يتعايش السوريون اليوم مع الحالة الاقتصادية السيئة في سوريا، كما تعايشوا مع كثير من الحالات المفاجئة التي طرأت على حياتهم، وراحوا يبتكرون طرقاً جديدة للتأقلم مع واقعهم الجديد، مؤكدين بذلك أن التأقلم مع المتغيرات اليومية صار أسلوب حياة.
يحمل رمضان 2021 الكثير من المتغيرات: التفكك العائلي عند البعض، وانعدام للتجمعات العائلية والولائم، وغلاء معيشي جماعي قارس، لا يخلو من الصيحات لحل الأزمة الاقتصادية المستعصية، فالأسعار ارتفعت 6 أضعاف عما كانت عليه عام 2020، دون أي علامات للتحسن، سوى رفع رسوم التحويلات المالية القادمة للعوائل في الداخل السوري.
هل كسرت سفرة السوري؟
يشير مصطلح «كسر السفرة» إلى تعبير شامي هو «كسر الصفرة»، وتعني إزالة الصفرة، أي كسر حموضة المعدة، بمعنى إدخال شيء إليها من الطعام قبل العمل أو الخروج من المنزل، كما أن المعنى باللغة الإنجليزية يعني قطع الصوم، وهو بحسب معجم أكسفورد يعني الوجبة الأولى التي يتناولها الإنسان بعد عشاء ليلته السابقة.
يشير مصطلح «كسر السفرة» إلى تعبير شامي هو «كسر الصفرة»، وتعني إزالة الصفرة، أي كسر حموضة المعدة، بمعنى إدخال شيء إليها من الطعام قبل العمل أو الخروج من المنزل
القاسم المشترك ما بين المعنى والواقع السوري هو الكسر، سواء في القدرة المالية لشراء الحاجات اللازمة لفطار شهر رمضان، أو لكسر بعض المقادير أو إنقاصها لتكون النتيجة هي التأقلم مع الظرف الجديد.
تشتاق السيدة عفاف المصري، لرمضانها المتخيل كما في صغرها، تجلس مع أسرتها على الشرفة وجميعهم يتناولون الفطار ثم يشاهدون الفوازير ومن بعدها يصلون التراويح، وتمتاز الجلسات ببعض الدعابات والروحانيات وجمعة العائلة، والتي تفتقدها بشدة في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها.
وعما ينقص السفرة الرمضانية، تقول عفاف أن سفرتها لم تنكسر حتى في رمضان2021 لأن القدرة الشرائية بالنسبة لزوجها جيدة، ويستطيعون الحصول على ما يريدون من مواد أولية للطبخ، وتبين أنها لم تعتد إعداد أكثر من صنف في اليوم الواحد بل تخصص طبقا رئيسيا ومعه التمر والمقبلات بحيث تكون كافية لأفراد أسرتها.
وتتابع أم غنى، بأن الإسراف في الأطعمة حرام ولا يجوز، وتفسر أن كثرة الأصناف على موائد السوريين في السابق متعلقة بحجم الطبخة التي تعدها سيدة الأسرة حيث كانت كبيرة ومن ثم توزع «سكبة» للجيران أو للأقارب، وذلك بعكس ما يعتقد البعض بأنه يجب على الأسرة طبخ أكثر من صنف، وما يفتقد خلال هذه المرحلة هو أن الحجم يكون ملائما لأفراد الأسرة ومن دون توزيع «سكب».
فيما ترى علياء تقي الدين، من سكان مدينة حمص، أن الحالة برمتها مكسورة فما بال السفرة، والوضع المعيشي ارتفع كثيرا معتبرة إياه الأقصى منذ بداية الحرب السورية، كذلك المعارك والقذائف لم يكن لها التأثير الكبير حيث كان هناك سد منيع ضد الجوع.
