باريس: لم يخسر د. بطرس غالي كثيرا من معركة التجديد لولاية ثانية كأمين عام للأمم المتحدة، والتي انتهت باستخدام الولايات المتحدة حق «الفيتو»ولم ينجح في التجديد، ولكنه خرج منها بصورة جديدة أمام العالم، صورة الذي تحدى رغبة أقوى دولة في العالم. وعلى الرغم من أنه نفى في حواره مع «المجلة»أن معركته مع الولايات المتحدة ليست من دواعي فخره، فإنه يمكن أن تلمس بوضوح عكس ذلك، حتى وإن حرص طوال الحوار على عدم ذكر اسم الدولة التي وقفت ضد ترشيحه، مكتفيا بالإشارة إليها بموقفها تجاهه.
يقيم د. غالي حاليا في شقة في الدور السابع في الحي السادس في باريس تلك المدينة التي حصل فيها على درجة الدكتوراه. وتقيم معه زوجته «ليا»وخادمة فرنسية.
استقبلنا د. غالي في الموعد المحدد تماما وبدا في حالة صحية جيدة. وظهر من الحوار القصير قبل التسجيل معه أنه سعيد بكتابه الصادر حديثا وانهماكه في الإعداد لكتابه الجديد والذي سوف يخصصه لتجربته في الأمم المتحدة كأمين عام لها. لم يرفض غالي الإجابة إلا عن سؤالين، الأول خاص بقصة خلافة مع مادلين أولبرايت مندوبة أميركا الدائمة لدى الأمم المتحدة، وقت ولايته، ووزيرة الخارجية الأميركية حاليا، والثاني عن تصوره لدور المنظمة الدولية في ظل أمينها الجديد كوفي عنان.
* كتابك الأخير «طريق مصر إلى القدس»، هو الكتاب رقم 19 في سلسلة الكتب والدراسات التي ألفتها، لماذا اخترت هذا التوقيت بالذات لإصداره؟
- الكتب التي كتبتها من قبل كانت أكاديمية، وكان القارئ المستهدف هو الطالب الدارس، هذا الكتاب يختلف عما سبقه لأنه خليط بين السيرة الذاتية من ناحية والتحليل السياسي من ناحية أخرى. وهو سوف يترجم إلى حوالى 12 لغة، وقد شئت أن أوضح فيه موقف الدبلوماسي المصري بين عام مبادرة السلام 1977 وعام وفاة الرئيس السادات 1981. النقطة الأساسية هي أنني لم أغير كلمة مما كتبته في ذلك الوقت، لأن الغرض هو أن أوضح طبيعة الفكر السائد في هذه الفترة، وأن أبين التردد في الدبلوماسية المصرية أمام إصرار الرئيس السادات على أن تستمر وفقا لمنهج معين، ونحن كدبلوماسيين كنا نخشى هذا المنهج. كان من السهل أن أوضح في الكتاب أنني أخطأت في كثير من التفسيرات وكثير من الآراء، ولكني رأيت أن أحافظ على هذه الآراء لكي يستطيع القارئ أن يفهم مشاعر الدبلوماسي في ذلك الوقت: كيف فكر وكيف تصرف في هذه الفترة؟
* إذن هذا الكتاب هو مذكرات موثقة وليست ذكريات؟
- نعم.
* أعود إلى مسأله توقيت الصدور... ففي الوقت الذي بدأ فيه بعض معارضي سياسة السادات تجاه عملية السلام مراجعة مواقفهم، بل وعبر بعضهم بشكل مباشر أو غير مباشر عن إحساسهم بخطأ موقفهم ذلك الوقت، تأتي الآن وتخرج بكتاب توجه خلاله انتقادات إلى المسيرة السلمية في تلك الفترة؟
- توقيت صدور الكتاب مجرد صدفة، فقد انتهيت من إعداده منذ فترة وكان مقررا نشره في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، لكنني دخلت حينئذ معركة شرسة مع بعض الدول التي كانت تعارض إعادة انتخابي كأمين عام للأمم المتحدة، فقررت تأجيل الكتاب حتى لا تستخدم من خلال بعض الجمل الموجودة فيه حملتها ضدي لتدفع بعض الدول إلى رفض إعادة إنتخابي، وخوفا من ذلك قررت تأجيل نشر الكتاب، وترتب على ذلك مشاكل لدار النشر، ولكني أقنعتهم بالتأجيل إلى أن صدر في الشهر الماضي.
* أعتقد أن هدفك من هذا الكتاب هو تأكيد الاختلاف- اختلافك- مع الرئيس السادات كما لو كنت تريد أن تبرئ ساحتك من مسؤولية «الصلح المنفرد»على حد تعبيرك؟
- هذا غير صحيح. تأجيل إصدار الكتاب كان صدفة كما قلت، والمذكرات جاهزة منذ 15 عاما وترجمت إلى الإنجليزية ووضعت ملخصا لها. لكن بسبب ارتباطي بالعشرات من الالتزامات كأمين عام للأمم المتحدة لم أجد الوقت لكي أصحح بروفات الكتاب.
* لكن هذا النقد الذي وجهته إلى إدارة السادات لعملية التفاوض مع إسرائيل ألا تعتقد أنه جاء متأخرا سنوات طويلة؟
- هذا ليس نقدا أبدا، أنا كنت أنتمي إلى المجموعة التي كانت تتعاون مع السادات. كان مجرد تعبير عن تردد، تعبير عن مخاوف، الآن تبين أن هذا الطريق كان الاختيار الصحيح، ولكن أثناء المفاوضات لم نضمن نتيجة هذا المنهج، كانت هناك مخاوف تنتابني كأي مواطن صالح مرتبط بوطنه، ويخشى أن تكون النتيجة سلبية بعد هذا المجهود. لذلك لا أستطيع أن أسميها انتقادات، ولكن أقول إنها تردد، مخاوف عبرت عنها لكي أوضح الصعوبات التي تعرض لها المفاوض المصري.
