شغل العبد لا يعرف به سوى العبد وربه، دعنا نتابع عملنا».
تجاهلت حياة كل الأسئلة حيال عملها ومكان ولادتها وتعلمها وكيف استطاعت أن تعلم الغيب، واكتفت بالنظر للمارة أو طلبها بسؤال زميلتها في المهنة على الطرف الثاني، والتي لم تتحدث بأي شيء، بل اكتفت بالنظر كما حياة، أشبه بكلمة سر بينهن، تُفعل عند الإحساس بالخطر.
لا يمكن الجزم بأن كل البصارات اللاتي أتين إلى دمشق هن من البدو، أو الغجر، لكن وبحسب مواد صحافية تحدثت عن الغجر في سوريا، بينت أنهم يقطنون في الأحياء الأكثر اكتظاظا بالسكان لأن أعمالهم تتطلب ذلك سواء بالتبصير أو تنظيف الأحذية أو الغناء والرقص وأطلق على النساء اللاتي تعملن بالمهنة الأخيرة «الحِجيّات»... إلخ.
انغلاق مجتمع الغجر (النّوَر في وصف أخر)، سمح بتداول معلومات قد تكون صحيحة أو خاطئة، لكن المتعارف عليه أن الحرب السورية ساهمت بتعطل أعمالهن والتي غالبا ما تحتاج الأمان، فمثلا لا يمكن إقامة حفلات سمر في الصحراء، لأن تلك المنطقة تفتقر للأمان، ولا أحد يعلم متى يشن تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية (داعش) بمقاتليه المتخفين في البادية السورية، هجوماً يتسبب في مقتل أشخاص تواجدوا في نقطة الهجوم.
ونتيجة البحث عن الأمان، فقد لا يعود الغجر للأماكن التي شهدت صراعاً، وذلك على مبدأ التشاؤم من الأماكن غير الآمنة ما دفعهم للبحث عن مناطق يعملون بها بالقرب من المدن، كون الحياة المدنية معروفة بثقافتها بالنسبة لهم، دون التخوف من بعض الأحياء وعاداتها.
حكاية البصارات على لسان قاصديهم!
انتهى فواز أحمد وخطيبته من فأله على يد حياة، وروى تجربته، بأنها أقرب للخيال من الواقع، لكن ما يميز الحالة هو أن البصارة قامت بالبحث عن علامة تكمل فيها قراءة طالعه.
يقول فواز: أحب أن أفتح الفأل، حتى لو لم يكن حقيقيا، فما أريده هو المتعة، إضافة للكلام مع تلك البصارات فيمكن للإنسان أن يتعلم من التجربة والاستماع للأحاديث، وبسبب تشابه الأحداث عند البشر في نقاط محددة، تجعل المستمع للبصارة يبحث عن حياته في كلامها ليصدقها في نهاية المطاف.
ويتابع: لم أدفع الكثير، «ربع ساعة كلفتني 2000 ليرة سورية، وفي كل مرة تقول لي بيّض الفال، أعطيها 500 أو200 ليرة وفي هذه الحالة أكون راضيا ومستمتعا وهي تسترزق.
وما يسعد فواز هو الاستماع لحياة الغجر في كل فرصة يصادفهم في طريقه، ليبين على ألسنتهم، بأن هذه المهنة لم تعد جديّة كما في السابق وهنالك الكثير ممن يمتهن التبصير، حتى إن أجرها المادي بات ضعيفا إذا ما تمت مقارنته مع الماضي.
يتجمع العديد من النسوة في حديقة الصالحية أو كما تعرف بحديقة عرنوس، وذلك بعد جولة السوق، فيتناولن مع بناتهن أو أزواجهن، بعض الحلوى أو يتنزهن لبعض الوقت قبل العودة للمنزل، حيث بات عرف لدى النسوة الذاهبات للصالحية، الأمر الذي يدفع البصارات في تلك المنطقة للالتفاف حول النسوة واستخدام أسلوبهن لجذب المهتمين بالطالع والحظ لبناتهن أو لهن وعلاقتهن الزوجية، وهذا ما يعد باب الرزق الوفير الذي فتح إذا ما طلبت سيدة من بصارة أن تعرف فالها بالقرب من نسوة أخريات، الأمر الذي يجذب الباقين للاستماع، ومن ثم الطلب من البصارة أن تقوم بالأمر عينه لهن.
