لندن: أصدر الدكتور محمد رياض العشيري كتابا بالإنجليزية بعنوان «أصوات تلاوة القرآن في مصر.. دراسة صوتية» وهو كتاب يندرج تحت علم الأصوات اللغوية، وهو العلم الذي يدرس أصوات اللغة- أي لغة كانت- وكيفية نطقها وصفات كل صوت وخصائصه منفردا وداخل الكلام، وتأثير بعض الأصوات في بعض خلال عملية الكلام.
وعلى الرغم من أن بحوثا عدّة أجريت سابقا على اللغة العربية الفصحى فإنّ الدراسة التي قدّمها الدكتور العشيري هي الأولى من نوعها، لأنها الدراسة الأولى التي تبحث في علم الأصوات العربية المغناة، كذلك توصلت الدراسة إلى سمات صوتية مشتركة بين مغني الأوبرا المحترفين في الغرب وقراء القرآن المحترفين في مصر.
والدكتور محمد رياض العشيري كان محاضرا لعلم اللغة في جامعة عين شمس ومحاضرا للغة العربية في جامعة برمنغهام البريطانية، وله العديد من المؤلفات، كما شارك في عدد من المؤتمرات اللغوية ببعض أبحاثه... وللحديث أكثر عن دراسته الأخيرة حول أصوات تلاوة القرآن الكريم كان هذا الحوار معه لـ«المجلة»:
* بداية، ما الذي يميّز هذه الدراسة؟
- ما يميز هذه الدراسة أنها من أوائل الدراسات في علم الأصوات المغناة، وربما كانت الأولى التي تتم في هذا العلم في جامعة أوروبية تحت إشراف أستاذة بريطانية في علم الأصوات.
* لماذا اخترت أن تجري الدراسة على مادة حية وليست مسجلة مسبقا؟
- القياسات التي تتم خلال الدراسات الصوتية من هذا النوع يصعب إجراؤها على مادة مسجلة، بل يجب أن تجرى على المؤدين أنفسهم، سواء كانوا مغنين أم قراء قرآن كريم، وهم يغنون بالفعل- أو يتلون مادتهم- ويرجع السبب في ذلك إلى أن هناك تسجيلين يتمان في نفس الوقت. أحدهما التسجيل الصوتي العادي بواسطة مايكروفون، أما الآخر فهو تسجيل لذبذبة الوترين الصوتيين داخل الحنجرة خلال الغناء أو التلاوة قبل انتقال صوت الذبذبة إلى خارج الحنجرة. ويتم هذا التسجيل بوضع قطعتين من النحاس موصولتين بسلكين يحملان الصوت إلى جهاز التسجيل.
* ما المعايير التي على أساسها تمّ اختيار القراء الذين شاركوا في هذه الدراسة؟
- اخترت القراء الذين أجريت عليهم الدراسة، أولا على أساس الاحتراف. فاخترت ثلاثة من القراء المصريين المحترفين الذين يقرأون في الإذاعة المصرية، وإلى جانب هؤلاء اخترت قراء آخرين، أربعة غير محترفين، أي لا يؤدون القراءة أمام جمهور، مثل المجموعة الأولى، لكنهم يتقنون قواعد التجويد، وهم أيضا مصريون. والسبب هو دراسة أثر الاحتراف أمام جمهور في الأداء الصوتي.
* ولماذا اخترت دراسة المدرسة المصرية فقط؟
- اخترت المدرسة المصرية في التلاوة لسبب عملي بسيط، وهو وجود عدد من القراء المحترفين في لندن، حيث كنت أدرس في جامعة لندن، كل عام خلال شهر رمضان، وكانت تلك فرصة لأن الدراسة تمت في المعمل الصوتي بجامعة لندن، وما كنت أستطيع توفير المعدات والآلات الموجودة فيه في أي مكان آخر.
* ما الاختلاف بين المدرسة المصرية لتلاوة القرآن والمدارس الأخرى؟
- مدارس تلاوة القرآن الكريم في العالم العربي والإسلامي تختلف أولا باختلاف الموروث الموسيقي في كل بلد، إذ يتأثر القراء بهذا الموروث في أدائهم. وأوضح مثال لهذا القراء السودانيون، الذين تلحظ في تلاوتهم نغمات السلم الموسيقي الخماسي الشائع في السودان. هناك أيضا عامل آخر، وهو العامل الديني. ففي السعودية مثلا كانت تحرم التلاوة بالنغمات والمقامات الموسيقية، وهذا اختلاف يفرق بين المدرسة السعودية ونظيرتها المصرية، التي يقرأ فيها القراء بحسب المقامات الموسيقية.