عندما أرى الزميل، وكان الأخ محمد كامل- وزير الخارجية في ذلك الوقت- يستقيل، فهذا تردد بالنسبة إلي. لماذا لم أقدم استقالتي، وأيضا من معه؟ عندما أستمع إلى الرئيس تيتو يقول لنا إنكم قد أخطأتم، وهو شخصية سياسية لها وزن، هذا يؤثر على المفاوض المصري أو على مؤلف هذا الكتاب، حاولت أن أعبر من خلال المذكرات، عن المخاوف التي لازمت المفاوض المصري أثناء تلك المرحلة. الآن وأنا مطمئن أستطيع أن أقول دون تردد. إنها كانت أنجح عملية.
* ألم تفكر في لحظة من اللحظات طوال الفترة التي عملت فيها إلى جانب الرئيس السادات في الاستقالة؟
- لا.. لأنني لو وافقت على الالتزام بعمل فهذا يعني الاستمرار إلى النهاية.
* وهل هذا هو الذي دفعك إلى عدم المصارحة أو المجاهرة أمام السادات باختلاف وجهة نظرك المعارضة لبعض الخطوات أثناء التفاوض أو المسيرة السلمية مع إسرائيل؟
- المناقشات كانت تدور بيني وبين السادات أو بيني وبين الزملاء، ولكنني لا أستطيع أن أقول ذلك بطريقة رسمية. أنا موظف، المفروض أن أضمن الكتمان وهو جزء من العمل الدبلوماسي.
* في المذكرات التي كتبها محمد إبراهيم كامل، إشارة إلى اختلاف الرؤية بينكم لحدود دور وزير الخارجية، أو مستشاري الرئيس، فهو كان يرى أن من حق أي من مستشاري الرئيس أن يناقش وأن يجادل وأن يختلف إلى حد كبير مع الرئيس، في حين أنت ترى أن دورهم يقف عند حد تقديم الاقتراح ولكن على أن لا يصل إلى مرحلة الخلاف والجدل هل هذا كان صحيحا؟
- كان هناك جدل مع الرئيس وكان يقبل الجدل، ويقبل النقاش، ولكن القرار هو قرار الرئيس في الآخر، أنا كنت أقبل رأي المعاونين لي كأمين عام في الأمم المتحدة وأستمع إليهم، ولكن في نهاية الجلسة أنا الذي يتخذ القرار. وقد يكون القرار مخالفا تماما رأي المجموعة التي أتعاون معها. مثلا اقترحوا أن لا أذهب إلى مقديشيو، وكان الجانب الأميركى لا يريد ذهابي إلى الصومال، ورغم ذلك قررت أن أذهب. أنا المسؤول وأنت مستشار عندي. المفروض أن أستمع إلى رأيك وتحاول أن تقنعني، ولكن إذا قررت عكس ذلك يجب أن تلتزم بقراري وإذا أردت أن تستقيل فأرحل إذا أردت.
ضياع القدس
* جاء في مذكراتك أنك عندما دخلت إلى غرفتك في «فندق داود»في القدس أثناء مبادرة السلام. وقفت متأملا في هذه المدينة وراودتك مخاوف بأنها قد تكون في طريقها إلى الضياع إلى الأبد. كيف تقيّم وضع القدس في الوقت الراهن؟
- إنني واثق أنه من خلال التفاوض أن الإنسان يستطيع أن يجد حلا لأي قضية من القضايا السياسية. الوضع أحيانا يحتاج إلى قدر من الابتكار أو الخيال السياسي، ومن الممكن إيجاد حل لأي قضية سياسية. القضية التي تبدو مستحيلة تتم تسويتها بعد عامين أو ثلاثة فتوجد الحلول. ودائما أعطي المثل- باعتباري أستاذا سابقا- لعداء ثلاثة أو أربعة أجيال بين شعبين راقيين، الشعب الألماني والشعب الفرنسي، ملايين ماتوا سنة 1870 القوات الألمانية احتلت باريس سنه 1919 في الحرب الأولى. الحرب العالمية الثانية سنة 1939 إلى سنة 1945، عداء ثلاثة أجيال ومع ذلك نجحوا في بناء سلام حقيقي، ووحدة حقيقية بين فرنسا وألمانيا رغم الاختلاف الجذري بين العقلية الألمانية والعقلية الفرنسية.
* إذا أعملنا هذا الخيال السياسي الذي تحدثت عنه في ما يتعلق بمسألة القدس تحديدا، هل تعتقد أنه من الممكن التوصل إلى صيغة مرضية للجانب العربي في هذه المسألة؟
- أرى ذلك.
* وما هي هذه الصيغة؟
- لا أريد الدخول في التفاصيل.
* ما هو تقييمك لدور الخارجية المصرية في لعبة التفاوض المصري الإسرائيلي؟
- هذا يعيدنا إلى سياسة السادات الذي كان يسمح للخارجية المصرية بأن تلعب هذا الدور وكان هناك توزيع أدوار بين السادات وبين الخارجية المصرية، حينما كان يتفاوض السادات كان يقول هناك معارضة.
محمد كامل لم يكن مستعدا للاستقالة فورا. ولكنه قال للرئيس السادات: سوف أستقيل عندما نعود إلى مصر، ذهب السادات إلى الإسرائيليين وقال الوفد كله استقال. هذا كان توزيع أدوار. كان يسمح للخارجية وللمجموعة الدبلوماسية بأن تعارض كوسيلة لتدعيم مركزه التفاوضي.
لا وفاء في السياسة
* هل شعرت بأي قدر من المرارة، في أي مرحلة من المراحل منذ بدأت العمل في السلك الدبلوماسي لأنك لم تتول منصب وزير الخارجية؟
- أن تتولى منصب وزير الخارجية لمدة 6 شهور أفضل أو تتولى وزير الدولة للشؤون الخارجية على مدى 15 سنة؟
* لم تجبني عن هذا السؤال؟
- مرارة لا. لو أردت أن تلعب دورا سياسيا يجب أن تقبل التناقضات.
