بون: جاء التوسع الروسي العسكري في سوريا، بعد انسحاب جزئي للقوات الأميركية من المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، وفي أعقاب الهجوم التركي والميليشيات السورية المتحالفة مع أنقرة على قوات سوريا الديمقراطية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. تسعى القوات الروسية في سوريا إلى توسيع وجودها العسكري في الجزء الشمالي الشرقي من الدولة التي مزقتها الحرب، حيثوصلت قوافل عسكرية روسية إلى قرية بالقرب من الحدود السورية مع تركيا والعراق، خلال شهر يونيو (حزيران) 2021 حيث ورد أن الضباط الروس التقوا بالسكان المحليين وناقشوا إمكانية بناء قاعدة عسكرية في المنطقة المجاورة.
يقول نيكولاس هيراس، الخبير في الشؤون السورية في معهد دراسة الحرب في واشنطن، إن روسيا تريد زيادة عملياتها في شمال شرق سوريا لبناء نفوذ أكبر على قوات سوريا الديمقراطية(SDF) الكردية.
الوجود العسكري الروسي في سوريا... نقطة تحول
أشار رئيس الأركان العامة الروسي، فاليري جيراسيموف، في خطابه لعام 2019 في أكاديمية العلوم العسكرية (AMS)إلى أن الوجود العسكري الروسي في سوريا كان نقطة تحول جديدة من حيث إنها مكّنت روسيا من تنفيذ «مهام للدفاع عن المصالح الوطنية وتعزيزها خارج حدود الدولة»،أيحدود الأراضي الروسية.وأشار إلى أن استراتيجية روسيا في سوريا كانت «استراتيجية العمل المحدود»، حيث ساهمت القوات الجوية بأكبر قدر من المهام في حل المهام الموكلة إليها.
تضمنت هذه العمليات التي تتمحور حول تطوير دفاعات متعددة الطبقات ضد الطائرات الإرهابية دون طيار واستخدام الضربات الدقيقة ضد الأهداف.وهكذا، أثبتت التجربة العسكرية الروسية في سوريا أنها لا تقدر بثمن لاستحضار أساليب هجوم محدثة ضد الإرهابيين في مناطق بعيدة عن روسيا ولتعزيز المصالح الوطنية الروسية، وفقا لتقرير بالنسخة الإنجليزية بعنوان «الدرس الروسي في سوريا»صادر عن The MITRE Corporationفي الأول من يونيو 2020.
ودون شك عزز التدخل في سوريا المصالح الحيوية لروسيا- لا سيما فيما يتعلق بدعم الحلفاء وتقليل خطر التمرد المتطرف- ولكنه ربما خلق تهديدات مستقبلية، بما في ذلك زيادة خطر سوء التقدير والصراع غير المقصود مع الناتو. التدخل كان مكلفا، لكن رغم ذلك يبدو أنه يمثل استنزافًا كبيرًا للميزانية الروسية.
وتمكنت الشركات الروسية من خلال دعم نظام الأسد، من الحفاظ على العلاقات التجارية القائمة والحصول على وصول جديد إلى الموارد السورية.وعلى عكس التوقعات بأن التدخل الروسي في سوريا سيصبح «مستنقعًا»،أو «أفغانستان جديدة»للقوات الروسية، كان لحملة موسكو العسكرية في سوريا تأثير إيجابي في الغالب على المصالح الحيوية لموسكو كما يراها الكرملين.لقد زاد التدخل بشكل كبير من فرصة بقاء نظام الأسد، الذي لا يزال أحد حلفاء روسيا القلائل المخلصين، بينما لم يثبت أنه مكلف للغاية بالنسبة لروسيا.
المنافسة الروسية والإيرانية واستنساخ النموذج اللبناني
قد تؤدي المنافسة الروسية والإيرانية على السلطة إلى صراعات جديدة مع انحسار الصراع في سوريا، روسيا وإيران حليفتان في سورياولكن هناك تصاعدا في المنافسة، حيث يسعون إلى اكتساب النفوذ وتعزيز طفرة البناء القادمة أو المحتملة في سوريا. ووصلت التوترات بين روسيا ووكلاء إيران في سوريا إلى ذروتها مؤخرًا، عندما أشارت تقارير محلية إلى أن القوات الروسية قد تمركزت بالقرب من القوات الإيرانية في ريف دير الزور والحدود العراقية. كانت الخطوة في أوائل ديسمبر (كانون الأول) 2020 تتعارض مع وجود القوات الإيرانية.
وكشف تقرير في المجلس الأطلسي وجهات النظر المتباينة بين روسيا وإيران، بعنوان «نظرة على التنافس الروسي الإيراني في سوريا، باللغة الإنجليزية صادر في 22 ديسمبر 2020 تناوله موقع TRT World، قائلاً إنه على المدى الطويل «ترى روسيا سوريا علمانية إلى حد ما لا مركزية، وليست بالضرورة سليمة إقليمياً، بينما ترى إيران شيئاً أقرب إلى النموذج اللبناني»،وقد يكون من الصعب تحقيق هذه النماذج المختلفة لسوريا بغض النظر عمن له اليد العليا في سوريا ببساطة بسبب الوجود الأميركي في شمال شرق سوريا.