أبو هاشم رجل في السبعينات من عمره، اعتاد أن يأتي كل يوم إلى الحديقة ليتنزه، ما بين مشي وجلوس، واعتاد على البصارات في الجوار منذ 2019، يقول لـ«المجلة»، إن الأيام متشابهة، منذ أتت البصارات إلى سوق الصالحية، كل يوم يشاهد ذات المشهد، (نسوة يستمعن لحظهن من بصارة)، واعتبر أن «حكي النسوان» على حد وصفه أمر طبيعي سواء أكانوا في البيت أو في الشارع.
ويشير إلى أن الناس تحتاج اليوم لوقت ضائع آخر عن «اللي راح من عمرهم»، يريدون معرفة المستقبل المجهول للتفكير بعيداً عن الواقع ولو بكلمة، لذلك فإن اللجوء للبصارة بات أمراً اعتيادياً ليس للنسوة فقط، بل لكل الناس، فما من حياة يعيشونها ويستمتعون بها، وكل ما بقي هي الأحلام.
بصارات في المنزل
تدفع نوال البيش، سيدة في أواخر الأربعينات، بنساء حيها في منطقة الميدان، ليأتين إليها كل صباح من أجل معرفة حظوظهن وأزواجهن، فتجيب عن الأسئلة التي يتحرقون للإجابة عنها حول مواضيع منها: الوظيفة والعمل ورضا مدرائهم، والحياة الاجتماعية والعائلية والعلاقات العاطفية والأسرية والسفر.
تقول نوال إن فنجان القهوة مع النسوة أصبح فأل خير عليها، فهي اجتماعية وتحب الناس، وبهذه الطريقة استطاعت جذب النسوة وإمضاء الوقت، حتى وصل بها الحال لمعرفة كل شيء عنهن حتى علاقة النساء مع أزواجهن في الفراش، وباتت تصلح أمورهن لكون الناس تحب أن تستمع للأمور الإيجابية.
حتى إنها باتت تستخدم أساليب متطورة وخاصة، بغية الحفاظ على علاقتها مع النسوة وأصدقائهن، فإن وجدت أمرا سلبياً على سبيل المثال، قالت للسيدة، بأنها أخطأت في شيء منع عنها حصول أمر ما، ولا تستخدم تعابير مثل الفشل أو الحظ السيئ فهذا أمر غير صحي بالنسبة لها، إضافة لتعابير مثل الطاقة الإيجابية والتفكير بالجيد ونسيان السيئ، مرددة عبارة: «كل متوقع آت فتوقع ما تتمنى».
تفضل نوال قراءة الفنجان عوضاً عن الكف، بعكس غيرها من النسوة اللواتي يعتبرن بأن الكف أصدق من الفنجان لسبب أن خطوط اليد وتفرعاتها تنتمي للشخص أكثر من «طحل القهوة»، لكن في كل الحالات فإنه لا يوجد أساس علمي ولا حكم مثبت، وتعتبر موروثاً شعبياً بدأ من رسومات ما يشاهدها المُبصّر ويطلق عليها تسميات معينة ويسقطها على الحياة، فمثلا إن شاهد نقاطاً في الفنجان فهذا يعني أن الحسّاد كثر بسبب العيون المسلطة على صاحب الفنجان.
إحدى النساء اللواتي يأتيّن صَبحية نوال، تبين أن الحاسة السادسة هي الأساس في قراءة الطالع مع الفراسة التي تصاحب القارئ لمراقبة تعابير الإنسان أثناء الحديث، وتبين أن الجلسة فقط للتسلية ومهما ازدادت شطارة المُنجم فهو كاذب تبعا لمقولة «كذب المنجمون لو صدقوا».
وبحسب المعلومات، فإن الضرب بالرمل أو الودع، يعتبر شكلا من التبصير لكنه تراجع لحساب الفنجان والكف، لارتباطه بالسحر والشعوذة ضمن العرف المجتمعي السائد وغالبا ما يستخدم من قبل الغجر أي يحتاج لإتقان وممارسة.