سئلت وأنا قادم من نيويورك منذ يومين هل هناك مرارة بينك وبين الحكومة الأميركية؟ لم أرد، لأنني سياسي مخضرم، والذي يريد أن يعمل في الحقل السياسي يجب أن يقبل مقدما أنه لا مرارة. ليس هناك وفاء في السياسة، الوفاء الذي تمسك به السادات (مقلدا صوت السادات) «الوفاء يا بطرس»، «اتق شر من أحسنت إليه»الوفاء في السياسة لا وجود له. بعد ما نجح تشرشل في الحرب العالمية الثانية، الانتخابات أخرجته من السلطة. التناقض دائم بين الوفاء وبين السياسة.
* متى وصلت إلى هذه القناعة بالتناقض بين الوفاء والسياسة؟
- منذ سنوات طويلة.
* قبل أن تمارس دورك السياسي العملى أو بعده؟
- كباحث في العلوم السياسية.
* إذن دخلت المعترك السياسي وأنت تعلم بهذا المفهوم منذ البداية؟
- بلا شك. ولو أردت أن تدخل في السياسة ولا تستطيع أن تتغلب على شعور المرارة فلا داعي لأن تدخل في السياسة.
* مرة أخرى أعود إلى مدرسة الخارجية المصرية. إلى أي مدى تعتقد أن هذه المدرسة تقوم بدورها الحالي في الوقت الراهن بالشكل الصحيح والمناسب لتحريك عملية السلام؟
- لا أستطيع أن أرد على هذا السؤال لأنه في الواقع منذ أكثر من 6 سنوات وأنا بعيد عن السياسة الخارجية المصرية. ولست بعيدا من الناحية العاطفية لكن من الناحية العملية. فهناك جيل جديد قد ظهر. هناك ظروف سياسية تختلف عن الظروف السياسية التي كانت موجودة في الثمانينات. أعتقد أن 80 في المائة من الدبلوماسيين حاليا كانوا من تلامذتي أو على الأقل عملنا معا على مدى 15 سنة في وزارة الخارجية. أستطيع أن أقول إن هناك استمرارية في السياسة الخارجية.
* في ما يتعلق بالأوضاع في الشرق الأوسط، نلاحظ جميعا أنها تمر بمرحلة صعبة جدا في هذه المرحلة. هل تعتقد أن الأمور يمكن أن تدفع مرة أخرى بالمنطقة إلى حالة من حالات الصراع العسكري المعلن؟
- لا. لا أظنها قد تؤدي إلى صراع معلن ولكن قد تؤدي إلى اضطرابات قد تكون أصعب وأخطر من الصراع المعلن. الظروف صعبة اليوم ولكنها ليست أصعب من الظروف في 1977. قبل زيارة الرئيس السادات إلى القدس. لم تكن هناك اتصالات. كانت الأرض المصرية محتلة. فإذا استطعنا بعد عام 1977 التغلب على تلك الصعوبات فلماذا لا نستطيع في سنة 1997 أن نتغلب على الظروف الصعبة؟ وعدنا مرة ثانية إلى الوضع كما كان عام 1977.
* ذكرت أن الاضطرابات قد تكون أخطر من الصراع المسلح. ما هي نوعية هذه الاضطرابات التي تتخيل أنها يمكن أن تحدث؟
- الاضطرابات التي حصلت أثناء الانتفاضة في الأراضي المحتلة، والاضطرابات التي يمكن أن تحدث في العالم العربي مرتبطة بالصراع الفلسطيني.
كشف حساب
* التقرير الشهير حول مجزرة قانا مثير للجدل، فهناك من يقول إنه أحد الأسباب التي دفعت الإدارة الأميركية إلى معارضة ترشيحك مرة أخرى، وفي نفس الوقت هناك بعض الأطراف العربية التي تقول إن هذا التقرير لم يكن قويا بشكل كاف، بل إن هناك بعض الأجزاء قد قمت بحذفها، حرصا على إرضاء الجانب الإسرائيلي. هل هناك أية أجزاء من هذا التقرير تم حذفها في أي وقت من الأوقات؟
- هذا غير صحيح، ولي ثلاث ملاحظات:
أولا: أنا الذي قررت إيفاد بعثة لتقصي الحقائق ولم يطلب مني أحد ذلك.
ثانيا: كنت أستطيع أن أكتفي بأن أقدم تقريرا شفويا لمجلس الأمن.
ثالثا: قدمت لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة تقريرا مكتوبا والتقرير بلغة دبلوماسية يدين بطريقة واضحة الهجوم الإسرائيلي على قانا.
* ما هو تفسيرك إذن لوجود من يؤكد أن هناك أجزاء تم حذفها من هذا التقرير؟
- ستجد في جميع الحالات تيارا يهاجم تيارا يريد أن يقلل من قرار متخذ، وهناك تنافس في الحياة السياسية.
* هناك توقع دائم بأن أي دولة يخرج منها أحد المسؤولين الدوليين فإن عليه دورا في أن يخدم قضايا هذه الدولة. إلى أي مدى تستطيع أن تقول إنك أسهمت أو قدمت خدمات إلى القضايا العربية بشكل عام خلال توليك منصب الأمين العام للأمم المتحدة؟
- هذا موضوع كتابي الجديد الذي سيصدر. ولكن أستطيع أن أقول إني خدمت العالم العربي. خدمت بقدر الإمكان. خدمت العراق أو على الأقل الشعب العراقي. «اتفاق النفط مقابل الغذاء»يرجع إلى المجهود الشخصي الذي بذلته. لعبت دورا أثناء الحرب الأهلية التي دارت بين الشمال والجنوب في اليمن، لعبت دورا لإنقاذ دولة عربية معزولة، لم يفكر أحد فيها وهي الصومال، حاولت إيجاد حل للخلاف بين الجمهورية الصحراوية والبوليساريو والمغرب، وأستطيع أن أقول إنني لعبت دورا بالنسبة للشعب الفلسطيني. نقلت
«الأونروا»من فيينا إلى غزة رغم معارضة كبار الموظفين الذين يفضلون العمل في فيينا بدلا من أن يعملوا في غزة حيث المكافآت في فيينا تختلف عن مستوى المكافآت في غزة. أستطيع أن أقول دون تردد إن العالم العربي، كان له مكانة خاصة في وجداني وفي قلبي على مدى الخمس سنوات، وأستطيع أن أقول أيضا «اتق شر من أحسنت إليه».