وقد ظهرت الخلافات بين روسيا وإيران (التي لم تصل بعد إلى مستوى الأزمة) في سوريا في السنوات القليلة الماضية، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
الأول كان في بداية التدخل الروسي المباشر في سوريا منذ ست سنوات، وهو ما دفع إيران إلى التراجع إلى الصف الثاني كحليف صامت لدمشق، فيما تبوأت موسكو زمام المبادرة حيث فشلت إيران في تغيير التوازنات العسكرية خلال سنوات التدخل.
جاء الخلاف الآخر بين موسكو وطهران بعد الاتفاق بين تركيا وروسيا على إجلاء المدنيين والمقاتلين من المناطق الشرقية في حلب، والذي تم نهاية عام 2016.وأصبح الاختلاف واضحًا خلال بدء مفاوضات آستانه.وأرادت إيران الانتقام ودفع واشنطن للخروج من المحادثات، فيما دعت روسيا إلى مشاركة الولايات المتحدة كمراقب فقط. وظهر الخلاف الأخير بعد المحادثات الثنائية في سوتشي بين أنقرة وموسكو حول مصير إدلب باستثناء طهران التي كانت لا تزال على الأرض.
وشهدت شراكة روسيا وإيران الكثير من المشاكل ما بين بين التعاون والتنافس بسبب عدم توافق المصالح والأهداف في العديد من القضايا الإقليمية والدولية، ولا يخفى على أحد أن إيران منافس إقليمي لروسيا، وهي هدف رئيسي لواشنطن وتل أبيب، كما تعلم موسكو جيدًا أن هذا التوتر سيتصاعد طالما بقيت إيران في سوريا، وهذا يعتبر تهديدًا كبيرًا للمصالح الروسية.
الضربة الجوية الأميركية على الميليشيات الإيرانية
أدانت سوريا وإيران يوم 27 فبراير (شباط) 2021 الضربة الجوية الأميركية على الميليشيات المدعومة من إيران ووصفتها دمشق بأنها «علامة سيئة»من إدارة بايدن الجديدة. وقالت طهران إنها ستزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.وقال المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي إن طائرتين من طرازوF-15E من طراز «سترايك إيغلز»أسقطتا سبع ذخائر دقيقة التوجيه على منشآت في شرق سوريا تستخدمها الميليشيات التي يعتقد أنها وراء سلسلة من الهجمات الصاروخية على القوات الأميركية في العراق.وكان هذا أول عمل عسكري أميركي يستهدف مثل هذه الجماعات منذ أن تولى بايدن السلطة وجاء في الوقت الذي فتحت فيه واشنطن الباب لاستئناف المفاوضات مع طهران بشأن برنامجها النووي.
الصلة بين روسيا والميليشيات العراقية
إن صلات روسيا بالميليشيات العراقية شهدت تقدما في الأشهر الأخيرة إلى جانب لعب روسيا دورا مهما في قطاع الطاقة في العراق، حيث أنشأت روسيا روابط مع مختلف الفصائل السياسية والعسكرية وكذلك الفصائل شبه العسكرية في العراق، مما أدى إلى مزيد من التحدي لموقف الولايات المتحدة في البلاد.لقد أهمل المحللون بالفعل التواصل الروسي مع الميليشيات المدعومة من إيران إلى حد ما، على الرغم من أن هذا قد يزيد من تعقيد موطئ قدم الولايات المتحدة في العراق، نظرًا للعلاقات الوثيقة بين موسكو وطهران.
وفي هذا السياق، سافر أعضاء من الحشد الشعبي إلى موسكو في سبتمبر (أيلول) 2019، بينما التقى السفير الروسي في العراق مكسيم ماكسيموف مع زعيم الحشد الشعبي فالح الفياض في أغسطس (آب) 2020 في حين قد يكون لروسيا وإيران وجهات نظر مختلفة تمامًا حول هيكل الدولة السورية في فترة ما بعد الحرب، فقد أقام كلا البلدين شراكات طويلة الأمد في سوريا. ومع ذلك، كانت روسيا غير مرتاحة للغاية إزاء الحشد العسكري الإيراني في جنوب سوريا، من خلال تعزيز الميليشيات الموالية لإيران (بما في ذلك حزب الله). ومع ذلك، قد لا يكون هذا هو الحال في العراق، لأن دعم القوات المعادية للولايات المتحدة في البلاد يخدم كلاً من طهران وموسكو.
