باكو: في ظل أزمة تتفاقم أبعادها وتتشعب تداعياتها وتتداخل عناصرها وتتناقض رؤاها، تعيش لبنان على صفيح ساخن ينذر بمزيد من التدهور الاقتصادي والتوتر السياسي والانفلات الأمني، يدلل على ذلك العديد من المؤشرات، بدءاً من وصول الدين العام إلى عتبة 100 مليار دولار، والبطالة إلى أكثر من 38 في المائة والفقر إلى ما يقرب من 55 في المائة، مرورا بالمظاهرات والاضطرابات التي يشهدها الشارع اللبناني وصولا إلى حالة الجمود السياسي مع فشل تشكيل حكومة وطنية قادرة على إدارة الدولة في تلك المرحلة الحرجة لتدخل البلاد في فراغ حكومي مستمر منذ أكثر من 8 أشهر، مما أدى إلى غياب أية إصلاحات حقيقية، أو حتى إمكانية التفاوض مع كبريات المؤسسات المالية الدولية على وضع خطة للإنقاذ، وذلك كله بسبب الاستمرار في لعبة التراشق السياسي وتبادل الاتهامات وتقديم الشكاوى بين السياسيين اللبنانيين ضد بعضهم البعض أمام الموفدين العرب والأجانب، لتظل لبنان وشعبها يدوران في حلقة مفرغة لا يدريان كيفية الخروج منها، وهو ما دفع أطرافا محلية وإقليمية ودولية إلى تقديم مبادرات هدفت جميعها إلى حلحلة الأزمة وتفكيك تعقيداتها، فكانت من بينها مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي طرحها خلال زيارتيه إلى لبنان منذ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، مطالبا بتشكيل حكومة مهمة من الاختصاصيين لإنقاذ البلاد، حيث تتولى هذه الحكومةمهمة إجراء الإصلاحات الداخلية وتحفيز الدعم الخارجي، ولكنها واجهت تعثرات عديدة عرقلت تطبيقها، لتأتي المبادرة الداخلية التي طرحها البطريرك الماروني الراعي لتضيف أبعادا أخرى على ما تضمنته المبادرة الفرنسية، إذ تضمنت إلى جانب تشكيل حكومة مهمة، المطالبة بالحياد اللبناني بعيدا عن أزمات المنطقة ومشكلاتها وخاصة الأزمة السورية، مع دعوة المجتمع الدولي لمعاونة لبنان في أزمته من خلال عقد مؤتمر دولي يخصص لهذا الشأن.
ولكن لم تكن ردود الفعل على تلك المبادرة أحسن حالة من المبادرة الفرنسية، إذ واجهت هي الأخرى تعثرات عدة، بل اتجهت الأوضاع نحو مزيد من التدهور والتراجع في ظل التعنت السياسي المرهون بالتواجد العسكري لحزب الله، والمصاحب بتزايد وتيرة الفساد والمحسوبية، لتتشكل ثنائية حاكمة للوضع اللبناني، يمكن تلخيصها في معادلة من متغيرين، هما: الفساد سياسيا وماليا وإداريا. والميليشيا طائفيا وعسكريا، تلك هي الثنائية المسؤولة عن دخول لبنان النفق المظلم الذي يهدد كيان الدولة ووجودها بما يترتب على ذلك من تداعيات غير محسوبة ومخاطر غير متوقعة، وهو ما دفع فرنسا من خلال وزير خارجيتها جان إيف لودريان في مارس (آذار) الماضي (2021) إلى الطلب من مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل العمل على ورقة خيارات لإشراك الأوروبيين في القضية اللبنانية، وبالفعل توصل الاتحاد الأوروبي إلى ورقة خيارات سياسية تضمنت حوافز وعقوبات، هدفت إلى دفع المسؤولين السياسيين اللبنانيين إلى اتخاذ خطوات جادة لإنقاذ البلاد، الأمر الذي يثير التساؤل حول مستقبل هذه الورقة وجدواها في معاونة لبنان للخروج من أزمته؟
وفي خضم الإجابة على هذا التساؤل، يستعرض التقرير محورين على النحو الآتي:
الأول: ورقة الخيارات السياسية... معادلة العصا والجزرة
تبنت الورقة مسارين للتعامل مع الأزمة اللبنانية وتحديدا مع القوى السياسية المتصارعة على السلطة والساعية إلى تحقيق المكاسب الشخصية على حساب مصلحة الشعب اللبناني، تمثل هذان المساران فيما يمكن أن نطلق عليهما «العصا والجزرة»، إذ تضمنت الورقة تقديم حوافز (الجزرة) حال المعاونة في حل الأزمة، وعقوبات (العصا) حال الاستمرار في التعنت والتلاعب بالمواقف، وهو ما يمكن أن نرصده فيما يأتي:
- الحوافز: نصت المبادرة على تقديم حزمة من المساعدات والخطوات الهادفة إلى معاونة أية حكومة ستتولى المسؤولية بما يعزز من قدراتها ويمكنها من تنفيذ برامجها المرسومة، وشملت هذه الحوافز ما يأتي:
- استئناف محادثات فاعلة وعاجلة مع صندوق النقد الدولي لدعم الإصلاحات الاقتصادية الأساسية في لبنان، على أن يتم تدشين برنامج للمساعدة المالية الكلية، بمجرد إقرار برنامج إنفاق يتبع صندوق النقد.
- بدء مفاوضات لأولويات الشراكة بين 2021- 2027 معطوفا على اشتراط تشكيل حكومة جديدة في لبنان.
- تنفيذ القسم المتعلق بلبنان في أجندة جديدة لحوض البحر المتوسط التي أقرت في فبراير (شباط) 2021، مما يعني الحصول على قروض ميسرة من الاتحاد الأوروبي بعد إعادة هيكلة النظام المالي.
- إرسال بروكسل بعثة من صندوق النقد الدولي إلى لبنان للتعاون مع الحكومة الجديدة فور تشكيلها.
- اتخاذ إجراءات تتعلق بالعجز التجاري في لبنان، ورفع مستوى دعم المجتمع المدني اللبناني.
- إرسال بعثة لمتابعة موضوع الانتخابات المزمع إجراؤها عام 2022، مع تحفيز المساعدة الفنية لضمانات انتخابات نزيهة.
- العقوبات: تبنت الوثيقة رؤية عقابية حال تقاعس المسؤولين السياسيين عن أداء دورهم في تذليل العقبات وتهدئة الأوضاع للخروج من المأزق، شملت هذه الرؤية فرض عقوبات على مقربين من المسؤولين عن الأزمة، ثم الانتقال لاحقا الى استهداف المسؤولين مباشرة عن إطالة أمد الأزمة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية.كما شمل نظام العقوبات أيضا فرض حظر على دخول الاتحاد الأوروبي وتجميد أموال وحظر إتاحة أموال أو موارد اقتصادية لأشخاص تشملهم العقوبات.