* ألتقط هذه النقطة وأقول إلى أي حد تشعر أن الدول العربية- بدون تحديد الأسماء- كانت موضوعية في تقييمها لدورك؟
- الدول كلها لا تستطيع أن تكون موضوعية. عندما يصدر التقييم أثناء الأزمة، يكون تقييما عاطفيا، لا ينقلب إلى تقييم موضوعي إلا بعد مرور 20 سنة، التقييم لزيارة القدس كان عاطفيا، «إدانة السادات.. خيانة السادات». بعد 20 سنة تبين الواقع. الزمن هو الذي سيعطي الموضوعية المنشودة.
* بعد أربع من السنوات الخمس التي قضيتها في الأمم المتحدة بدا وكأنك في معركة مع كل دول العالم، وفي العام الأخير وقعت المعركة الشهيرة أو الأشهر فى تاريخ الدبلوماسية الدولية بينك وبين الولايات المتحدة الأميركية. قال البعض إن جزءا من هذه المعركة دافعه شخصي، فقد أردت أن تحسن صورتك أمام دول العالم الثالث وأمام الدول العربية وأمام مجموعة الدول الإسلامية بعد كل ما فعلته؟
- هذا التقييم غير دقيق. أيضا هو تقييم عاطفي. الانتقادات لم تصدر من دول العالم الثالث، هناك انتقادات صدرت من فرنسا، هناك انتقادات صدرت من إيطاليا، هناك انتقادات صدرت من مختلف أنحاء العالم. أي أمين عام يحاول أن يكون مستقلا فسيجد نفسه موضع انتقادات. ليس من منطقة معينة بل من مختلف أنحاء العالم. بالنسبة لأي خلاف، لو لعبت دور الوسيط في الخلاف يجب أن تقبل مقدما بأنك ستتهم بأنك تنحاز إلى (أ) أو تنحاز إلى (ب). مرة تكون مع (أ) ومرة مع (ب). أنا متهم بأنني ميال للصرب لأنهم أرثوذوكس وأنا أرثوذوكسي، على الرغم من أنه لا توجد علاقة بين الكنيسة القبطية والكنيسة الصربية. اتهمت عندما ذهبت إلى أرمينيا بأنني منحاز لأذربيجان لأن شقيقي له معاملات بترولية مع أذربيجان، وهو لم يقم في حياته بمعاملات بترولية لأنه يملك شركة سياحية.
* أيضا أتهمت بمحاباة إسرائيل لأن زوجتك يهودية؟
- البعض قال إن زوجتي يهودية من أصل يوناني. فلذلك أنا ميال لقبرص اليونانية، وهذه أمور عادية يجب أن أتقبلها إذا لعبت دور الوسيط في النزاعات الدولية، ولعبت هذا الدور عدة مرات قبل تعييني أمينا عاما. المفاوضات التي دارت بين موريتانيا والسنغال. كلفت من قبل الرئيس مبارك أن أتولي هذه العملية، واتهمت مرة بأنني ميال للسنغال لأن لي علاقة شخصية مع رئيس جمهورية السنغال. ومرة أخرى، اتهمت بأنني ميال لموريتانيا، لأن موريتانيا دولة عربية. من مستلزمات العمل الدبلوماسي أن تقبل أنك ستكون موضع انتقاد وهذا الانتقاد وسيلة من وسائل الصراع الدبلوماسي، لكي تتعثر وتنحاز إلى الطرف الذي ينتقدك.
أخطاء غالي
* أحد الكتاب الأميركيين قال «ارتكب الدكتور بطرس غالي خطأين: الأول عندما أراد القيام بانقلاب في الأمم المتحدة والثاني عندما ظن أنه يستطيع أن يقوم بذلك»،ما هي الأخطاء التي تعترف بأنك وقعت فيها أثناء إدارتك المنظمة الدولية؟
- إنني لم أعط الاهتمام الكافي للولايات المتحدة الأميركية.
* ما هو مفهوم هذا الاهتمام الكافي؟
- الاهتمام الكافي أن تذهب إلى الكونغرس الأميركي. أن تبذل مجهودا في الاتصالات مع القيادات السياسية الأميركية كلها. أن تتعاون معها. حاولت العكس، حاولت أن أدعم الدول التي تستطيع أن توازن الدور الأميركي. ذهبت إلى اليابان 5 مرات، ذهبت إلى روسيا 5 مرات، تكلمت في البرلمان الروسي. تكلمت في لجنة الشؤون الخارجية للبرلمان الألماني. ذهبت إلى الدول الكبرى، لكي أستطيع أن أشجع دور هذه الدول في العمل المشترك داخل إطار الأمم المتحدة. كنت أرى أن من مصلحة المجتمع الدولي ومن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية أن يسود نوع من التوازن بين القوى داخل الأمم المتحدة.
* في ما يتعلق بالنقطة الخاصة بالاتصال بالكونغرس، أظن أنك قمت بهذه الاتصالات في الفترة الأخيرة من ولايتك في محاولة لضمان تأييدهم لك وذلك عندما قمت بالاتصال ببعض أعضاء وبعض قيادات الكونغرس وهذه الاتصالات اعتبرها الرئيس الأميركي كلينتون تدخلا فى الشؤون الداخلية.
