استأنف لبنان وإسرائيل الثلاثاء الماضي مفاوضات ترسيم الحدود البحرية برعاية الولايات المتحدة بعد توقفها في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، جراء سجالات حول مساحة المنطقة المتنازع عليها، حيث رفع لبنان مطالبه من مساحة تبلغ 860 كيلومترا مربعا لتصل إلى نحو 2290 كيلومترا مربعا في المياه، بناءً على دراسة أعدها الجيش اللبناني، في حين أن إسرائيل تعتبر هذه المساحة ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة.
وقد شهد لبنان جدلا سياسيا بعد امتناع الرئيس اللبناني ميشال عون عن توقيع مشروع المرسوم 6433 المتعلق بتعديل ترسيم الحدود البحرية. ورد عون الأمر إلى ضرورة إقراره من قبل حكومة تصريف أعمال، نظراً لأهميته والنتائج المترتبة عليه.
ومنذ إعلان وزارة الخارجية الأميركية إرسال فريق الوساطة إلى بيروت من أجل استئناف المفاوضات، طُرحت العديد من الأسئلة حول توقيت عودة المفاوضات وفرص نجاحها.
خلافات داخلية لبنانية
وفي هذا الصدد، قال الرئيس السابق للجنة ترسيم الخط الأزرق (الحدود البرية المؤقتة بين لبنان وإسرائيل) العميد المتقاعد أنطوان مراد، في حديث لـ«المجلة» إن «السياسيين اللبنانيين حولوا معركة الحدود البحرية من معركة وطنية إلى معارك داخلية حول توقيع المرسوم 6433 وصولاً إلى اتهام بعضهم بالخيانة». وأضاف: «من ثم تبيّن أن الجميع لا يريدون توقيعه، فهم حاولوا استثمار القضية لمصالحهم الشخصية ومن ثم عادوا ليغيروا موقفهم تحت وطأة العصا والجزرة من قبل الولايات المتحدة».
لبنان شهد جدلا سياسيا بعد امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع مشروع المرسوم 6433
وأشار مراد إلى أن «السلطة السياسية لم تكن إلى جانب وفد التفاوض من حيث المضمون، وإنما من حيث الشكل فقط». كما لفت إلى أن «صلاحية رئيس الجمهورية لا تسمح له بإدارة هذه المفاوضات، إذ إنها تحتاج إلى قرارات جريئة وتستدعي حكومة قادرة، في حين أن رئيس الحكومة اعتبر نفسه غير معني بالقضية، كما أن رئيس مجلس النواب يراقب من بعيد، وبالتالي نحن لسنا أمام معركة وطنية وإنما معركة يخوضها لبنان وهو مشتت».
سيناريوهات فشل التفاوض
يؤكد مراد أن «ما أضعف الفريق التفاوضي اللبناني هو غياب سلطة لبنانية متماسكة». وحول توقيع المرسوم 6433، يرى مراد أن «التوقيع يتطلب دراسة استراتيجية واتخاذ قرار استراتيجي إذ إنه يحمل انعكاسات كبيرة ويتطلب الجهوزية لمواجهتها، ومن ضمن هذه الانعكاسات إمكانية سحب الولايات المتحدة لوساطتها واستكمال إسرائيل لعمليات التنقيب».
وأضاف: «في هذه الحالة نكون أمام سيناريوهين، إما اللجوء إلى الحرب وهناك أسئلة كثيرة حول مدى جهوزية البلاد لخوضها، وإما اللجوء لمحكمة العدل الدولية، وكذلك فإن هذا السيناريو يحتاج إلى إجابات على العديد من الأسئلة حول تاريخ صدور الحكم والجهة التي تضمن التنفيذ والكلفة التي سيتحملها لبنان».
الخلاف حول الترسيم
يشرح مراد مشكلة الحدود البحرية، ويقول: «لقد بدأت العام 2006، حين وقّع لبنان اتفاق الترسيم مع قبرص، حيث انطلق خط ترسيم الحدود حينها من النقطة 1 جنوباً، وتراجع فيها إلى الخلف لناحية الجنوب، بانتظار النقاش بشأنها مع إسرائيل في المستقبل، وهنا كان الخطأ الأول المتمثل في أن لبنان انطلق من هذه النقطة وتراجع فيها شمالاً، بدلاً من أن يأخذها نحو الجنوب، مفترضاً أن هذا الإجراء ينطلق من مبدأ حسن النية، وهو أمر غير منطقي حين يتعلق الأمر بالمفاوضات».