تحولت معظم العائلات السورية، للنظام النباتي بقرار إجباري لا طوعي، وتم الاستغناء عن اللحوم لغلاء سعرها، في حين تطبخ بعض السيدات إن دعت الحاجة وتوفر المال لشراء الدجاج كبديل في الأطباق، كما راحت بعضهن لشراء اللحم النباتي المغلف كنوع من التغيير.
تقول علياء إن النقص الحقيقي لا يقتصر على مادة دون غيرها، بل على المكونات أيضا، وبالإجبار، تبعاً لسعر الخضراوات في السوق، فتشتري البندورة (الطماطم) أكثر، في حال كان الخيار أغلى، وهكذا. لذلك لا يمكن القول إنه تم القضاء على طبق بشكل نهائي بل على بعض مكوناته.
3500 ليرة تكلفة وجبة مسكين
نتيجة للوضع الاقتصادي المتردي أجازت وزارة الأوقاف السورية دفع الزكاة لعامين، وقدرت أن تكلفة وجبة إطعام المسكين أو المحتاج تصل إلى 3500 ليرة، تحتوي على القيمة الغذائية للفرد خلال اليوم، متضمنة حبات من التمر وصحنا من الأرز مع البازلاء أو الفول والقليل من اللحم إن وجدت مع صحن صغير يحوي الفتوش أو السلطة وكأس عصير تمرهندي أو عرقسوس.
مهران يوسف صحافي سوري يعيش في حلب، يبين أن أكثر ما يفتقد على موائد السوريين هو الوفرة والتنوع، حيث يوضع طبق واحد مع مشروب واحد وصحن سلطة وفي بعض الأحيان قطع من الحلوى.
يبين مهران أن تكلفة الوجبة التي أعلن عنها، يمكن اعتبارها الحد الأدنى من التكاليف، حيث إن متوسط التكلفة لفطار يوم واحد، تصل إلى 15 ألف ليرة سورية بلا حلويات، وهنا يشير إلى البركة المفقودة لدى أهل الشام الذين يعرفون قيمتها، فما رأي الناس اليوم بأن البركة فقدت ليس فقط بالحياة بل وصلت اليوم لطعامهم وشرابهم.
الدلال في الطعام يعتبر من علامات الشهر الفضيل بحسب تعبير يوسف، فغالبا ما يتمثل في دلال رب الأسرة بشراء الحلويات، لكن اليوم مع الوضع الاقتصادي السيئ فإن الحلوى هي الأغلى ثمناً حتى الرخيص منها سعره غالٍ.
وبعد كل هذا الفقدان يأتي الإعلان بأن تكلفة الوجبة اليوم والتي يجب على الناس دفعها للمحتاجين 3500 وهذا السعر نحو نصف راتب الموظف، وعلى هذا الحال فإن الجميع أصبحوا محتاجين.
حلم طفلة في رمضان
غنى (16 عاماً) تقول: «أسمع الكثير من أحاديث الكبار عن رمضان في السنوات السابقة وقبل الحرب حتى، هنالك الكثير من التفاصيل التي عاشوها من زيارات للعائلة وجمعة العائلة الكبيرة، الموائد والمأكولات الشهية والتنوع الذي يملأ الطاولة... في عام 2011 كان عمري سبع سنوات، لم أكن أعي الكثير من التفاصيل، لكني صُمت أول مرة عندما كان عمري 10 سنوات، وكان الجو حاراً، وتعمدت أن أكون مثل إخوتي صبورة ومتحملة للعطش».
تتابع ببراءة: «لا يمكن القول إنني افتقدت المأكولات الرمضانية لأني لم أواكب جلّها، بل يمكن القول إن رمضان يحمل معه مأكولات لا توجد على السفرة عندنا في الأوقات العادية، وسميّت بعضها بأطعمة رمضان، والتي غالبا تحتاج للكثير من الجهد والوقت، الأمر الذي يكون سهلا بالنسبة لأمي في هذا الشهر عن غيره من أشهر السنة».