- مفروض أن يتصل الأمين العام للأمم المتحدة مع الكونغرس. الحياة الأميركية تتطلب أن تتصل بأعضاء الكونغرس. ولي اتصالات مع أعضاء الكونغرس أكثر من مرة وحتى عندما كنت وزيرا مصريا كانت لي اتصالات معهم.
أرفض الإجابة
* المندوبة الأميركية الدائمة في ذلك الوقت السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في الوقت الراهن أعتقد أن القصص التي رويت عن شكل العلاقة المتوترة بينكما في الصحافة العالمية كلها من أكثر القصص إثارة في تاريخ الدبلوماسية الدولية. ما هي الحقيقة؟ وما هو شكل هذه العلاقة؟ وأين بدأت؟
- لا أريد أن أعلق على هذا الموضوع.
* هل تعتقد أن اختيار السيدة أولبرايت كوزيرة للخارجية. . . . . .
- (يقاطع)هذا مرتبط بالسؤال السابق ولن أجيب عنه.
«بطرس الأفريقي»
علاقتك الأفريقية كانت ممتازة
- - - - -
حتى أطلق عليك في بعض الأحيان «بطرس الأفريقي»
- وعلاقتي مع أميركا اللاتينية كانت علاقات ممتازة، واهتمامي كان مع الدول التي لا تنال اهتمام الحكومة أو الرأي العام، ونفس الأسلوب استخدمته في الأمم المتحدة. اهتممت بالمناطق التي لم تكن تنال اهتمام المجتمع الدولي.
* ومع ذلك استقبلت في الصومال استقبالا لم يكن لائقا على الإطلاق؟
- من فريق. كان هناك صراع بين فريقين، فريق رحب به وسعد بلقائي واعتبرني بطلا، وفريق آخر معاد للفريق الأول معاد لي. وهذا شيء عادي.
* في ما يتعلق بمأساة البوسنة، تعتقد أنك قمت بالدور الذي يريح ضميرك؟
- لا شك. كل ما يقال عدا ذلك مجرد إشاعات، مثل التي أشاعتها بعض الدول بأنني غير محبوب لدى الموظفين، وأنني فرعون وغير ذلك. قدرة بعض الدول الكبرى في الإعلام لا مثيل لها، تستطيع أن تبني إنسانا وتستطيع هدمه بالإعلام، إذا ألقيت بحجر في الماء سوف تجد الدائرة الأولى تليها دوائر متعددة. ينشر المقال في «الواشنطن بوست»بعدها بأسبوع تجد نفس الكلام نشر في الجرائد الأوروبية بعدها بأسبوعين تجد نفس الكلام نشر في الصحف العربية، بعدها بثلاثة أسابيع تجد نفس الكلام نشر في الكتب والمجلات الأسبوعية. وكانت تأتيني كافة المقالات، ولو كنت شابا ولدي الوقت، لقمت بإجراء دراسة في هذا الأمر.
* الحلم بدور أكثر تأثيرا للمنظمة الدولية والقيام بما وصفته «الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام»بعد المعركة الأخيرة التي انتهت بخروجك من معركة الترشح لمنصب الأمين العام، هل يعد هذا خطوة إلى الخلف للمنظمة الدولية؟
- لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال إلا بعد عام أو عامين ونعطي فرصة للأمين الجديد أو للتوازن الجديد الموجود في الأمم المتحدة أن تظهر نتائجه.
* هل تعتقد أن كوفي عنان كأمين عام جديد يملك المقومات والإرادة التي تمكنه من القيام بدور يتميز بنوع ما من الاستقلالية؟
- لا أستطيع الرد على هذا السؤال.
* هل يمكن القول إن الخلاف بينك وبين الولايات المتحدة كان فيه جانب شخصي؟
- لا شك أن فيه جانبا شخصيا.
الملك المنفي
* يوم أنهيت مهامك في الأمم المتحدة وصفت إحدى الصحف لحظات خروجك منها بقولها: «بالنسبة لشخص ولد في قصر مكون من 100 غرفة واعتاد ممارسة دور بارز في السلك الدبلوماسي، إنها نهاية مفاجئة لحياة عملية حافلة، أشبه بملك مخلوع في طريقه إلى المنفى»... هل تشعر بالفخر أنك وقفت في مواجهة أميركا؟
- لا. المرء له أن يفخر بأن ينجح في تسوية خلاف، أو أن يظهر كتابا أو بصداقة.
* هل خسرت كثيرا من خلال تجربة الأمم المتحدة؟
- بالعكس، اكتسبت الفهم للأمور السياسية. تعلمت الكثير، لأن الإنسان يجب عليه أن يتعلم طوال حياته. أريد أن أتعلم الآن الكتابة على الآلة الكاتبة والكمبيوتر وسوف أتعلم من اليوم هذه الأشياء.
* اخترت أن تقيم في باريس؟
- هذه إقامة مؤقتة لكي أنهي الكتاب الثاني عن الأمم المتحدة.
* هل تخطط للعودة إلى الاستقرار في مصر؟
- نعم. المنزل موجود وكل شيء متوفر.
* كتابك رقم 20 عن قصتك مع الأمم المتحدة متى تتوقع أن يظهر؟
- أملي أن أنهي هذا الكتاب قبل نهاية هذا العام.
* هل تعتقد أنه سيثير ضجة؟
- إنه أكاديمي أكثر منه كتابا يحكي مغامرات.
* إلى أي مدى سوف تكون حرا في استخدام المعلومات المتوفرة لك حول القضايا المختلفة؟
- لا قيود علي وأنا حر.
* هل ستكون هناك أسرار تنشر لأول مرة؟
- طبعا سوف يكون في الكتاب بعض القضايا المعروفة وليست أسرارا، مثل المجهودات الشخصية التي بذلتها لإيجاد حل لتسوية في قضية ما لا يعرفها إلا أنا والطرف الآخر. وإذا نشرت هذه المعلومات ستكون مساهمة جديدة للقارئ كي يفهم أبعاد العمل في الأمم المتحدة.
