أزمة الوجود الإيرانية

أزمة الوجود الإيرانية

[escenic_image id="554897"]

بعد ثلاثين عاماً من نشأتها، تواجه جمهورية إيران الإسلامية أزمة غير مسبوقة فيما يتعلق بصميم وجودها. فثمة انقسام حاد بين سكانها وصل إلى رأس المؤسسة الحاكمة. ومع ذلك، فإن النزاعات التي نراها في إيران اليوم كان مقدراً لها سلفاً أن تحدث منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية. فالنظام الذي وضعه آية الله الخُميني "المرشد الروحي الرئيس للثورة" كان منذ بدايته مزيجاً مختلطاً من الثيوقراطية والديمقراطية. فقد سعت نظرية ولاية الفقية إلى التوفيق بين وجود رئيس منتخب للسلطة التنفيذية والإشراف عليه من جانب هيئة من علماء الشيعة. وقد كانت المحصلة النهائية لذلك هي وجود نظام يجمع بين الأجهزة المنتخبة وغير المنتخبة للسلطة التي تمزقها دائماً التوترات القائمة بين الشرعية الدينية والشرعية الشعبية.

وهكذا، فالبرغم من أن الكلمة النهائية ظلت دائماً للقائد الأعلى - وهو الخُميني وخامئني من بعده، وبالرغم من أن المرشحين كان يتم انتقاؤهم بدقة صارمة، فإن الإنتخابات التي تجرى في ظل هذا النظام كان من شأنها أن تمد السكان ببعض مظاهر حرية الاختيار من بين عدد من البدائل المتاحة ( المنتقاة سلفاً، قبل كل شيء)، مما أتاح للناس دفع السلطة التنفيذية في اتجاه واحد من المعسكرات الثلاثة (الإصلاحي، المحافظ، الراديكالي) في إطار المؤسسة الدينية للبلاد.

وبهذا المعنى، فإن ما حدث خلال الاقتراع الأخير كان حدثاً غير مسبوق - فقد أزاح النظام الإيراني بالقوة أحد الشقين المحوريين للنظام الإيراني - ألا وهو الشق الشعبي، من خلال توسيع نطاق النصر الإنتخابي الذي حققه المرشح الفائز بكرسي الرئاسة، وذلك في ظل  أحسن السيناريوهات، أو من خلال سرقة الإنتخابات في وضح النهار وفقاً لأسوأ السيناريوهات.

لقد تضافرت عوامل كثيرة مثل الإنترنت وتلفاز القمر الصناعي وسنوات الإحباط التي مر بها الناخبون من ذوي الأعمار الشابة والذين يخيم عليهم  شبح البطالة لتثبت ما ينطوي عليه هذا التوجه من خطأ كارثي في الحسابات. والأهم من ذلك، أن ثمة آلية حاسمة لفض النزاعات داخل المؤسسة الإيرانية قد تعرضت للوهن الشديد، فالغاضبون من أبناء الشعب والنخبة على حد سواء هبوا جميعاً للتعبير عن احتجاجاتهم في الشوارع والميادين.

منذ عام 1979، شهدت إيران نموذجاً لجمهوريتها الإسلامية كبديل للعالم الإسلامي، وهو بديل إما للنموذج الغربي للعلمانية التركية أو الملكيات التقليدية في الخليج العربي. ولا تزال إيران نظاماً مؤدلجاً إلى حد كبير ولديها إحساس قوي بالهدف، سواء في المنطقة أو في العالم.

وقد بدا خلال السنوات الأخيرة وكأن نجم إيران يعلو. وأدى إسقاط نظام صدام حسين إلى أن أصبح  الشيعة - وهم حلفاء إيران  الطبيعيون - أكبر جماعة داخل جارتهم التي تموج بالقلاقل. وجاء انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وهزيمتها في حرب عام 2006 لتدفع حزب الله - وهو صناعة إيرانية إلى حد كبير- إلى دائرة الأضواء في الشرق الأوسط.

لقد انعقدت الآمال  لدى البعض في طهران على  أن تتبوأ الجمهورية الإسلامية مكانها أخيراً على خريطة زعامة الأمة الإسلامية، وظل الأمر الوحيد المفقود هو القنبلة النووية حيث إنها تحقق لإيران المكانة العالمية وأمن النظام، غير أن الأحداث الأخيرة وضعت ذلك محل شكوك إلى حد كبير، وذلك بسبب ما حدث من تقويض المبادئ الأساسية للدعائم الفكرية للنظام. ولقد لحق الضرر بشعار "جمهورية إيران الإسلامية"، وربما بشكل لا يمكن إصلاحه. 

