باكو: زيارة رفيعة المستوى قام بها رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، في الثامن من مايو (أيار) الجارى (2021)، أعطت دفعة قوية لعلاقة البلدين، إذ أفسحت المجال لمناقشات مباشرة ومستفيضة بشأن سبل تعزيز علاقاتهما الثنائية في مختلف المجالات بما يحقق مصالحهما المشتركة، وفي الوقت ذاته أكدت على مساحة التوافق بينهما حيال كثير من القضايا الإقليمية والدولية.
ومن الجدير بالإشارة أن هذه الزيارة اكتسبت أهميتها من بعدين مهمين:
الأول، أنها جاءت لتمثل ردا عمليا على محاولات بعض الأطراف الإقليمية إحداث فتنة في العلاقات السعودية الباكستانية. صحيح أنه من الطبيعي أن تشهد العلاقات بين الدول تباينا في بعض المواقف وتوافقا في بعضها الآخر، إلا أنه من الصحيح أيضا أن مستوى هذا التباين وحجمه يعكسان مدى عمق العلاقات وتقاربها، وهو ما ينطبق على مسار العلاقات السعودية الباكستانية المتجذرة بين البلدين في مختلف المجالات دون أن يمنع ذلك وجود تباين في المواقف حيال بعض الأحداث، ولكن هذا التباين لم يترك تأثيره على مستوى علاقات البلدين وحجمها وعمقها.
البعد الثاني، مخرجات الزيارة ونتائجها، إذ تكشف القراءة المتأنية لما أفرزته الزيارة من مخرجات عن مدى نجاحها في تعزيز التقارب بين البلدين، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان أن هذه هي الزيارة السابعة لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان منذ انتخابه عام 2018، حيث كانت المملكة محطته الخارجية الأولى عقب انتخابه مباشرة، إضافة إلى قيامه بعدد من الزيارات خلال عام 2019، وجاءت الزيارة الأخيرة لتعطى دلالة على مدى اهتمامه بتعزيز العلاقات مع المملكة وقيادتها.
وفي ضوء هذه الأهمية التي مثلتها الزيارة رفيعة المستوى إلى المملكة، يستعرض هذا التقرير مخرجات الزيارة ونتائجها وانعكاساتها على مستقبل علاقات البلدين، من خلال ثلاثة محاور على النحو الآتي:
السعودية وباكستان... توافقات سياسية
لم تكن مفاجأة أن يكشف البيان الختامي المشترك الصادر في نهاية الزيارة عن مدى عمق العلاقات بين البلدين والتي تعود بداياتها إلى أبريل (نيسان) 1940، أي قبل سبع سنوات من استقلال باكستان عن بريطانيا، لتتجه بعد استقلالها عام 1947 نحو آفاق جديدة من التعاون والصداقة، إذ كانت المملكة من أولى الدول التي اعترفت بسيادة باكستان وحدودها. وعلى مدى أكثر من سبعة عقود شهدت علاقاتهما مزيدا من التقارب، وصولا إلى مستوى «الشراكة الاستراتيجية»في مختلف المجالات، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان على «تويتر»بأن: «أهمية زيارة دولة رئيس وزراء باكستان إلى المملكة تأتي انطلاقًا من عمق العلاقات التاريخية والروابط الاخوية بين المملكة وجمهورية باكستان الإسلامية، وحرص قيادتي البلدين الشقيقين على دعم وتعزيز العلاقات بينهما».
ومن هذا المنطلق، سجل البيان الختامي توافقا سياسيا بين البلدين حيال كثير من القضايا الدولية والإقليمية، منها:
- مواجهة التطرف والإرهاب، إذ أكدا على ضرورة تضافر جهود العالم الإسلامي لمواجهة التطرف والعنف ونبذ الطائفية، والسعي الحثيث لتحقيق الأمن والسلم الدوليين، مع أهمية مواصلة الجهود المشتركة لمكافحة ظاهرة الإرهاب التي لا ترتبط بأي دين أو عرق أو لون، والتصدي لكافة أشكالها وصورها وأياً كان مصدرها.
- الدعم الكامل لكافة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة بحدود ما قبل عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية وفقاً لمضامين مبادرة السلام العربية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
- دعم المبادرة السعودية لحل الأزمة اليمنية، والتي تستهدف تحقيق أمن واستقرار اليمن من خلال التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة استناداً إلى المرجعيات الثلاث المتمثلة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني الشامل وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بما فيها القرار (2216). مع رفض وإدانة كل ما تقوم به الجماعات والميليشيات الإرهابية ومنها ميليشيا الحوثي من هجمات واعتداءات بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة على أراضي المملكة.