* ما هي خلاصة تجربتك في الأمم المتحدة؟
- أهميه الإصرار والصبر والقدرة على الاستمرارية. وهذه صفة مع الأسف غير متوفرة في كثير من البلاد؛ الرأي العام يحتاج إلى نتيجة سريعة. المريض يريد أن يعالج في أسبوع. المشاكل السياسية تحتاج إلى عمل من السنوات الطويلة.
سوء سلوك أم تحكم؟
* هناك ثلاث دول عربية تتعرض لعقوبات في الوقت الراهن..
- كانت يوغوسلافيا عليها عقوبات. هاييتي عليها عقوبات. بوروندي عليها عقوبات.
* ولكن العقوبات سقطت عن يوغوسلافيا ولم تسقط عن أي دولة عربية. في تقديرك ما سبب هذا الوضع؟ هل سوء سلوك من بعض الدول العربية كما تقول بعض الدول المسيطرة، أم سوء تقدير من المنظمة الدولية أم سيطرة دولة من أجل مكاسب سياسية خاصة بها؟
- أقول إن العلاقات غير طيبة بين المجتمع الدولي وهذه الدولة التي فرضت عليها هذه العقوبات، لأنه لو كانت العلاقات طيبة فسوف تجد بعض الدول تدافع عنها.
* أتصور أن دولة مثل ليبيا مثلا في ما يتعلق بمشكلة لوكيربي، قدمت أكثر من طرح لحل القضية وطرحت أسماء 100 دولة ومائة مكان لمحاكمة المتهمين. لماذا هذا الإصرار الأميركي على دفع الأمور إلى هذا المستوى؟
- اسأل الجانب الأميركي ولا تسألني أنا.
* إذن ما هي طبيعة الجهود التي قمت بها في هذا المجال لحلحلة مشكلات هذه الدول العربية مع المجتمع الدولي؟
- ألقيت محاضرة منذ 3 أيام في مجموعة من القيادات المحلية العربية وكان موضوعها علاقة الأمم المتحدة بالعالم العربي. وتكلمت عن ثلاث قضايا هي القضية الفلسطينية والقضية الليبية والقضية العراقية وأوضحت المجهودات التي بذلت من أجل إيجاد تسوية لهذه القضايا وللصعوبات الموجودة. وسوف أنشر هذا كاملا في كتابي الجديد.
* هل تعتقد من خلال متابعتك الدقيقة لهذه المسائل أنه في المستقبل القريب سوف نجد حلولا لهذه القضايا؟
- من الصعب أن أجد إجابة. المشاكل سوف تستمر مع الأسف، والعلاقات ستظل متوترة بين مجلس الأمن وهذه الدول.
* هل تعتقد أن الوقت قد حان لرفع الحصار عن العراق؟
- السؤال متعلق بالقرارات. قرارات مجلس الأمن.
* أتحدث عن تقديرك الشخصي، بعد أن أصبحت في الخارج وتشاهد هذه الصورة أفضل منا جميعا لأنك كنت في الداخل؟
- كوننا نجحنا في إصدار قرار «النفط مقابل الغذاء»أرى أن هذا خطوة إيجابية وأملي أن نستطيع بهذه الخطوة أن نجد تسوية للعلاقة بين الأمم المتحدة وبين العراق.
* كسياسي عربي في المقام الأول هل تعتقد أن الوقت الآن بات صالحا وملحا لإجراء مصالحة عربية- عربية شاملة؟
- ليس هناك وقت صالح وغير صالح يجب أن يبذل جهد في أي وقت من الأوقات لتحسين العلاقات بين الدول العربية.
* هل تعتقد أن المعطيات الموجودة على الساحة العربية الآن صالحة لإيجاد هذه المصالحة؟
- الإرادة السياسية هي الأهم في هذا الموضوع أكثر من المعطيات، تستطيع أن تغير المعطيات أو أن تؤثر على المعطيات من خلال الإرادة السياسية. لو توفرت هذه الإرادة لدى الأفراد المعنيين، ستستطيع أن تتغلب على المعطيات.
* في ظل عالم أصبح محكوما بقطب واحد، هل مفهوم الأمن والسلام اختلف عما قبل الحرب الباردة؟
- السلام كما هو، ولكن الوسائل لتحقيق الأمن والسلم اختلفت، فمن قبل كانت الأمور تأتي من خلال توازن ولكن في الوقت الحاضر مرتبطة بإرادة دولة واحدة.
* هل تعتقد أن العالم ذا القطبية الواحدة مرشح للاستمرار إلى فترة بعيدة؟
- لا. في السنوات العشر أو العشرين المقبلة سوف تظهر أقطاب جديدة. ليست العبرة في الدولة بالقوة بقدر ما العبرة بالقضايا السياسية. أن تهتم بالقضايا الدولية.
وهناك دول كبرى، لأسباب تاريخية ودستورية منعزلة عن السياسة الدولية أثناء الحرب الباردة، مثل ألمانيا واليابان أو السويد فلو توافرت الإرادة السياسية لدى مجموعة من الدول بأن تهتم بالقضايا الدولية وأن تلعب دورا في القضايا الدوليه حينئذ ستجد نوعا من التوازن للقطبية الواحدة.
* إلى أي مدى تعتقد أن الدول العربية تقوم بدورها المفترض منها في إطار المنظمة الدولية؟ وهل هناك فرصة أو ساحة أوسع لتطوير هذا الأداء؟
- لديك 22 دولة ولا تستطيع أن تقارن سياسة بعض الدويلات مع سياسة دولة علاقتها متوترة مع الأمم المتحدة مثل العراق. في الواقع أعود وأقول إن هذا السؤال يرجع إلى ما هو موقف القيادات العربية من السياسة الدولية. أنا هنا في فرنسا دعوت بالأمس إلى لقاء فوجدت جمعية تهدف إلى حظر الألغام وجمعية أخرى من أطباء لأهداف إنسانية. وجدت أن المجتمع الفرنسي مهتم بقضايا مختلفة، منها قضايا البيئة وحماية بعض الوحوش في أفريقيا هل لدينا هذا التفكير في العالم العربي؟ الاهتمام الحقيقي بالقضايا الدولية لو لدينا هذا التفسير لقربت من القضايا الدولية، ولا ننتظر من الحكومات أن تهتم بقضايا الرأي العام هو غير مهتم بها.
