كان الرجل الصالح يتمتع بحفنة من الأطفال لا يتجاوز أصغرهم الخمسة أعوام وقت حدوث هذه القصة وكان من عادة الرجل كلما سئل عن مصدر أي شيء يحبه الأطفال من فاكهة أو لعبة أو ثوب جديد أن تكون الإجابة واحدة تتكرر ولا تتغير ولا تزيد عن كلمتين: باب الله.
وفي أحد ليالي رمضان سأل الصغير أباه: أين باب الله؟ فكانت الإجابة أن باب الله في كل مكان. ولكنها لم تشف غليل الطفل ابن الخمس سنوات، بل زادته غموضا، ولكن أدب الزمن الجميل وقتئذ منعه من التمادي في السؤال، ولكنه كبر وهو يعتقد جازما أن هناك بابا لله يجد الناس عنده من متاعهم وحوائجهم ما يحتاجون له مما لذ وطاب من الطعام. وفي أحد أيام رمضان وكان الصغير قد أتم العاشرة سأل أخاه الأكبر أين باب الله خاصة، وعندما أتم الأخ شرحه وفهم أن باب الله شيء معنوي انفجر الصغير في البكاء لأنه أيقن أن الجميع خدعه حتى الشيخ سيد النقشبندي وهو يصدح «ربي إني ببابك»،لأنه كان متأكدا أنه سينعم بمزيد من الأطايب طالما كان مصدرها باب الله الذي كان سيعرف أين هو يوما ما وسيستطيع أن يتحصل منه على ما يريد.
ومرت الأعوام وكبر الطفل ولا زال يقصد باب الله ويتأكد يوما بعد يوم أننا جميعا نقف على أعتاب باب الله آملين في عفوه ومغفرته راجين كرمه وخاصة في شهر رمضان وأن باب الله هو الحقيقة الواحدة الخالدة بعد موت الرجل الصالح. وتلاشي الزمن الجميل عندما كان رمضان يستقبل بالفرح ويودع بالحزن، عندما كان الجار للجار كالبنيان المرصوص. وكانت أطباق الطعام تتبادل في رحلة مكوكية بين سكان العمارة الواحدة والأطفال يحملون فوانيس مصنوعة من الصفيح الناتج من إعادة تدوير مخلفات المصانع بأعظم درجة من الحرفية والكفاءة التي كان يتمتع بها عامل الزمن الجميل عندما كانت الدخول المالية ضعيفة ولكن ذات رصيد كبير من البركة وهو العامل الحاسم في كيفية إدارة المصريين لحياتهم.
وعندما انتفت البركة برحيل الزمن الجميل كثرت الشكاوى وانتشر الاكتئاب والطلاق والحوادث الشاذة من قتل واغتصاب ونصب مع سبق الإصرار والترصد لأن الجميع نسي باب الله الذي كان مدخلا للرضا وهي فضيلة لو تعلمون عظيمة، لأنها تضرب بسياج من الحماية النفسية ضد الماديات التي اخترعها الإنسان وأوهم نفسه بأهميتها مع أنها عديمة القيمة أو ذات قيمة تافهة بمفردها لولا طوفان الإعلانات التجارية والدعايات الجذابة والكاذبة ما فطن الإنسان إلى هذه السلع العبيطة ولكنه الرضا المفقود والذي ألحق بالغول والعنقاء والخل الوفي.
فلا عجب أن يحتفي الصوفيون بالرضا بجعله مقاما للتعبد، والأغلب أنه دليل للحياة في عالم فقد عقله وراح يلهث وراء متعه زائلة وزائفة. ففقد الإنسان جمال الزمان وأصبحنا نتحسر على زمن كانت البركة هي العملة المعتمدة يصاحبها دعاء الوالدين والرضا بالقليل والأمل في الله وحده ليكبر الصغير ويترقي المجتهد ونعلم أطفالنا أن من جد وجد ومن زرع حصد بدلا من لغة الهبد والمصلحة والسبوبة والدخول الهامشية الناتجة عن سلع أو عمل ليست له قيمة.
ورغم كل شيء وأي شيء يظل رمضان ونحن نودعه حسرة يذكرنا دائما بأجمل بيت قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
ولم أر غير حكم الله حكما ... ولم أر دون باب الله بابا