في خطوة غير مألوفة، قرر الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن الإعلان عن ملامح السياسة الخارجية لإدارته من مقر وزارة الخارجية. كان واضحا أنه سعى بذلك إلى إعادة الاعتبار للآلة الدبلوماسية والرفع مجددا من كرامتها التي همشها الرئيس السابق دونالد ترامب، وإلى التأكيد على أولوية التحركات الدبلوماسية وما تتطلبه من سرية ونفس طويل ضمن أدوات السياسة الخارجية الأميركية بدلا من غطرسة التهديد بالقوة من أول وهلة.
لم يسعف هذا الإخراج الشكلي الرئيس بايدن في إخفاء جوهر الأهداف الحقيقية لإدارته، المتمثلة في استعادة الدور الأميركي القيادي في العالم، وما يتطلبه من ضرورة إعادة بناء تحالفات واشنطن عبر القارات على أساس ما يخدم مصالحها الاقتصادية والتجارية والمالية والعسكرية، وما يوسع من دائرة إشعاع ما تسميه «القيم الأميركية التقليدية»، التي لخصها في السعي إلى تعزيز الممارسة الديمقراطية، وضمان حقوق الإنسان. تلك القيم التي يقول إن الإدارة السابقة أهملتها في تعاملاتها الدولية.
ورغم أن الخطاب لم يتناول كل القضايا الكونية السياسية والاستراتيجية والاقتصادية التي تستقطب اهتمام الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه خلف ردود فعل متباينة. فقد كان مبعث اطمئنان لجهات، ومثار ريبة وتوجس لأخرى، فيما لم تتوان قوى دولية عن انتقاده ومهاجمته، واعتباره ذا نبرة عدائية كما وصفته موسكو.
وقد سجلت في العالم العربي كغيره من بقاع العالم ردود الفعل الثلاثة إزاء هذا الخطاب. فإذا كانت التنظيمات الإرهابية والمتشددة قد اعتبرته عدائيا، فإن مواقف الأنظمة الرسمية وبعض التنظيمات السياسية تراوحت بين الترحيب والتوجس حسب المواضيع التي أثارها وتلك التي تعمد عدم إثارتها رغم أهميتها.
لقد كان لافتا للانتباه أن الرئيس الأميركي تحاشى عند تعرضه لقضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الحديث عن ملفات مهمة مثل عملية السلام في الشرق الأوسط، والوضع المتردي في سوريا، والبرنامج النووي الإيراني مع أنها أكثر الملفات حضورا في أروقة وكواليس المؤسسات الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية.
كان الرئيس منطقيا مع نفسه، فهو أكثر الناس دراية في إدارته بأن صعوبات وتعقيدات هذه الملفات الثلاثة هي التي تخدم جوهر الاستراتيجية الأميركية المتبلورة منذ الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بعيدا عن المناكفات الانتخابية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. تلك الاستراتيجية القائمة على ضرورة ترسيخ عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإذكاء الخلافات بين مكوناتها مع الحيلولة دون انفجار شامل لنزاعاتها، وذلك بغية:
- استنزاف كل دول المنطقة وإرهاقها.
- استقطاب كل المتشددين والإرهابيين إلى مناطق الصراع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واستنزافهم من خلال تأجيج الاقتتال بينهم على أسس دينية ومذهبية أو عرقية.
- الحفاظ على دور واشنطن كمرجع محوري في كل صراعات المنطقة، مرجع يلجأ إليه الجميع بشكل مباشر أو غير مباشر رغم عدم حياديته، وميله بين الفينة والأخرى إلى هذا الطرف أو ذاك باستثناء إسرائيل.
- في المقابل استحوذت الأزمة اليمنية على الحيز الأكبر من تناول الرئيس الأميركي لقضايا العالم العربي. وكان اختيارها سليما بالنسبة إليه لأنها:
* الأولى بالتأجيج أكثر الآن، لأنها عمليا الأقرب للحل بسرعة من بين كل قضايا المنطقة متى ما خلصت نوايا الطرف الحوثي، وفكر مليا في تجنيب الشعب اليمني المزيد من المآسي الإنسانية، خصوصا وأنها أزمة لا تستقطب تدخلات دولية أو إقليمية كبيرة ومتشابكة.
* الأنسب لاستخدامها كمنصة يمكن من خلالها توجيه العديد من الرسائل إلى المتدخلين في الأزمة اليمنية.
ورغم ذلك فإن الرياض تجاوبت إيجابيا مع خطابه مؤكدة تطلعها للعمل مع الإدارة الأميركية للوصول إلى حل سياسي شامل في اليمن، عكس إيران التي قابلت بالرفض كل مبادراته المتعلقة بملفها النووي وبالوضع في اليمن، ومع ذلك كافأها بالإعلان عن استبعاد الخيار العسكري في معالجة الملف النووي، وبرفع الحركة الحوثية من قائمة التنظيمات الإرهابية.
إن هذا التناقض بين الموقف السلمي للمملكة، والمواقف المتعنتة لكل من طهران وأذنابها في اليمن هو ما تبحث إدارة الرئيس بايدن عن إبرازه وتغذية عوامل توتره، فهذه الإدارة لا يهمها من المنطقة سوى تأمين تدفق النفط والتحكم في أسعاره، ومنع إغلاق مصانع الأسلحة الأميركية لأبوابها.