دروس من وإلى التمويل الإسلامى

دروس من وإلى التمويل الإسلامى

[escenic_image id="554946"]

وصف "آلان جرينسبان" الأزمة المالية الحالية بأنها "أزمة إئتمان طاحنة تحدث مرة واحدة في القرن". وقد هزت الأزمة أسس النظام المالي الرأسمالي. وأدت الرغبة في جني الأرباح المفرطة على الصعيد التنظيمي في بيئة غير منتظمة إلى إبتكارات قدمت منتجات جديدة وغيرت الهيكل المالي. وتم إستبدال نموذج الوساطة المالية التقليدية بجمع الأموال من السوق عن طريق التوريق. وكان النموذج السابق يقوم على تقديم المودعين لأموال إلى البنوك لأغراض الاستثمار.

وكنتيجة لذلك بحلول نهاية عام 2006، تم تعبئة وبيع نحو 55 % من مجموع يقدر بـ 10.2 تريليون دولار قيمة القروض العقارية في الولايات المتحدة إلى المستثمرين المحليين والعالميين. وكان سوق المشتقات هو شريحة أخرى شهدت توسعاً سريعاً خلال الفترة التي سبقت الأزمة. وبلغت قيمة مجمل المبالغ الإفتراضية لهذه العقود التجارية 596 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2007، مع زيادة مقايضة العجز الإئتماني بنسبة 36 ٪ خلال النصف الثاني من العام لتصل إلى 58 تريليون دولار. وبينما تستخدم بعض هذه الأدوات لأغراض التحوط، يستخدم الجزء الأكبر منها  من أجل المضاربة. ويبدو ذلك واضحاً عند مقارنة حجم المشتقات مع الإقتصاد الحقيقي. في عام 2007، كان الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة يبلغ 13.8 تريليون دولار (وكان الناتج الإجمالي المحلي في العالم 54.3 تريليون دولار).

تطور الأزمة
 

خلفت التحولات الأساسية في القطاع المالي في ظل بيئة تنظيمية غير مهيكلة هامشاً من المخاطر كانت بمثابة وصفة سحرية لحدوث الأزمة. ونقدم فيما يلي الخطوات المحددة التي زرعت بذور الأزمة المالية:


1. عملت البنوك والمؤسسات المالية في مجال الإقراض ذي الفوائد العالية (مع أسعار فائدة قابلة للتعديل).
2. تم تقديم القروض في شكل أوراق مالية مضمونة برهونات عقارية  وإلتزامات دين مضمونة.
3. أعطت وكالات التصنيف تصنيفاً إيجابياً لهذه الأوراق.
4. استثمر المستثمرون (بنوك الإستثمار وصناديق التقاعد والتحوط، والبلديات، والمدارس، وغيرها) في هذه الأوراق.
5. اشترى المستثمرون والمضاربون مقايضات العجز الإئتماني لأغراض التحوط و التكهن بمخاطر الإئتمان على القروض التي تدعم الأوراق المالية المضمونة برهونات عقارية وإلتزامات الدين المضمونة.
6. تحمل مصدروا مقايضات العجز الإئتماني (الإستثمار والبنوك و شركات التأمين) خطر التخلف عن الدفع الخاص بالأصول المضمونة بشكل عام، والقروض ذات الفوائد العالية بشكل خاص.

وبالنظر إلى الشبكة المعقدة من المخاطر الناشئة في القطاع المالي، بدأ النظام في الإنهيار حينما حدثت صدمة سلبية في الإقتصاد. وكان أحد العوامل المسببة هو الزيادة التدريجية في أسعار الفائدة والتي زادت من 1 ٪ إلى 5.25 ٪ بين عامي 2004 و 2006. وقد رفعت أسعار الفائدة المتزايدة معدلات القروض ذات الفوائد العالية. ونظراً لضعف القاعدة المالية لعملاء القروض ذات الفوائد العالية، أدت الزيادة في إرتفاع أقساط الرهن العقاري إلى التأخير في السداد. وبينما شكلت نسبة 12-15 ٪ من الرهون العقارية المضمونة قروضاً ذات فوائد عالية فأن قاعدة الأصول من القروض المدعومة بالأوراق المالية وإلتزامات الديون المضمونة قد بدأت تتآكل.

وتسبب هذا الأمر في تعرض حملة هذه الأوراق المالية لخسائر نتيجة إنخفاض أسعارها. والذين اعتمدوا أو راهنوا على إمكانية العجز عن طريق شراء مقايضات العجز الإئتماني طالبوا بالتعويض نتيجة الخسائر. وبينما بدأ مصدروا مقايضات العجز الإئتماني في سداد المطالبات، بدأت هذه المنظمات نفسها تتعرض لخسائر تسببت في استنزاف رؤوس أموالها.

ولكي يتفادى هؤلاء الإفلاس، حدث تزاحم للحصول على أموال من مصادر مختلفة. و بينما لم يعرف المقرضون المخاطر الموجودة لدى  المؤسسات المالية المختلفة، تأثرت الكثير من البنوك واحتاجت لأموال بدورها ولم تظهر أية موارد مالية في الأفق. وكنتيجة لذلك، تجمد سوق الأموال مما سبب أزمة سيولة. ونتج عن نقص السيولة أزمة إئتمان والتي امتدت إلى أنشطة الإقتصاد الحقيقي. وتسبب نقص التمويل فى تداعى سوق الإسكان بشكل أكبر مما خفض أسعار المنازل وأسعار وإلتزامات الديون المضمونة.