تحولت معظم العائلات السورية، للنظام النباتي بقرار إجباري لا طوعي، وتم الاستغناء عن اللحوم لغلاء سعرها
ما يميز رمضان بالنسبة لغنى، هو التنوع في المشروبات والعصائر والحلويات، والتي تأتي بعد الفطار، وهذا ما تفتقده هذه السنة، بسبب غلاء العصائر الصناعية والطبيعية، فأصبحت تتناول صنفاً واحدا عوضا عن صنفين أو ثلاثة في اليوم الواحد.
رمضان له روتين ونظام خاص، هو ما وصفته غنى، ويتبع بلمة الأهل في يومي الخميس والجمعة عند الوالدين، لكن الروتين تغير بالنسبة لها هذه السنة بسبب ندرة البنزين، حيث خصصت السيارة لعمل أبيها لا للتنقل والنزهة، إضافة لوسائل النقل المفقودة في غالب الأحيان ما يصعب عليها وأمها، الذهاب للسوق مساءً أو لمكان الاستجمام.
إلغاء نظام «العزومة»... الطبخة لا تتسع للجميع
لا تخلو ردود مجد تكريتي من بعض الدعابات، وخاصة في المواضيع الحساسة التي لا تقبل المزاح، مبرراً طريقته على أنها نوع من التفريغ للشحنات السلبية التي يتعرض لها منذ أن يستيقظ وحتى وصوله للمنزل.
يقول إن الأُسر اليوم أصبحت تقوم بعزومة فطار وعندما يؤذن المغرب يعطونك الماء و٣ حبات تمر وكل حبة تشبه الليمونة بكبر حجمها، وعندما تريد أن تسكب من الطبق الرئيسي تجد أن هناك كأسا من العصير يصل لفاهك قبل اللقمة تترافق مع «صلي على النبي»، وكل هذا من باب التقاليد.
يتابع التكريتي: يحاول الضيف مرارا أن يسكب من الطبق الرئيسي ليفاجأ في كل مرة بنوع من المقبلات «فتوش- شوربة» وعلى قولة: «أمانة لا تخجل»، و«تذوق واستفد وتغذى»، وكل ذلك في سبيل ملء البطن والخواصر.
مبالغة مجد في وصف العزومة، تأتي كنوع من الدعابة، ليقول إن موائد السوريين ليس عليها ما يكفي للمة العائلة الكبيرة، بسبب تراجع القدرة الشرائية للمواطن، وضعف دخله الشهري، لا سيما وأن العزائم عند سكان هذه المنطقة يجب أن «تُرد» أي إن الضيف يتوجب عليه عزومة مضيفيه، كنوع من الواجب
الجوع ليس سورياً
عدة مبادرات عن إعداد الطعام وإيصاله للمحتاجين انطلقت منذ عام 2012 كنوع من المساندة للمحتاجين أو المهجرين نتيجة الصراع.
وتعمل هذه المبادرات على إعداد السحور ببعض الشطائر من الجبنة أو اللبن الرائب، كذلك الفطار بوجبة تحتوي على الأرز أو البرغل مع اللحمة الناعمة والفول أو البازلاء يضاف إليها صحن من السلطة أو اللبن في بعض الأوقات على حسب المتوفر والمتبرعين.
وتبعا للظروف، هنالك بعض المطابخ أغلقت في حين تستمر غيرها في الخدمة، لا سيما الظرف الاقتصادي المتردي هذا العام، وتوزع هذه الوجبات عبر متطوعين شباب لمنازل عائلات مسجلة في قوائم لدى الجمعيات الخيرية أو في مطابخ بعينها، حتى إن الفائض يتم توزيعه على المارة من المحتاجين.
يقول أحد القائمين على المطابخ إن الوضع المعيشي اليوم في سوريا صعب للغاية، لذلك قمنا قبل شهر بتجهيز المطبخ وجمع التبرعات والتعاون مع المجتمع المحلي لخدمة عائلات أكثر، سيما وأن هنالك العديد من الناس الذين يتعففون عن السؤال.