- دعم الحلول السلمية لأزمات دول المنطقة العربية، وعلى وجه الخصوص الأزمتين السورية والليبية، مع أهمية تعزيز جهود الأمم المتحدة ومبعوثيها في هذا الشأن.
- السلام في كشمير، إذ أكد الطرفان على أهمية التفاهم الذي تم التوصل إليه مؤخراً بين باكستان والهند بشأن وقف إطلاق النار في إقليم جامو وكشمير المستند إلى تفاهم عام 2003 بين البلدين، مع أهمية الحوار كآلية لحل القضايا العالقة بينهما بما يضمن تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. مع الأخذ في الحسبان أن السعودية دولة عضوة في مجموعة الاتصال التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن جامو وكشمير.
- السلام في أفغانستان، أكد الطرفان على أن التسوية السياسية الشاملة هي السبيل الوحيد للمضي قدما في تحقيق السلام في أفغانستان.
- تعزيز التضامن الإسلامي،حيث أكد الطرفان على أهمية الدور الذي تقوم به المملكة في تعزيز الوحدة الإسلامية، وحل القضايا التي تواجهها الأمة الإسلامية، وهو ما يسهم بلا شك في ترسيخ السلام والأمن الإقليمي والدولي.
- دعم المبادرات السعودية في مجال القضايا الدولية؛ ومنها قضية أمن الطاقة، إذ أكد الطرفان على ضمان أمن الصادرات النفطية واستقرار إمدادات الطاقة للعالم. كذلك قضية التغير المناخي، إذ اتفقا على دعمهما للمبادرة السعودية الخاصة بالشرق الأوسط الأخضر والتي تستهدف مواجهة أزمة التغير المناخي.
الاقتصاد يعزز التعاون ويعمق التقارب
لم تقتصر التفاهمات السعودية الباكستانية على الأبعاد السياسية فحسب، بل تجمع البلدين روابط اقتصادية وتجارية عميقة، تجلت في كثير من المؤشرات، منها:
- زيادة حجم التبادل التجاري، حيث بلغ 33 مليار ريال خلال 3 أعوام، منها 9 مليارات ريال خلال عام 2020، رغم تداعيات جائحة كورونا العالمية، ومن أبرز السلع التجارية المتبادلة بين الجانبين؛ المنتجات المعدنية والنفطية، والبتروكيماويات، والجلود، والملابس، والحبوب، واللحوم ومشتقاتها. ويذكر أن هذه الزيادة شهدت في مضمونها زيادة في حجم الصادرات السعودية غير النفطية إلى باكستان، فقد وصلت خلال عام 2020 إلى أكثر من 2.75 مليار ريال، في حين بلغ حجم الواردات من باكستان خلال العام نفسه قرابة 1.97 مليار ريال.
- نمو تجديدات تراخيص الاستثمار الباكستانية في المملكة خلال عام 2020 بشكل لافت، حيث تم منح 52 رخصة استثمارية لشركات باكستانية، في حين كان عدد الرخص الممنوحة في عام 2019 نحو 24 رخصة، مما يؤكد على الإقبال المتزايد للمستثمرين الباكستانيين للاستفادة من الفرص الاستثمارية الواعدة، والمزايا التنافسية التي يتمتع بها الاقتصاد السعودي. ويذكر في هذا الشأن أن عدد الاستثمارات الباكستانية في المملكة بلغ 362 منشأة، 19 في المائة منها مشتركة، والنسبة المتبقية هي استثمارات باكستانية 100 في المائة. ويعد قطاعا التشييد والصناعات التحويلية أبرز المجالات الاستثمارية التي تعمل فيها الشركات الباكستانية، بعدد 148 و124 منشأة على التوالي، يليهما قطاعا الاتصالات وتقنية المعلومات وتجارة الجملة والتجزئة.
- على الصعيد الباكستاني، تعمل كثير من الشركات السعودية في مختلف القطاعات الحيوية في باكستان، مثل شركة بترومين التي تعمل في صناعة زيوت السيارات، وشركة الجميح للطاقة والمياه، وشركة صافولا في قطاعي الأغذية والتجزئة، وشركة أكوا باور.