وأضاف مراد أن «الخطأ الثاني حصل بين العامين 2008 و2009، حين اعتمد لبنان في ترسيم الحدود النقطة 23، وهي الخط الوسطي انطلاقاً من رأس الناقورة ولكن مع إعطاء كامل التأثير صخرة بحرية تابعة لإسرائيل تحمل اسم يخيليت، وقد اعتبر الجانب اللبناني حينها أنه حقق نجاحاً بنقله خط الترسيم إلى النقطة الجديدة، وهو ما يضيف 860 كيلومتراً مربعاً من حصته».
وعلى أثر تراكم المزيد من الأخطاء، جاءت وساطة الموفد الأميركي فريدريك هوف، والتي انتهت بترسيم خط بات يحمل اسمه (خط هوف)، والذي تم اعتماده بالتنسيق مع لبنان وإسرائيل، لكن «الجانب اللبناني عاد ورفض هذا الخط، بسبب الخلافات الداخلية»، بحسب مراد.
ويُتابع مراد: «بعد انتقال من رئيس مجلس النواب نبيه بري الملف إلى الرئيس اللبناني ميشال عون في العام 2020، ومن ثم بدء المفاوضات غير المباشرة، كانت هناك مفاجأة تمثلت في انطلاق الوفد المفاوض اللبناني من النقطة 29، وهي نقطة جديدة نسبياً، تستبعد تأثير صخرة تيخليت، ويسمح للبنان بالحصول على مساحة بحرية تقدر بنحو 1430 كيلومتراً مربعا».
أسباب عودة المفاوضات
ومن جهته، يرى المحلل السياسي آلان سركيس في حديث لـ«المجلة» أن «السبب الأساسي وراء عودة المفاوضات هو سبب سياسي يتمثل في خروج ترامب من البيت الأبيض وترقب مواقف الإدارة الأميركية الجديدة، وكذلك رغبة رئيس الجمهورية بتقديم رسائل إيجابية للولايات المتحدة بهدف رفع العقوبات عن الوزير السابق جبران باسيل (صهر رئيس الجمهورية) قبل المعركة الرئاسية».
مراد: السلطة السياسية لم تكن إلى جانب وفد التفاوض
وأضاف سركيس: «هذه ورقة مهمة يستخدمها العهد من أجل مصلحة باسيل وليس مصلحة لبنان نظراً إلى التأثير الكبير للعقوبات عليه».
ويؤكد سركيس أن «لبنان يتأثر بالمسارات السياسية الدولية، إذ إنه ليس جزيرة معزولة وإنما بوصلة شرق أوسطية، وبالتالي فإن مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني ستتأثر بمجريات المفاوضات».
وتابع: «كما أن نتائج المفاوضات ستكون مرتبطة بنتائج مفاوضات فيينا، إذ إن حزب الله يتحكم بالسلطة اللبنانية وهو تابع لفيلق القدس بالحرس الثوري، وحكومة دياب مستقيلة من وظيفتها، أما الرئيس المكلف سعد الحريري فليس له دور حالياً في هذه المفاوضات».
ويلفت سركيس إلى أن «هناك سطوة لحزب الله على القرار اللبناني، وصحيح أنه لا يُعلق على مجريات المفاوضات إلا أن كلمة الحسم ستكون له». وأشار إلى أن «العقوبات على باسيل جاءت بسبب قضايا فساد وبسببب موقفه الداعم لحزب الله، وبالتالي قد يكون سكوت حزب الله بمثابة رد جميل ودعم لباسيل لرفع العقوبات عنه».
سركيس: ورقة المفاوضات يستخدمها رئيس الجمهورية لتحقيق مصلحة الوزير باسيل
ويختم سكريس أنه «في حال استمرار التناحر السياسي الداخلي اللبناني وغياب الرؤية والموقف الموحد فمن غير المرجح نجاح المفاوضات، ولكن إذا كان هناك قرار إيراني بنجاح المفاوضات فإن ذلك سيحدث».
لا شك أن استئناف المفاوضات الحدودية بين لبنان وإسرائيل جاء في لحظة سياسية معقدة سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي والدولي، ومسار هذه المفاوضات سيرتبط بشكل وثيق بجميع هذه العوامل. فعلى المستوى الداخلي يعيش لبنان أزمة اقتصادية واجتماعية لم يشهدها من قبل، أما على المستوى الخارجي فإن الأنظار تترقب مواقف الإداراة الأميركية الجديدة حيال مختلف هذه الملفات، وبانتظار كل ذلك، يبقى أن استخراج النفط من البحر حلم يراود كل لبناني.