ويتابع: «السوري لا يجوع مهما اشتدت الظروف، (أهل الخير كثر)، التبرعات زادت الضعف تقريبا، ومنها جاء من مغتربين عن طريق أصدقاء لهم أو حوالات مالية، وتحديدا الأخيرة التي تزامنت مع رفع سعر الحوالات لـ3150 ليرة».
«لا فائدة نحصل عليها»، يقول القائم على المطبخ، «كل ما نسعى له هو المحبة وأن نقف إلى جانب بعضنا، والحرب علمتنا كثيراً، فلا فائدة ترجى إلا من السوريين أنفسهم».
المائدة السورية والنقص الإضافي
علي السوري- كما يحب أن يصف نفسه- يقول: «إن النقص الحقيقي الذي يواجه الغالبية الساحقة في سوريا، هو الخدمات وتحديدا الكهرباء والوقود، ووصل حد الاعتياد أيضاً، حيث إن المواطن السوري يستطيع تدبر أمره مهما اشتدت الظروف».
ويتابع: «في بداية الشهر الفضيل لم تعرف ساعات انقطاع التيار الكهربائي على وجه الدقة، ثم أخذت بالتحسن مع الأيام التالية، لكن أكثر ما يستفز هو الانقطاع عند الآذان، فترى العديد من العائلات تفطر على ضوء الشموع وذلك مع غلاء سعر البطاريات واللدات (شرائط للإنارة تعلق على الحائط)».
الحديث خلال السنوات الماضية كان يدور عن افتقاد الروحانية الرمضانية بسبب التلفاز، ثم بسبب الأجهزة الذكية، إلا أن الطابع اليوم راح للسفرة التي كسرها الغلاء
ومن جهتها، تقول هناء خولي (سيدة منزل44 عاماً): «تأتينا الكهرباء عند الأذان، وتقطع قبلها بـ4 ساعات، فماذا أفعل وكيف أعد الطعام؟». الأمر الذي دفعها لتعد وجبة الإفطار صباحاً، كي تؤمن سفرتها، وباتت متأقلمة مع مجيء التيار، فإذا انقطعت صباحا طبخت قبل الفطار والعكس صحيح.
في حين أن زوج هناء فارس، لا يكترث للكهرباء سوى لشحن هاتفه كي يستطيع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لكن أكثر ما يشغل تفكيره هو موعد الرسالة النصية لاستلام مخصصاته من البنزين.
يعمل فارس على تاكسي، همّه أن يؤمن قوت عائلته ولو بالقليل، لذلك فإن عدم وصول رسالة البنزين يعني توقفه عن العمل، ويبين أن آلية التعبئة الجديدة التي صدرت عن الحكومة منذ ثلاثة أسابيع جيدة إن بقيت على الورق، أما التنفيذ فحدث ولا حرج.
ويتابع: «استفدنا من النظام الجديد بعدم بقائنا ساعات على دور محطة الوقود، وضبط دخول للنافذين أو دافعي الـ10 آلاف ليرة بعكس الدور، ربما لو ضبطت الأخيرة بلا نظام الرسائل لكان الوضع قد تحسن على الفور.
وحول الآلية يبين أنه مع الأيام سيتحسن الوضع وتنظم العملية أكثر، حيث إن التطبيق بلا تجربة يكون سيئا في بدايته ثم يجد له طريقا نحو النجاح بعد وفرة المادة!
الحديث خلال السنوات الماضية كان يدور عن طابع الروحانية الرمضانية المفقودة مع التقدم التكنولوجي، حيث كان الوقت الأكبر للتلفاز، ليصبح بعد سنوات مترافقا مع الأجهزة الذكية، إلا أن الطابع اليوم راح للسفرة التي كسرها الغلاء والفقدان.