وبالتالي، فإن ديناميكية العلاقات المتشابكة وشبكة المخاطر في القطاع المالي أوجدت "حلقة مفرغة من تخفيض الديون"  والتي أوقفت حركة الإقتصاد الحقيقي وجلبت تدهوره. والمشكلة التي فجرت مخاطر الإئتمان سرعان ما أوجدت  مخاطر سيولة ومخاطر السوق مما نتج عنه مخاطر في بنية النظام والتي لم تهدد القطاع المالي فقط ولكن الإقتصاد العالمي برمته.

الأزمة المالية: دروس من التمويل الإسلامي

يحكم التمويل الإسلامي مبادئ وقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية. والمبدأ الحاكم للأنشطة الإقتصادية هو الإباحة، وينص على أن جميع المعاملات مسموح بها بإستثناء ما هو محظور صراحة بموجب الشريعة الإسلامية. ويمكن تصنيف المحظورات بشكل موسع على أنها الربا و المضاربة. وبينما توجد تفسيرات مختلفة لهذه المفاهيم فأن بعض الأنشطة التي تندرج تحت هذا الحظر تشمل القروض ذات الفوائد، وبيع الديون، وأدوات المشتقات. ويقول خبراء الإقتصاد الإسلامي إنه إذا اتبعنا المبادئ الإسلامية المتعلقة بالإقتصاد والتمويل لكان بإمكاننا تفادى الأزمة المالية. ويرجع هذا، ضمن أمور أخرى إلى أن الأدوات مثل إلتزامات الديون المضمونة والقروض التي تدعمها الأوراق المالية ومقايضات العجز الإئتماني لم تكن لتوجد نتيجة لحظر بيع الديون والمشتقات وفق الشريعة الإسلامية.

الأزمة المالية: دروس للتمويل الإسلامي

وبينما كان إتباع مبادئ التمويل الإسلامي سيؤدى لمنع هذه الأزمة، فهناك خطر من أن بعض ممارسات التمويل الإسلامي يمكنها أن تجعل هذا القطاع عرضة لموقف مماثل. وإذا تمت دراسة العناصر الأساسية للأزمة يمكن للفرد أن يلاحظ أن التمويل الإسلامي قد ينتهي به الأمر إلى نفس الوضع. فعلى صعيد المؤسسات، لا تزال المعايير التنظيمية للقطاع المالي الإسلامي في المراحل الأولية وهى ضعيفة ولا تزال قيد التطور. وعلى هذا، ليس من المتوقع أن تكون القيود التنظيمية على المؤسسات المالية الإسلامية أفضل من نظيرتها التقليدية. وعلى الصعيد التنظيمي، فإنه من الصعب منع السعي وراء ربح متزايد وقبول المخاطرة في البنوك الإسلامية ما لم يفرض مجلس الإدارة وإدارة البنك ممارسات حكيمة لإدارة المخاطر. ففي الماضي القريب، شهدت منطقة الخليج عدداً من أعمال المضاربة في أسواق الأسهم.

وأخيراً، فإن الصناعة المالية الإسلامية شهدت نمواً سريعاً مع تقديم إبتكارات معقدة من الأدوات المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية. وكما أنه ليس من السهل فهم مخاطر الصكوك المالية الإسلامية فمن الصعب السيطرة على المخاطر المختلفة التي تنشأ خلال عملية التمويل. وعلى سبيل المثال، تأتى الصكوك ضمن الأدوات ذات الصلة بالأزمة الحالية والتي تنتج من خلال التوريق للأصول. وتتشابه صفات الصكوك القابلة للتداول (مثل تلك القائمة على القروض) مع سمات الديون المضمونة و القروض المدعومة  بالأوراق المالية. وبالمثل، فإن الأدوات المشابهة لمقايضات العجز الإئتماني يجرى تكوينها في شكل مقايضات ذات عائد ويمكن من خلالها تبادل العوائد على الأصول بالنسبة لأي نوع من الأصول، حتى تلك التي لا تسمح بها الشريعة. وبالنظر إلى ما تقدم، فإن الخطوات التي أدت إلى الأزمة المالية يمكنها أن تحدث في القطاع المالي الإسلامي.

الطريق إلى المستقبل

 أدت حدة الأزمة الحالية إلى تقييم أسس النظام المالي الرأسمالي والبحث عن أفكار وحلول. ويجادل خبراء الإقتصاد الإسلامي قائلين إن التمويل الإسلامي يملك بديلاً من شأنه أن يمنع تكرار مثل هذه الأزمة. وبينما يتوفر لمبادئ التمويل الإسلامي الكثير الذي يمكن أن تقدمه من أجل تحقيق إستقرار النظام المالي، فإن ممارسات هذه الصناعة تنجرف أكثر نحو النماذج التقليدية.

وفى حين يقيم المحللون في الغرب نظامهم الخاص ويبحثون عن حلول، فالوقت مناسب للتمويل الإسلامي لكي يقف هنيهة ويتأمل في المسار الذي إتخذه، ويختفي الفرق بين النظامين عندما يتم إستخدام منتجات متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ومماثلة لتلك الموجودة في نظام التمويل التقليدي وهو ما يمكن أن يقود القطاع المالي الإسلامي لأزمة مماثلة. وبيت القصيد في إتباع هذا المسار على المدى الطويل هو الثقة في النظام المالي الإسلامي. ففي حالة التمويل الإسلامي، لن تتحقق الثقة فقط من خلال شفافية التعاملات وحسن إدارة المخاطر، ولكن الأهم هو مصداقية المنتجات الإسلامية. وسوف يتطلب بناء الثقة تطوير نظام مالي إسلامي يرتكز على الشريعة الإسلامية و يمكنه إنتاج بديل مستقر ومرن وعادل.

الأستاذ أحمد حبيب - أستاذ ورئيس كرسي الشارقة في الشريعة الإسلامية والمالية، فى معهد الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بجامعة دورهام في المملكة المتحدة.

font change