ثم هناك أيضا فروق صوتية من بلد إلى بلد، في نطق الأصوات العربية، وهذه الفروق ربما لا يلحظها الإنسان العادي، ولكن يدركها المتخصصون في علم الأصوات. وتظهر بعض ملامح هذه الفروق في التلاوة.
* كيف تمّ اختيار المادة أو الآيات القرآنية التي تمت عليها الدراسة، ولماذا؟
- العامل الأساسي في اختيار السور التي طُلب من القراء تلاوتها هو تمثيل أكبر عدد من قواعد التجويد التي يجب على القارئ تطبيقها فيها، خاصة ظاهرة المد بأنواعه المختلفة، وهي التي خصصت لها فصلا كبيرا في الدراسة.
* اعتمد الكتاب على ظاهرتين: طبقات الصوت في أسلوب التجويد، ومد الحركات الصوتية الطويلة «(أ)، (و)، (ي)» في التجويد والترتيل. ولكن لماذا خصصت هاتين الظاهرتين بالتناول والتحليل المفصل؟
- كان اختيار ظاهرتي «طبقات الصوت»، و«أصوات المد» مبنيا على ما لاحظته في كتب التجويد، والدراسات الصوتية السابقة. ففي كتب التجويد يركز العلماء على مخارج الأصوات المفردة، وصفاتها، وما يلحقها من تغيرات صوتية عند تقاربها أو إدغامها في الكلمة المفردة. وخلت كتب التجويد من أي ذكر لظاهرة طبقات الصوت، التي نلحظ اختلافها خلال التلاوة في الأسلوب الذي يعرف بالمجوّد. ولهذا قررت دراستها بإسهاب.
أما ظاهرة أصوات المد، فكان اختياري لها للدرس بعمق، هو تركيز كتب التجويد والدراسات الصوتية التي تمت على العربية على الأصوات الساكنة، فرأيت أن أعطي الحركات ما كانت تستحقه في دراستي.
* ما النتائج التي توصلت إليها الدراسة؟
- الدراسة توصلت إلى عدد من النتائج، يتعلق بعضها بتأثير الاحتراف. فالقراء المحترفون يتسم أداؤهم- كما بينت القياسات في الدراسة- بالاتساق، فأطوال الأصوات لديهم متماثلة، بينما كانت تلك الأطوال لدى غير المحترفين متفاوتة كثيراً.
ويتعلق بعضها الآخر بالفروق بين أسلوبي الترتيل والتجويد، فيما يعرف بـ«سرعة الأداء»، و«الوقف». فسرعة الأداء في المجود أبطأ منها في المرتل، ومدة الوقف في المرتل أقصر منها في المجود.
وتعد الدراسة واحدة من الدراسات القليلة المنشورة في الغرب التي تشرح للقارئ الغربي طريقة تنشئة وإعداد قراء القرآن دينيا من حيث حفظ القرآن الكريم وطريقة كل منهم في مراجعته، وموسيقيا من حيث تعلم أصول النغم والمقامات الموسيقية، والمتون التي ينبغي عليهم دراستها لمعرفة قواعد تجويد القرآن الكريم.
* ما الفروقات بين طبقات الصوت للمحترفين وغير المحترفين؟
- لدى المحترفين من القراء قدرة صوتية وسعة في الأداء تمكنهم من استخدام ثلاث طبقات صوتية: طبقة القرار (وهي أقل الطبقات حدة من الناحية الصوتية) وطبقة الجواب (وهي أكثر الطبقات حدة صوتيا) والطبقة الطبيعية (وهي طبقة متوسطة تستخدم غالبا في الكلام العادي).
* توصلت الدراسة إلى أن هناك سمات صوتية مشتركة بين مغني الأوبرا المحترفين في الغرب وقراء القرآن المحترفين في مصر، فما هذه السمات المشتركة وما الفروق بين الاثنين؟
- قارنت الدراسة أيضا ظاهرة طبقات الصوت بين الثقافة العربية، ممثلة في تلاوة القرآن كما يؤديها المحترفون، والثقافة الغربية ممثلة في الغناء الأوبرالي.
ووجدت أن كلا من القراء المحترفين في الثقافة العربية ومغني الأوبرا في الثقافة الغربية يتمتعون بميزة صوتية متقاربة تظهر في رسوم التحليل الصوتي على الكمبيوتر. ولكن هذه الميزة يفتقر إليها غير المحترفين في الثقافتين.