وحدث الكثير من التقبل الفكري للبديل الإيراني نتيجة الجمع بين الدين والحداثة، والحكم الديني والديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، قدم قادة إيران مشروعهم باستمرار باعتباره ممارسة للتحرر من الهيمنة الغربية وظلم الشاه. ويصبح هذا الادعاء هشاً بدون مصداقية النظام الإنتخابي. ولكن يقترب النظام من الانهيار عندما يهتف الإيرانيون العاديون قائلين "الموت للديكتاتور" من على أسطح المنازل، ويساوون مرشدهم الأعلى ضمناً بالطاغية الأكبر "الشاه" في نهاية المطاف.

وربما تكون البداية الواعدة التي شهدتها إيران على وشك التراجع مرة أخرى إذا أضفنا إليها هزيمة تحالف 8 آذار في لبنان والتهميش النسبي للتيار الصدري في العراق. وترجع هزيمة تحالف 8 آذار جزئياً إلى مخاوف المسيحيين من الهيمنة الإيرانية. غير أنه سيكون من الخطأ أن نقلل من حجم التأييد الذي لا يزال النظام الإيراني يحظى به، على الصعيدين المحلي والإقليمي.

وجاء تأكيد طهران بإلقاء اللوم على القوى الغربية نتيجة اضطرابات ما بعد الإنتخابات، وسوف يجد ذلك آذاناً صاغية في كل من إيران والشرق الأوسط ككل، الذي هو أرض خصبة لنظريات المؤامرة.

غير أن مهمة تحميل الغرب مسئولية الاضطراب الداخلي كانت ستصبح أسهل بكثير في ظل الإدارة الأميركية السابقة؛ حيث إن واشنطن تتبع الآن نهجاً محسوباً بشكل أكبر. وقد فقدت صورة أمريكا بوصفها "الشيطان الأكبر" -الذي يحاول إذلال إيران والعالم الإسلامي- بعضاً من قوتها، على أقل تقدير.

ومع وضوح الانقسامات والتناقضات داخل الكيان السياسي لإيران بشكل جلي فإن الجماهير المترقبة في إنتظار القيام بخياراتها الإستراتيجية، وليس من المرجح أن يكون الاختيار في صالح طهران، فهم مسيحيون في لبنان، وشيعة معتدلون في العراق وأماكن أخرى.

وثمة خياران أمام النظام الإيراني للتفاعل مع هذا الوضع. الخيار الأول يتمثل في التوصل إلى نوع من التوافق داخل النخبة لإدخال إصلاحات تعالج على الأقل بعض الشكاوى المترددة على الطرقات في الأسابيع الأخيرة، ومن أجل استعادة  الجوانب "الشعبية" لشرعية النظام،  ومعالجة بعض المشاكل الإجتماعية والإقتصادية الحقيقية الكامنة في المجتمع الإيراني.

ولن يُحل هذا التناقض الجوهري داخل الجمهورية الإسلامية - وهو الحكم الديني في مواجهة الديمقراطية- ولكنه سيفتح على الأقل مخرجاً للتنفيس عن الضغوط، لتعزيز شرعيته الداخلية (وربما الإقليمية أيضاً).

الخيار الثاني سيكون الإحتماء وراء الإلقاء باللوم فيما يتعلق بكل شيء على التدخل الغربي، والحفاظ على النقاء العقائدي للثورة، عن طريق إغلاق إيران أمام العالم الخارجي سياسياً واقتصادياً وثقافياً، مما يحول النظام إلى ديكتاتورية دينية مطلقة.

ومع انتصار خامنئي وأحمدي نجاد، سيكون الخيار الثاني أكثر احتمالاً للتنفيذ، مما سيؤدي إلى المزيد من عزلة النظام، وزيادة اعتماده على "القنبلة" من أجل بقائه في المستقبل. ويبدو الآن أي حديث عن قرب انفراجة أمريكية-إيرانية، أمر سابق لأوانه إلى حد كبير.

كيفورك أوسكانيان- باحث مقيم بلندن ومتخصص في الشؤون السياسية والأمنية لدول غرب آسيا.

font change