في السنوات المقبلة القضايا الداخلية ستكون مرتبطة تماما بالقضايا الدولية يجب أن نهتم بها ولا أنسى أنني كنت في اجتماع مع قيادات الحزب الوطني في مصر وأخبرتهم بأنني أسافر إلى نيكاراغوا، وبدأت السخرية من الاسم، والبعض تعجب لماذا أسافر إلى مثل هذه الدولة البعيدة، وقلت لهم: إذا أردتم أن تهتم أميركا اللاتينية بالقضايا العربية ويجب أن نهتم بالقضايا الدولية.
اغتيال جده دفعه إلى ممارسة العمل السياسي
بطرس غالي: مفتر أم مفترى عليه؟
«إلى ذكر ى جدي بطرس غالي باشا. الذي ألهمني إخلاصه لمصر أن أتبع الطريق دون الالتفات إلى الوراء».
بهذه الكلمات أهدى د. بطرس غالي كتابه الأخير «طريق مصر إلى القدس».
هذا الإهداء هو حلقة متصلة في تاريخ عائلة غالي في الحياة السياسية المصرية وهو أيضا يعد اختيارا ذا دلالة من د. غالي الذي شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية في مصر أربعة عشر عاما.
فى مثل هذه الأيام من 1906 صدق بطرس غالي باشا على أحكام بالإعدام والسجن والجلد على عدد من الفلاحين المصريين اتهموا بالتسبب في موت أحد الضباط الإنجليز في الحادثة الشهيرة في تاريخ مصر والمعروفة باسم القرية التي وقعت فيها هذه الأحداث (دنشواي). كان رئيس المحكمة وقتها بطرس غالي باشا الذي أصبح رئيسا لوزراء مصر بعدها بسنوات قليلة، وأيضا اغتيل على يد صيدلي شاب اسمه إبراهيم الورداني، وكان من بين الأسباب التي ذكرت في ذلك الوقت ودفعت الورداني إلى اغتياله علاقته بالإنجليز وحادثة دنشواي. وإحياء لذكراه تبنت العائلة اسمه الأول (بطرس) بوصفه جزءا من اسمها، وبعد أكثر من عشر سنوات على اغتياله قرر والدا حفيد جديد له تسميته بطرس أيضا تكريما لذكراه. وكانت النتيجة بطرس بطرس غالي الذي أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة ودخل معركة دبلوماسية لا مثيل لها في تاريخ الدبلوماسية الدولية بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية.
الأسم المركب للدكتور غالي كان دائما مثار سخرية الكتاب الساخرين والكوميديين الأميركيين، لكن د. غالي الذي لم ير جده كان متأثرا به إلى حد كبير. يقول د. بطرس بطرس غالي حول هذه النقطة: «عندما كنت صبيا صغيرا بنت عائلتي كنيسة في القاهرة تكريما لذكرى جدي، وأطلق عليها اسم «البطرسية». كان قبره داخل الكنيسة وقد كتب عليه: (يشهد الله أنني خدمت بلدي قدر استطاعتي)...شعرت أنني يجب أن تكون لي مهنة سياسية، وأنني سأخون تراث عائلتي إن لم ألعب دورا سياسيا».
تأخر نسبيا ذلك الدور السياسي الذي أراد بطرس الحفيد أن يلعبه، فقد درس القانون وحصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من السوربون في باريس، وعاد عام 1949 ليدرّس في جامعة القاهرة، وبقي أستاذا للعلوم السياسية ثمانية وعشرين عاما رأس خلالها مجلة «السياسة الدولية»الفصلية، وحاضر في العديد من جامعات العالم.
بدأت الأيام الفاصلة في حياة أستاذ الجامعة د. غالي مع يوم الخامس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 1977 عندما أبلغ بنبأ اختياره وزيرا للدولة في وزارة ممدوح سالم وهو المنصب الذي يقول د. غالي إنه حاول الاعتذار عنه قائلا لسالم:«إن جميع القوانين الاشتراكية قد طبقت علي (...) إن ثروة زوجتي وضعت تحت الحراسة... وكذلك أفراد عائلتي. وعلى ذلك نحن لا نتمتع بسمعة سياسية طيبة لدى من قاموا بالثورة (...) إن قوانينكم جعلتني عدوا للشعب...».
وحسم سالم الأمر بأن السادات قد أصدر المرسوم بتشكيل الوزارة الجديدة بالفعل.
بعدها بثلاثة أسابيع في الثامن عشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، وبينما كان يعد الدكتور غالي في سرية الخطاب الذي كان مقررا أن يلقيه الرئيس السادات في الكنيست الإسرائيلي، اتصل به مكتب نائب رئيس الجمهورية وقتذاك حسني مبارك وأبلغه بقرار السادات تعيينه وزيرا للدولة للشؤون الخارجية وقائما بأعمال وزير الخارجية، الأمر الذي يعني أنه أصبح من الوفد المشارك في الزيارة الأولى إلى القدس التي أطلق عليها «مبادرة السلام»وذلك بعد استقالة إسماعيل فهمي وزير الخارجية وقتها، واعتبار محمد رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية مستقيلا من قبل الرئيس السادات.
«سوف تقتل كما ما قتل جدك»،هكذا كان يحذره أصدقاؤه، وقال بعض الكتاب في ذلك الوقت: «ليس هناك مسلم يقبل مصاحبة الرئيس، ولذا اختار المسيحي بطرس غالي المتزوج من يهودية». لكن ذلك لم يوقف غالي عن القبول بالتحدي، ويقول: «لم أتردد لحظة في قبول هذه المهمة، شعرت أنها واجبي الوطني، واجتذبني إليها أيضا ما فيها من تحد غير مألوف».