الثاني: ورقة الخيارات الأوروبية... تحديات ماثلة
مثلت ورقة الخيارات السياسية المطروحة من الاتحاد الأوروبي والمعروفة باسم «ورقة بوريل»نسبة إلى مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد، بشأن الأزمة اللبنانية، مبادرة أشمل في أبعادها، مما جعل البعض ينظر إليها على أنها المبادرة الأكثر قبولا من جانب الأطراف اللبنانية كافة، ولكن رغم ما تتميز به هذه المبادرة مقارنة بالمبادرات السابقة، إلا أنها في الوقت ذاته تواجه كثيرا من التحديات التي قد تجعل مصيرها لن يختلف عن مصير سابقيها، ومن بين تلك التحديات ما يأتي:
- تضمنت المبادرة شقين، الأول تقديم الحوافز، والثاني فرض عقوبات. وإذا كان الشق الأول يلقى ترحيبا من كافة الأطراف كونه لا يرتب أية مسؤوليات عليهم، إلا أن الشق الثاني المتعلق بفرض عقوبات يواجه صعوبات في التطبيق، إذ إن تطبيقه يتطلب توفير الأرضية القانونية لدى منظومة عمل الاتحاد الأوروبي، حيث إنه لا يوجد شيء في نظام العقوبات في بروكسل يطلق عليه «منع تشكيل الحكومة»، فهناك حوالى 50 دولة خاضعة للعقوبات الأوروبية مثل ليبيا وسوريا وإيران، حيث يوجد نظام عقوبات على خرق حقوق الإنسان ونظام عدم انتشار الأسلحة النووية والكيماوية. أما بالنسبة للبنان فليس هناك نظام عقوبات محدد، وهو ما يتطلب موافقة المجلس الوزاري الأوروبي أي موافقة الدول الـ27 على فرض العقوبات، وهذه الموافقة تستوجب بدورها التوافق على المعايير واجبة التطبيق حتى يتسنى تحديد من هم المعطلون الذين ستطبق عليهم العقوبات؟ وما الأسباب التي سيجري الاستناد إليها لفرض العقوبات؟ وهل تهمة عرقلة ولادة الحكومة كافية لتجميد الأصول والأرصدة؟ كل هذا مع أهمية الأخذ في الحسبان أن قضية التعطيل هي قضية سياسية وليست قضائية، بمعنى أن تعطيل تشكيل الحكومة أو تعطيل الإصلاحات كما هو وارد في ورقة الخيارات، مسألة سياسية وليست قانونية.
- ارتباطا بما سبق، يؤكد الواقع الراهن على أن الكثير من الدول الأوروبية لا تبدي اهتماما يذكر بلبنان ولا يشكل لديها أولوية، باستثناء بعض الدول وأولها فرنسا، في حين أن الأوروبيين لديهم أولوياتهم الأخرى المتعلقة بملفات حساسة وكثيرة، منها العلاقات مع روسيا خاصة مع تفاقم أزمة أوكرانيا، والعلاقة مع تركيا وخاصة قضية صراع شرق المتوسط، والمفاوضات مع إيران والاتفاق النووي، وجائحة كورونا والبحث في كيفية معالجة تداعياتها الصحية والاقتصادية.
- حتى في حالة التوافق على فرض عقوبات محددة على أشخاص بعينهم، لم تقدم المبادرة أية تقديرات بشأن تأثير هذه العقوبات، هل لديها تأكيد بأنها ستكون فعالة ولن تأتي بنتائج معكوسة؟ بمعنى أنها قد تدفع من طالتهم العقوبات إلى مزيد من التصلب والتشدد بدلا من التعاون، الأمر الذي يزيد الأزمة تعقيدا، ويشار في هذا الخصوص تحديدا إلى ميليشيا حزب الله التي تمثل عاملا رئيسيا في عرقلة أية مفاوضات لحل الأزمة، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان مدى التشابك بين مواقف حزب الله ومسار أزمة البرنامج النووي الإيراني، وما يمكن أن يمثله ذلك من تأثيرات سلبية على الأوضاع اللبنانية من جانب، أو عرقلة التوصل لاتفاق مع الجانب الإيراني.
جدوى القول إن الأزمة الراهنة التي تعيشها لبنان، لا يمكن النظر إليها من منظور الداخل اللبناني فحسب كما نظرت إليه المبادرة الأوروبية، بل يلعب العامل الخارجي (إقليميا ودوليا) دورا محوريا في تعقيداتها، إذ إن مواقف الأطراف الداخلية ما هي إلا انعكاس لتعقيدات مسار العلاقات بين الفواعل الإقليمية والدولية المنغمسة في تلك الأزمة، وهو ما يستوجب عند طرح أية مبادرات بشأن هذه الأزمة الأخذ في الحسبان هذا التشابك بين الداخل والخارج، إذ إنه من الصعوبة بمكان الفصل بين البعد الداخلي والبعدين الإقليمي والدولي في الملف اللبناني، فطرق الباب على الداخل دون النظر إلى العوامل الخارجية وتأثيراتها يجعل مصير ما يُطرح من مبادرات لا يساوي الحبر الذي تكتب به.