للعوامل الخارجية تأثير كبير على الداخل اللبناني، بل تكاد تكون الأكثر تأثيراً على أوجه الحياة فيه من اقتصادية واجتماعية وسياسية. الأمثلة متعددة وكثيرة لدرجة الإعادة لنفس السيناريوهات والمشاكل والتعقيدات والاقتتال الأهلي بتوقيتات وشخصيات مختلفة ليبدو الأمر أشبه بنكتة سمجة. ولكن هذا هو واقع البلد منذ أن كان.
المشكلة الأكبر أن المسؤولين في لبنان لم يحسنوا استغلال الظروف والتطورات الخارجية والتي أتت في بعض الأحيان لصالحهم، بل عمدوا إلى تضييع تلك الفرص وإفشالها بشكل عصي عن الفهم. استفاد لبنان مثلا من إنشاء دولة إسرائيل ومقاطعة العرب لها، فازدهر مرفأ بيروت. وبدل أن تعمد الطبقة الحاكمة لتطويره خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية عمدوا إلى تدميره من خلال تخزين مواد خطيرة انفجرت في ظروف غامضة ودمرت جزءا من المدينة وقتلت أكثر من 200 مواطن. كذلك الأمر مع اكتشاف النفط في دول الخليج وبدء تدفق الأموال إلى المصارف اللبنانية وبروز بنك إنترا على الساحة العالمية بقيادة رجل الأعمال الفلسطيني الأرثوذوكسي يوسف بيدس. فبدل أن تستفيد الدولة اللبنانية من تدفق الأموال الخليجية وتباشر باستثمارها في أكثر من قطاع وتباشر بتدعيم القطاع المصرفي بشكل يزيدها حضورا في المنطقة، فضلت الاستثمار في الترفيه ودمرت إمبراطورية بيدس عمدا بدل احتضانها في ظل منافسة شرسة تعرض لها من قبل المصارف الغربية لاستمالة رأس المال العربي.
أما في السياسة، فلم تخل انتخابات رئاسية واحدة في لبنان من تدخل أجنبي وإقليمي، فكان لهما التأثير الأهم في تحديد هوية ساكن القصر الرئاسي. من فؤاد شهاب إلى عبد الناصر إلى بشير الجميل وجيش الدفاع الإسرائيلي، مرورا بالرئيسين هراوي وعون.
أما الجدير بالملاحظة فهو أن كل المشاكل التي تعرض لها البلد وهددت أمنه كانت حلولها تطبخ وتحصل في الخارج من خلال جمع القيادات اللبنانية المتناحرة حول اتفاقيات حاولت ترقيع واقع الحال.
اتفاق القاهرة في عام 1969 مثلا الذي نظم العلاقة بين منظمة التحرير والدولة اللبنانية العاجزة، ثم اتفاق الطائف الذي أعاد تنظيم العلاقات بين المكونات اللبنانية المتقاتلة، ولاحقا اتفاق الدوحة الذي شرعن هيمنة حزب الله على الدولة. طبعا تلك الاتفاقات هي صدى لما عرفه لبنان قبل قرن ونيف من الاتفاقات الدولية التي أدت إلى نشوء نظام القائمقامية وبعدها المتصرّفية في عهد الاحتلال العثماني، الذي تلاه عهد الانتداب الفرنسي، ومن ثم عهد المقاومة الفلسطينية والحرب الأهلية ثم عهد الوصاية السورية وصولا إلى دخول البلد في العهد الإيراني.
لم يتعلم اللبنانيون من تاريخهم. وهم ما زالوا«كبار القوم»فيهم يتوسل الدعم الخارجي من أجل تمكين دوره السياسي في الداخل؛ فمنهم من يذهب لروسيا وآخر لفرنسا أو روما وآخر لزيارة قطر من أجل الاستحصال على مساعدات تفرمل من تدهور الأوضاع المعيشية المستحيلة. والجميع من «كبار القوم»يتوسلون زيارة سفير من هنا أو مبعوث أجنبي من هناك أو وزير خارجية بلد غربي لكي يسجل نقاطا على أخصامه السياسيين فقط لا غير.
تسجيل النقاط لدى «كبار القوم»واحدهم على الآخر أهم من الانكباب على دراسة جدية لتأثيرات رفع دعم الدولة عن مواد أساسية كالبنزين أو الدواء أو الكهرباء، على المواطن وكيفية التقليل من وقعها إذا ما حصلت أو العمل على إعادة تنظيم قطاع المصارف، إو الإعداد لخطة نهوض اقتصادية تعيد بعضا من حيوية للبلد.
وها هو لبنان اليوم ينتظر مبادرة ما أو مؤتمرا يعقد في مدينة عربية ما تعيد انتظام الحياة السياسية فيه للانهيار الذي حصل في العام 2019، وطبعا وفق روح التوازنات الطائفية والتسويات اللذين هما أساس خراب لبنان.
لبنان اليوم في انتظار مساعدات مالية تنشله من مأزقه المقدر بـ100 مليار دولار، ليستعيد بعدها «كبار القوم»نفس نمط الفساد والصفقات الذي اعتمدوه متكفلين متضامنين في تسيير أمور الدولة.
لبنان بانتظار أن يهرع العالم لمساعدته على أساس فرادة نموذجه: تعايش المسلمين والمسيحيين ككذبة لم تعد تصلح بعد اليوم، أو أهمية موقعه الجغرافي كنقطة وصل بين الشرق والغرب، وهو وهم عرّته التكنولوجيا. هذا ما يريده «كبار القوم»في لبنان ولكن يبدو أن العرب وعواصمها غير متحمسة لاستعادة تجربتهم في لبنان كما في 58، أو 69 أو 75، فلديها أي تلك العواصم ما يكفيها من مشاكل داخلية تمنعها من التبذير على مشروع فاشل في الأساس، وهي تفضل إبقاء واقع الحال على ما هو عليه والاعتراف بسيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية، والتعاطي ببرغماتية، والتكيف مع هذا الواقع، وبالتالي تحميل حزب الله ومن ورائه إيران همّ إيجاد حلول للتعقيدات اللبنانية، تعقيدات تعيد إنتاج نفسها منذ قرون بشكل غريب.