منذ ذلك الوقت أصبح غالي عنصرا فعالا في الدبلوماسية المصرية، وشارك في كل مراحل التفاوض مع إسرائيل، وفي معظم المؤتمرات الدولية وعرف عنه اهتمامه بالشؤون الأفريقية وشؤون أميركا اللاتينية حتى أطلق عليه لقب «بطرس الأفريقي»الأمر الذي أهله للقيام بالعديد من الوساطات في مشاكل أفريقية عدة. لكنه لم يتول منصب وزير الخارجية. عندما سألته إن كان يشعر بالمرارة لذلك قال إنه تعلم أنه لا وفاء في السياسة. ولم يخف غالي في مذكراته ضيقه لهذا السبب، فقد تم تعيين محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية، ثم جمع مصطفى خليل المنصب ذاته مع منصبه كرئيس للوزراء، ثم كمال حسن علي، ثم أتى عصمت عبد المجيد تلاه عمرو موسى. وظل غالي وزير دولة للشؤون الخارجية، لكنه عين نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الخارجية في 1991. وقبل نهاية عام كان قد انتخب أمينا عاما للأمم المتحدة وبدأ فصل جديد في حياة بطرس غالي.
بدأ بطرس غالي ولايته بإغضاب العرب عندما قدم تفسيرا لقرار 242 من أنه قرار غير ملزم، كان هذا أمرا مناسبا لبدء حملة جديدة عليه تذكر بكل تاريخه وعائلته. وانشغل في البداية بالترتيب الإداري والتنظيمي للمنظمة الدولية وقام بتقليص عدد الأمناء العامين المساعدين وتقليص عدد الموظفين لكنه فيما يبدو فقد الاهتمام بهذه المسائل الإدارية وانشغل بأمور أكثر حيوية وأهمية بالنسبة إلى الأمم المتحدة، وأمضي الكثير من الوقت في عمليات حفظ السلام وفرضه.
ويمكن القول إن حوالي نصف عمليات حفظ السلام في المنظمة الدولية تمت في عهد غالي، ففي بداية 1995 كانت الأمم المتحدة تقوم بسبع عشرة عملية حفظ سلام بمشاركه ثلاثة وسبعين ألفا من القوات وكلفة سنوية تصل إلى 3.6 مليار دولار بمعدل يزيد ثلاث مرات على كلفة موازنة الأمم المتحدة البالغة مليار دولار والتي تغطي النشاطات الأخرى.
هذا الدور الذي أراد غالي للأمم المتحدة أن تقوم به كان أحد الأسباب الهامة في صدامه مع العديد من الأطراف، حتى بدا الوضع في مرحلة من المراحل وكأن غالي قد كسب عداء كافة الأطراف الفاعلين على الساحة الدولية، فلا الكبار راضون ولا الصغار مرتاحون لما يحدث داخل المنظمة الدولية. وكان الصومال أحد محاور الخلاف الأساسية بين غالي والولايات المتحدة، عندما كانت هذه البلاد ممزقة بين الصراع القبلي والمجاعة اتهم غالي الغربيين بأنهم يركزون جهودهم على الحرب في البوسنة لأنها«حرب الرجل الغني»كما وصفها. وتدخلت الولايات المتحدة في الصومال بناء على توصية من الأمين العام، لكن كان مشهد الجندي الأميركي القتيل الذي يجره الصوماليون في شوارع مقديشيو والذي أثار الرأي العام الأميركي دافعا لاتهام الرئيس الأميركي بيل كلينتون لغالي بأنه ورطهم في وحل المشكلة الصومالية.
وكانت البوسنة الموضوع الآخر الذي لقي غالي نقدا عنيفا من الدول العربية والإسلامية، وأتهم بأنه كان مواليا للصرب وأنه تواطأ مع القوات الغربية لتمكين الصرب من الاستيلاء والسيطرة على معظم سراييفو، وأنه وقف حائلا أمام البوسنيين والسيطرة على المطار الدولي، وغيرها من التهم التي تصب في هذا المعنى. هذه الاتهامات ظل غالي ينفيها في كل مناسبة. وعندما سألته حول هذه الاتهامات أكد ارتياح ضميره لكل ما فعله، وتساءل: ألم تكن قيادة القوات الموجودة في البوسنة تابعة بشكل مباشر لقياداتها في دولها؟
معركة التجديد لغالي لفترة ثانية، حسب التقليد المتبع مع الأمناء العامين السابقين، كانت بالفعل فريدة في نوعها في تاريخ الدبلوماسية الدولية، ففيما بدا فإن العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية من طرف ود. غالي من طرف آخر قد وصلت إلى أسوأ مستوياتها، وكما وصفت إحدى الصحف في ذلك الوقت فإن الصراع كان بين رغبتين، الأولى في أن يلعب الأمين العام للأمم المتحدة دور الجنرال ودور رئيس حكومة عالمية وبين أن يقتصر دوره على «وظيفة»سكرتير. واضح بالطبع أين كانت تقف الأطراف المختلفة من هاتين الرغبتين.
خسر غالي معركة التجديد، وكسب كثيرا في تحسين صورته أمام دول العالم الثالث عندما بدا بطلا يواجه القوة العظمى في العالم المتمثلة فى أميركا، وبدا للحظة كأنهم قد نسوا انتقاداتهم المتعددة له في إدارة الأمم المتحدة، واتهامهم المتكرر له بأنه كان يعمل لصالح الدول الغربية ولكن في مسوح غير حقيقية من الاستقلال.
«أخطأ غالي مرتين الأولى عندما فكر أن يحدث انقلابا في المنظمة الدولية، والثاني عندما ظن أنه يستطيع أن يفعل ذلك». وهو وصف أحد الكتاب تلخيصا لحكاية غالي أكبر موظفي العالم الذي أراد أن يكون رئيسا للحكومة العالمية.