وهذه الميزة- التي تظهر في قدرة القارئ أو المغني على إسماع معظم أفراد الجمهور مهما كان موقعهم في قاعة الحفل- ترجع إلى عنصر التدريب الذي يتوفر لدى المحترفين فقط.
وتوصلت أيضا إلى أن طبقة الجواب في التلاوة القرآنية لدى المحترفين- رغم ارتفاع حدتها صوتيا، أي زيادة عدد الذبذبات في الثانية- أقل درجة من حيث عدد الذبذبات من نظيرتها لدى المحترفين من مغني الأوبرا في الغرب. لكن القراء ومغني الأوبرا جميعا يتفقون في طبقة القرار.
كما توصلت إلى أن طريقة قراء القرآن الكريم المحترفين في نطق الأصوات تتميز بضيق نسبي في مجرى الهواء في منطقة الحنجرة، بينما تتسم طريقة مغني الأوبرا في إخراج الأصوات بنوع من «الهسيس» بحيث يشبه الباحثون أصوات مغني الأوبرا خلال أدائهم بصوت الناي.
وأظهرت دراستي أن هناك قيودا تحد من قدرة قراء القرآن في الثقافة العربية على الحركة خلال أدائهم لأصوات المد، والمدود التي تستحقها. وهذا على عكس الحرية التي يتمتع بها فيما يتعلق بظاهرة طبقات الصوت.
فالقارئ في تطويل الحركات مقيد بقواعد اللغة العربية وقواعد تجويد القرآن. صحيح أن تطويل أصوات المد يعطي القارئ الفرصة لإظهار إبداعه الصوتي في أسلوب التجويد؛ إذ إن مجرى الهواء منفتح، لكن إمكانية تطويل أصوات المد محدودة بالحاجة إلى الحفاظ أولا على الفرق بين الحركات القصيرة والحركات الطويلة من ناحية، ومحدودة أيضا بقواعد التجويد التي تسن لكل حركة طولا معينا بحسب الأصوات المجاورة لها.
ولاحظت أيضا ميل القراء جميعا في أسلوب الترتيل (إلى حد كبير) وأسلوب التجويد (إلى حد ما) إلى استخدام القصر (أو الدرجة الأقل المسموح بها) في تطويل صوت المد إذا وقع في نهاية كلمة قبل الهمزة في بداية الكلمة التالية بدلا من درجة التطويل الأخرى المستحبة. ويعلل ذلك بحاجة القارئ إلى تفادي الجهد الذي قد يفضي إلى تعبه خلال جلسة القراءة.
* ما الجديد الذي قدّمته هذه الدراسة عن الثقافة العربية؟
- كانت الدراسة فعلا فرصة لتقديم فن تلاوة القرآن الكريم في الثقافة العربية للقارئ الغربي. وكم كان رد فعل جمهور الباحثين حماسيا عندما حضرت مؤتمرا للباحثين في مجال علم الأصوات والموسيقى والأوبرا وقدمت فيه بحثا عن أصوات «الغنة» في تلاوة القرآن، وأتحت لهم الفرصة للاستماع إلى نماذج من التلاوة.
فقد كانت تلك ربما المرة الأولى لبعضهم للاستماع إلى تلك النماذج من التلاوة، والاستماع أيضا إلى باحث يخاطبهم بلغتهم ومصطلحاتهم.
* البعض ربط أهمية هذه الدراسة في ظل تراجع المدرسة المصرية في تلاوة القرآن، ما رأيك؟
- خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بدأت ظاهرة عرفت بـ«الصحوة الدينية»، وخلال تلك الفترة توجه كثير من المصريين إلى السعودية، ودرس بعضهم على أيدي علمائها، وتأثر كثير منهم بهؤلاء العلماء، وبقراء المملكة. وأخذت أشرطة تسجيل قراء الحرم تنتشر في مصر، وأخذ أئمة المساجد يقلدون الطريقة السعودية في التلاوة، التي لا يشيع فيها أسلوب التجويد، بل أسلوب الترتيل. لأن قراءها يعتقدون أنه يتماشى وطريقة التلاوة الشرعية، لأنه لا تغني فيه. ومن هنا بدأت المدرسة المصرية، المعروفة بأسلوب التجويد وبكثير من أعلامه، في الخفوت إلى حد ما.
وربما كان هذا دافعا لي إلى العكوف على دراستي وتحليل تلاوة بعض أعلام المدرسة المصرية تحليلا صوتيا.