إن الهجمات الإرهابية والتهجمات الإعلامية ومؤامرات الكواليس التي أصبحت تستهدف دول الاعتدال العربي بشكل مكشوف ليست وليدة اليوم. فهذه الدول، وهي في معظمها أنظمة وراثية تتميز بقدر كبير من الاستقرار السياسي وبتجانس أكبر بين مختلف مكوناتها الاجتماعية، عانت طويلا وما تزال تعاني من أنواع متعددة ومتدرجة من التحرشات يمكن إيجازها فيما يلي:
* تدخلات سافرة في شؤونها الداخلية من دول كبيرة، ومن أطراف إقليمية ذات نزعة توسعية.
* عمليات إرهابية دموية متى ما لاحت ثغرة في اليقظة الأمنية العالية المستوى التي تتسم بها.
* هجمات سيبرانية على منشآتها الاقتصادية والتجارية وبنيتها العسكرية لتعطيلها وإلحاق الضرر بها.
* حملات إعلامية مغرضة في أغلب الأحيان، في مختلف وسائل الإعلام، وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
والواضح أن تباين-وأحيانا تضارب-غايات الأطراف التي تمارس هذه التحرشات بحسب مصالح كل طرف، لم يمنعها جميعا من أن تعمل على تعريض دول الاعتدال العربي إلى الابتزاز والبحث عن المزيد من الاستفزاز لها، بغية إدخالها هي الأخرى في دوامة عدم الاستقرار التي باتت سمة ملازمة لعدد كبير من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
في هذا الصدد استخدمت الدول المتحرشة والمتربصة العديد من الذرائع للتدخل والتأثير في دول الاعتدال لإنهاكها سياسيا واستنزافها اقتصاديا وماليا؛ إذ لم تتوان عن افتعال أزمات لها مع بعض من مكوناتها المذهبية أو العرقية، ولم تتردد في الإساءة إلى وحدتها الترابية، وفي ارتكاب أعمال إرهابية ضد بنيتها التحتية الحيوية، إما باستخدام الذئاب المنفردة أو بعض الميليشيات المتطرفة.
ولا شك أن كل تلك التحرشات والتدخلات المفضوحة منها والمستترة قد شوشت وستشوش لا محالة على نهج وسياسات دول الاعتدال العربي؛ ولكنها لن تثنيها عن مواصلة مسيرتها التنموية في الداخل، وعن ممارسة أدوارها الإقليمية البناءة الباحثة عن ترسيخ مناخ للسلام والاستقرار.
لهذا تعتقد بعض الدول الكبرى وقوى إقليمية أنها وجدت ضالتها في التلويح بورقة حقوق الإنسان للضغط على دول الاعتدال العربي، خاصة بعد أن وصلت إدارة ديمقراطية إلى الرئاسة الأميركية كان أحد أهم شعاراتها الانتخابية هو وضع دمقرطة المجتمعات وحماية حقوق الإنسان معيارا أساسيا في صياغة شكل علاقات واشنطن ومستواها مع الحلفاء والخصوم على حد سواء.
ورغم أن دول الاعتدال العربي متقدمة كثيرا في مجال حقوق الإنسان عن غيرها من دول المنطقة، ولا سيما في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ فإنها ما تزال عرضة لعمليات ابتزاز غير مسبوقة، وبطريقة تخلط تعسفيا بين قضايا داخلية متفرقة عولجت قضائيا وإنسانيا بشكل مقبول، وبين قضايا إقليمية متورطة فيها دول أخرى كما هو الحال في اليمن حيث يتم تجاهل دور الحوثيين الذي يعتبر سببا رئيسيا فيما يحصل في ربوع اليمن، بدعم كامل ومفضوح من إيران.
صحيح أن الانتقادات والهجمات الإعلامية وفي الكواليس الدبلوماسية المرتكزة على استغلال حوادث فردية ومعزولة في مجال حقوق الإنسان ليس لها تأثير كبير على سمعة دول الاعتدال العربي على الساحة الدولية، ولكنها تظل مزعجة، خصوصا وأنها متواترة وتتجدد باستمرار بمناسبة صدور أي تقرير من منظمات دولية حكومية وغير حكومية تعنى بالحريات العامة وحقوق الإنسان.
وإذا كان قصد القوى الغربية الكبرى من الإثارة المستمرة لقضايا حقوق الإنسان هو تأجيج حالة عدم الاستقرار في المنطقة وإن أمكن داخل الدول نفسها؛ فإن القوى الإقليمية ذات التطلعات المهيمنة بعيدة عن أن تمثل قدوة في هذا المجال لما تتميز به من قمع وتنكيل للمعارضين، ومن تمييز مفضوح بين مكوناتها المجتمعية بسبب انتماءاتها العرقية والمذهبية. ولذك فإن هدفها من اللعب على وتر الحقوق الإنسانية هو دفع دول الاعتدال العربي نحو التقوقع على ذاتها، والسعي إلى تقزيم الأدوار الطلائعية التي باتت تلعبها من أجل السلام والاستقرار والازدهار في المنطقة.
لقد أثبتت التجارب والكثير من الوقائع أن قضايا حقوق الإنسان النبيلة ليست سوى شماعة يتم توظيفها بشكل بشع وفج للإساءة إلى دول الاعتدال العربي وإحراجها بعيدا عن الموضوعية والنزاهة التي يفترض أن تكون معيارا للحكم في مثل هذه الحالات. ولهذا بات من الضروري أن تعمل الدول المعنية على وضع حد للتشويش المقصود على أدوارها وما تمثله من نماذج جديرة بالاقتداء في الكثير من المجالات ؛ وذلك من خلال:
* الخروج من حالة الارتباك التي تنتاب بعضها بمجرد إثارة أي قضية تدخل في إطار حقوق الإنسان، ما دامت مثل هذه القضايا استثنائية وفردية، ولا تعكس أبدا سياسة قمعية ممنهجة للتضييق على الحريات الفردية، كما هو الشأن في عدد من دول الجوار العربي.
* مواصلة تطوير حقوق الإنسان بتوازن بين القوانين الدولية والخصوصيات المحلية الدينية والمجتمعية، مع العمل على توسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرارات الوطنية الكبرى، وضمان الحق في إبداء الرأي والتعبير لأوسع فئة ممكنة.
* مواجهة الاستفزاز والابتزاز بالقضايا الإنسانية جماعيا عبر رص صفوف قوى الاعتدال في مؤسسات صلبة ومتضامنة بعيدا عن المؤسسات التقليدية التي ثبت أنها مجرد منتديات سياسية فارغة دون أي تأثير دولي أو إقليمي يذكر.
إن مثل هذه المؤسسة يمكن أن تكون الدول العربية الوراثية هي نواتها الأولى بما تمثله من ثقل سياسي واقتصادي ومالي كبير، خصوصا بعد أن تم تذويب العديد من الحساسيات فيما بينها، على أن تضاف إليها دول أخرى مستهدفة في نسيجها الاجتماعي وفي أدوارها الإقليمية والعربية المعتدلة مثل مصر والسودان، ولا بأس من التفكير في ضم قوى إسلامية معتدلة لها وزنها كإندونيسيا مثلا.