يعاني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون داخليا وخارجيا، في السياسة والاقتصاد والصحة. يتعرض لانتقادات حول إدارته للبلاد، فيما يسعى لإعادة انتخابه لخمس سنوات إضافية في العام 2022. هو يقف اليوم ضد اليمين الذي ساهم في إيصاله إلى الإليزيه، وضد اليسار المتبعثر الذي عمل كوزير ماليته على أيام الرئيس فرنسوا هولاند ويواجه يمينا متطرفا في صعود بقيادة مارين لوبان. ساعدته آفة كورونا من التخلص ولو وقتيا من حركة «السترات الصفراء»التي اجتاحت مدن فرنسا منددة بالتوجهات الاقتصادية لإدارته. أما فيما يخص العلاقات الخارجية فقرر الرئيس ماكرون فرض نفوذ بلاده على شرق المتوسط عبر انتهاج سياسة تتمحور حول حماية مصالح كبريات الشركات الفرنسية في شرق المتوسط ما أدخله في هذا الإطار- ومعه اليونان ومصر- بمواجهة مع تركيا عنوانها الكبير الثروة الغازية في المنطقة.
ومن هنا أتت زيارته إلى لبنان، عقب الانفجار الكبير الذي هز بيروت في أغسطس (آب) من العام الماضي لمحاولة أخذ المبادرة في لبنان وجمع الفرقاء اللبنانيين المتناحرين حول حصصهم من المالية العامة، من خلال دفعهم لتأليف حكومة تسعى لفرض بعض الإصلاحات في القطاع المصرفي وقطاع الطاقة خاصة، مقابل مساعدات مالية. هذا التوجه الفرنسي من شأنه حماية مصالح توتال بدءاً من البلوك الجنوبي رقم تسعة وفتح آفاق لبعض الشركات مثل: «CGMCMA»المملوكة لعائلة لبنانية/ سورية الاصل (سعادة) من أجل الاستثمار في المرفأ.
فرنسا ليست على ما يرام اقتصاديا؛ حيث تشير توقعات البنك المركزي الفرنسي إلى انكماش بنسبة 9 في المائة لهذا العام، وانخفاض في الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 8.7 في المائة. هذه أرقام لا تصب في صالح إعادة انتخاب ماكرون ولو أن السبب الأساسي لهذا التراجع في أرقام الاقتصاد يكمن وراء جائحة كورونا. ولكن هذا بالإجمال أمر لا يتنبّه له الناخب عادة عندما يحين موعد الانتخابات. وإن لم يقم الرئيس ماكرون بتحسين أرقام الاقتصاد فوضعه سيكون من دون شك صعب.
لذا من أجل إعادة عافية الاقتصاد الفرنسي يسعى ماكرون للدفع بمصالح فرنسا الاقتصادية من خلال حماية مصالح شركاته العالمية بدءا بشركة توتال. ولهذا ليس هناك تجنٍّ في القول إن فرنسا تقف إلى جانب النظام الإيراني في هذا المجال. فهي حاولت رد هجمة الرئيس السابق ترامب عنها، باقتراحها مثلا آلية تستطيع إيران تحويل الأموال من خلالها من دون التعرض لمقصلة عقوبات وزارة العدل الأميركية، أو رفضها إدراج الاتحاد الاوروبي حزب الله على لائحة الإرهاب «بجناحيه السياسي والعسكري». تأمل فرنسا أن يُترجم هذا الأداء إعادة العمل بالاتفاقيات والمشاريع التي كانت شركات فرنسية وقعتها مع النظام الإيراني بمليارات الدولارات بعد رفع الولايات المتحدة عن إيران من قبل إدارة أوباما. والحديث عن المصالح الفرنسية مع إيران يقودنا إلى الحديث عن مصالحها في سوريا، وماكرون في هذا الإطار يسعى لدى الإدارة الأميركية خاصة لتخفيف حدة العقوبات عن نظام الأسد تمهيدا للشروع في مرحلة إعادة إعمار سوريا الذي يقدر بمئات مليارات الدولارات.
وحديث المصالح الفرنسية مع سوريا يشمل لبنان طبعا بما أنه جزء من محور «الممانعة»بقيادة خامنئي. فعين فرنسا وشركاتها على أكثر من قطاع: الاتصالات، المرفأ، وطبعا الغاز، حيث فازت توتال ومعها شركتان واحدة إيطالية (Eni) وأخرى روسية (NOVATEK) بالتنقيب عن الغاز في البلوك السادس الجنوبي.
ومن أجل أن تثمر تلك السياسة الاقتصادية والخارجية للرئيس ماكرون يجب أن تتمتع المناطق التي تسعى فرنسا للاستثمار فيها بالاستقرار. والاستقرار يعني الحفاظ على الستاتيكو وتدعيمه. في سوريا يعني القبول ببقاء الأسد، وفي لبنان التسليم بواقع سيطرة إيران وحزب الله، وفي إيران يعني التودد لنظام الملالي، وكل ذلك من خارج إطار المبادئ التي طالما نادت بها فرنسا، خاصة في موضوع حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطيات، والمساواة…
من هنا نستطيع أن نفهم تصرف فرنسا في اجتماع وزراء خارجية السبع، حيث اعترضت على تضمين البيان الختامي إشارة أن الوقت غير مناسب لأي شكل من أشكال التطبيع مع دمشق. ولا يجب الاستغراب إن كانت هناك ضغوط من قبل فرنسا على بعض دول الخليج من أجل التطبيع مع نظام الأسد والتشجيع على الاستثمار في البلد.
ومن هنا يجب فهم أيضا حماسة فرنسا في التطبيع مع واقع الحال في لبنان والتكيف مع موازين القوى فيه أي حزب الله والاجتماع مع ممثليه دوريا. المشكلة أن ماكرون لا يملك الكثير من الأدوات للضغط على بعض الفرقاء اللبنانيين لدفعهم لتأليف حكومة «عمل»أو «إنقاذ»أو أي تسمية أخرى مهمتها رعاية مصالح فرنسا.
من هنا زيارة وزير الخارجية الفرنسي قبل أسبوع إلى لبنان لم تأتِ بجديد، ولم يكن اجتماعه بممثلي المجتمع المدني والإيحاء بإمكان اعتبارهم من قبل فرنسا كبديل للطبقة السياسية ليس إلا دليلا إضافيا على ضعف فرنسا.
فالفصائل المعارضة تكاد يفوق عددها الـ200 وهي منقسمة حول أمور عدة وأساسية وليست سوى انعكاس طبيعي للمجتمع نفسه الذي ما زال في غالبيته يتبع نظاما طائفيا ظالما ومقيتا. وهي لا تملك أية مقومات لتكون بديلا عن الطبقة السياسية.
فرنسا تستعمل بعض «وجوه الفصائل المعارضة»ولكن عينها على الطبقة السياسية الأكثر تمثيلا في لبنان من أجل رعاية مصالحها. الجميع يعي هذا الأمر والجميع يستمر في اللعب على حافة الهاوية.