الضرب بالرمل يعتبر أمرا مهما، ويقال بأنه صائب إلى حد ما، ومرعب بحسب الكثيرين، لأنه يستخدم في السحر، والشخص الذي يرمي الودع هو مشعوذ وليس قارئا وعرّافا.
تعبر نوال عن رأيها الشخصي بكل تجرد، بأن التبصير هو كذبة يلجأ لها الناس كي يريحوا أذهانهم ويمضون الوقت، بشكل يشبه الأبراج.
فيما علقت منار زركي على «فيسبوك» بأن الظروف المحدقة ساهمت في جعل التبصير خياراً في ظل انعدام الخيارات الأخرى، والسعي لطلب النجدة من العالم السفلي والعلوي إن أمكن، لأن الحلول العملية لم تعد مجدية، فلا بد من قوى خارقة لحل المشاكل المستعصية.
وتقول حنان محمد إنه لعل وعسى يفرح المرء بشيء من التبصير وهو الحل الأنسب لمعالجة واقع الغاز والمازوت والبنزين بالبلد.
وينص القانون السوري: «يعـاقب بالحـبس التكديري من يوم إلى عشرة أيام وبالغـرامة المالية من 500 ليرة إلى 2000 ليرة لمن يتعاطى بقصد الربح، مناجاة الأرواح والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وقراءة ورق اللعب وكل ما له صلة بعلم الغيب، كما تصادر الألبسة والعدة المستعملة، ويعاقب المكرر بالحبـس حتى 6 أشهر وبالغـرامة المالية 2000 ليرة ويمكن إبعاده عن البلاد إن كان أجنبياً».
تبصير رقمي وعلى الواتساب!
لم يتوقف الأمر في الشوارع أو صبحية النسوة في سوريا، فراح كما غيره من الأعمال ينتشر وفق مبدأ رقمي وعلى حسب الطلب والحاجة، كل ما على الشخص القيام به هو إرسال صورة فنجان القهوة أو اليد ومن ثم تفتح أسارير البصارة وتتحدث، وذلك دون تفاصيل عن إن كانت البصارة تحصل على المال أم لا، حيث إن النسوة اللاتي تواصلن مع البصارة لم يدفعن مقابل التبصير.
ريم قارئة فنجان تسكن في اللاذقية، هكذا تسمي نفسها، انتشرت عبر صفحات التواصل الاجتماعي والواتساب على وجه التحديد، حيث تطلب الفتاة على سبيل المثال منها قراءة فنجانها لمعرفة شيء ما عن حياتها وحظها، وتنتظر ريثما توافق ريم وبعدها ترسل صورة الفنجان وتحصل على المعلومات.
سعاد «اسم مستعار لفتاة» رفضت التصريح عن اسمها لأسباب شخصية، وقالت إنها أصبحت وريم صديقتين، تلقي عليها التحية كل يوم وتتحدثان بالعديد من الأمور الحياتية، فيما تعرفها على فتيات أخريات حتى أصبح لديهم مجموعة للتواصل عبر تطبيق واتساب.
تقول سعاد إن الأمر لم يعد تبصيرا فقط، بل أصبحنا أصدقاء، نتبادل الأحاديث وصور الطعام وكل شيء كما في الواقع، وتقرأ ريم صور الفناجين، إلا في حال طلبت إحدى السيدات أن تكون المعلومات غير معلنة، وكل فتاة تطلب الدخول للمجموعة تستطيع لكن عن طريقة معرفة بإحدى الفتيات الناشطات على «الغروب».
نشوء العلاقة بين الطلب والحاجة في كل شيء، أمر طبيعي، حتى وإن اختلفت الأشكال إلا أن المضمون ينال قسطه كاملا، لما له من دوافع تأتي به عن غيره من الحلول، فالأحلام باتت الطريقة المثلى وربما الفضلى في تحقيق أشياء لا يمكن الوصول إليها عن طريق الواقع، فما البصارة سواء ريم الافتراضية أو حياة على أرض الواقع إلا شكل من أشكال الحاجة لنافذة أمل تطلب ممن افتقد كل شيء.