- تمثل السعودية مصدرا مهما للعملات الأجنبية الداعمة للاقتصاد الباكستاني من خلال تحويلات العاملين الباكستانيين في المملكة، ويقدر عددهم بأكثر من مليوني باكستاني، يساهمون في تقدم وازدهار البلدين.
فضلا عن هذه المؤشرات التي تعطي صورة واقعية عن قوة الروابط الاقتصادية بين البلدين، يحمل المستقبل مجالات أخرى يمكن أن تعمق من هذه الروابط وتعززها، وهو ما كان موضع اهتمام هذه الزيارة من خلال الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقعت، منها مذكرة تفاهم لتمويل مشاريع في مجالات الطاقة والبنية التحتية والنقل والمياه والاتصالات. إضافة إلى ما سبق، لا يزال ثمة مجالات أخرى يمكن أن تسهم في تعزيز تعاونهما الاقتصادي، من بينها التعاون في مجال المسح الجيولوجي للأراضي الباكستانية لاستكشاف ثرواتها المعدنية، مما يزيد من فرص المستثمرين السعوديين والمحليين والأجانب. كما أن هناك ضرورة ملحة لعقد المزيد من اللقاءات بين أصحاب الأعمال في البلدين، بهدف معالجة المعوقات التي تحد من التجارة والاستثمار بينهما من خلال توفير المعلومات عن الأسواق والفرص التجارية وإقامة معارض للمنتجات السعودية والباكستانية ومشروعات صناعية مشتركة.
مأسسة العلاقات
اتساقا مع رؤية المملكة 2030 التي تستهدف تعزيز علاقاتها الخارجية وتعميق روابطها الثنائية ومتعددة الأطراف مع مختلف الفواعل الإقليمية والدولية، جاء تأسيس المجلس الأعلى للتنسيق السعودي الباكستاني، كمبادرة أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خلال زيارته إلى باكستان في فبراير (شباط) 2019، وأكدت مخرجات الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان إلى المملكة أهمية الانطلاق في تأسيس هذا المجلس، الذي يعد تجسيدا عمليا لمستهدفات رؤية المملكة 2030، والتي تؤكد على أهمية أن لا تقتصر مخرجات الزيارات واللقاءات على ما يتم خلالها من توقيع لاتفاقيات أو مذكرات تفاهم، وإنما يظل التنفيذ هو الخطوة الأكثر أهمية. فما هو المردود المنتظر لاتفاقات موقعة أو معاهدات مبرمة وتظل حبرا على ورق؟ فالأوجب أو الأكثر فائدة للأطراف كافة هو نقل هذه النصوص الواردة في متن الاتفاقات إلى الواقع العملي والتطبيق الفعلي. مع الأخذ في الحسبان أن ضمان التطبيق يرتهن بأمرين:
الأول، رسم السياسات ووضع الآليات وتحديد الإجراءات.
الثاني،المتابعة المستمرة لما تم الاتفاق عليه.
ولذا، جاء تأسيس المجلس الأعلى للتنسيق كخطوة رئيسية للقيام بهاتين المهمتين، من خلال فتح آفاق أوسع للنمو الاقتصادي وتنمية العلاقات التجارية بين البلدين، كما أشار إلى ذلك بلال أكبر السفير الباكستاني لدى السعودية، بقوله: «سنقوم على رسم خريطة تنفيذ كامل لتعميق هذا التعاون وترجمته على أرض الواقع... وأن المجلس التنسيقي الأعلى الذي تم التوقيع عليه بين البلدين، سيعمق التعاون والعلاقات بين البلدين، والمضي بالعلاقات الثنائية إلى آفاق أرحب من التعاون في مختلف المجالات، في ظل تطلعات لمزيد من التعاون لتحقيق الأهداف المشتركة بين البلدين»، وهو ما يعني بشكل واضح أن من أبرز مهام المجلس المزمع تأسيسه هو ضمان أن تصبح نصوص الاتفاقات واقعا، بدءا من الاتفاقيات الأخيرة التي وقعت خلال الزيارة والتي شملت: اتفاق التعاون في مجال مكافحة الجريمة، واتفاق التعاون في مجال المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية، مذكرة تفاهم في مجال مكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية والسلائف الكيميائية. إلى جانب قيام المجلس بدوره في استكشاف مزيد من فرص التعاون المشتركة بين البلدين.
نهاية القول إن استمرار الزيارات رفيعة المستوى والمنتظمة بين البلدين تلعب دورا محوريا في توفير قوة دفع للعلاقات الأخوية والتعاون الوثيق بينهما.