خارطة سيطرة ونفوذ قوات روسيا في سوريا
تواصل روسيا تكثيف وجودها العسكري في شمال شرق سوريا، حيث زادت عدد قواتها في محافظة الحسكة السورية الخاضعة لاحتلال وحدات حماية الشعب الكردية وصعدت روسيا، خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) 2020، انتشارها العسكري في قواعدها العسكرية في الحسكة شرقي الفرات.وأرسلت القوات المسلحة الروسية، مئات الآليات المسلحة والشاحنات اللوجستية من قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية إلى بلدة القامشلي بالحسكة.وتم تسليم آخر شحنات والعديد من القوات الروسية إلى القامشلي من اللاذقية. واستقرت القوات في كل من مطار القامشلي الخاضع لسيطرة النظام السوري وقاعدة عسكرية روسية قرب المطار.
القوات الروسية بديلا للقوات الاميركية
كانت القوات الروسية تحل محل القوات الأميركية بعد انسحابها من بعض القواعد بعد إطلاق تركيا عملية نبع السلام في 9 أكتوبر 2019، ضد وحدات حماية الشعب في شمال شرق سوريا.منذ ذلك الحين، كثفت روسيا من وجودها العسكري بشكل مستمر شرق الفرات، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب، مما زاد من عدد قواعدها ومواقعها العسكرية.ويوجد حاليًا 18 قاعدة وموقعًا عسكريًا روسيًا في مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب شرق الفرات، وتحديداً في الحسكة والرقة ومنبج وعين العرب (كوباني) في حلب، وفقا إلى تقرير صحيفة «ديلي صباح»التركية بنسختها الإنجليزية بعنوان «روسيا تعزز قوتها العسكرية في شمال شرق سوريا»،في 28 ديسمبر 2020.
وأفاد تقرير بعنوان «روسيا تبني قاعدة عسكرية دائمة جديدة في سوريا»نشرهموقع «ميدل إيست مونيتور»بنسخته الإنجليزية يوم 5 مارس (آذار) 2021، أن القوات الروسية بدأت في بناء قاعدة عسكرية دائمة في الضاحية الشرقية لحمص، وستتكون القاعدة الجديدة، التي ستقام على تل على ارتفاع 600 متر فوق مستوى سطح البحر، من مهبط للطائرات يبلغ ارتفاعه 780 مترا، وسيكون للقاعدة التي تبلغ مساحتها 370 دونما (91.5 فدان) معسكر خاص شمال تدمر.وستقع بالقرب من المستودعات التي يستخدمها سلاح الجو السوري التابع لبشار الأسد، بدأت القوات الروسية بحفر خندق كبير، بعمق ثلاثة أمتار وعرض مترين، حول القاعدة لتأمين المنطقة ضد أي هجمات.
وبالعودة إلى نيكولاس هيراس، خبير الشرق الأوسط في معهد دراسات الحرب في واشنطن، يقول: «تعاني روسيا من نقص الثقة في معظم مناطق شمال شرق سوريا... لقد حاول الروس تقديم أنفسهم على أنهم وسطاء أمناء بين الأكراد ودمشق، ولكن دون تأثير ملموس».وأشار هيراس إلى أن «الوجود العسكري الروسي الموسع في القامشلي، حيث يسعى الروس إلى إقامة قاعدة رئيسية، من شأنه أن يقوض نفوذ الأكراد السوريين على الأسد، والذي لا يمكن أن يعيدهم تحت حكمه من خلال القوة العسكرية المطلقة».
يتمثل أحد أهداف التدخل العسكري الروسي في سوريا في محاولة لتكون بديلا للوجود الأميركي والغربي، في مناطق النزاع والصراعات في المنطقة، ومن أجل إظهار هذا النجاح، سعت روسيا لمواجهة أحد أكبر التحديات، وهي إصلاح الجيش العربي السوري، والذي يتوخى إعادة تشكيله، مع التركيز على التعليم والتدريب العسكريين، ومراقبة التحول العسكري.
وما زالت سوريا تحاول دعم الجيش العربي السوري ليصبح شريكًا موثوقًا به في الحفاظ على استقرار سوريا ومنع أي انتفاضات مستقبلية لتأمين مصالحها الإقليمية، مثل القاعدتين العسكريتين الروسيتين الجديدتين في اللاذقية وطرطوس.وإذا تم قطع الساحل السوري عن حلب والشمال الشرقي والشرقي للبلاد، فإن هذه القواعد العسكرية ستفقد قيمتها الاستراتيجية.إن استعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية، والقدرة على الحفاظ على هذه السيطرة، أمران ضروريان لاستعادة النشاط الاقتصادي والتجاري في البلاد، الأمر الذي سيفيد روسيا في نهاية المطاف.
لقد أصبحت سوريا بالفعل نقطة تحول في تاريخ روسيا وتجاربها خارج الحدود، وربما نجحت روسيا كثيرا، بتجاوز فشلها في أفغانستان، وهي تعكس أيضا استراتيجية روسيا القريبة من استراتيجية الولايات المتحدة، «استشعار الخطر»خارج الحدود وإن كان بعيدا. سوريا تمثل نفوذا جديدا لروسيا أيضا إلى البحر الأبيض المتوسط، ويمكنها من الإمساك بعدة ملفات إقليمية من أجل تأمين مصالحها وفرض سياساتها، ضمن توافقات إقليمية ودولية.