بيروت: في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 أعلن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري التوصل إلى «اتفاق إطاري»لإطلاق المفاوضات بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية. ومنذ ذلك الحين، عقد الطرفان أربع جولات تفاوض من خلال اجتماع ممثلين عن الطرفين في قاعدة للأمم المتحدة. إلا أن هذا المسار توقف بعد الخلاف حول النقطة التي ستنطلق منها عملية الترسيم والتي من شأنها أن تزيد أو تُقلص مساحات بحرية شاسعة لكلا الطرفين.
وفي ظل سعي الولايات المتحدة للتواصل مع الطرفين بغية الوصول إلى حل لهذه المشكلة، جاء المرسوم 6433 الصادر عام 2001 لدعم موقف الوفد العسكري في المفاوضات، والقاضي بتعيين«حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية»ليُشعل الخلاف الداخلي بين الأطراف اللبنانية، حيث امتنع الرئيس ميشال عون عن توقيعه حتى يحظى بموافقة الحكومة، مستندا إلى رأي هيئة التشريع والاستشارات بضرورة أن يتخذ مجلس الوزراء القرار مجتمعاً.
موقف عون جاء بعد توقيع رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، ووزيرة الدفاع زينة عكر، ووزير الأشغال ميشال نجار، على المرسوم، حيث ربط الثلاثة توقيعاتهم بتصويت مجلس الوزراء عليه. في حين أن مسألة عقد جلسة لمجلس الوزراء للبت في هذا المرسوم تصطدم بموقف دياب الرافض لاجتماع الحكومة المستقيلة.
إذن شهد لبنان في الأيام الماضية موجة جديدة من التراشق الإعلامي والسياسي وتبادل التهم بين مكوناته، على أثر ملفي ترسيم الحدود البحرية جنوبا مع إسرائيل، وشمالا مع سوريا، فالسلطة السياسية المتأخرة دائما في القيام بواجباتها لم توقع حتى اليوم تعديل المرسوم، قبل شروع إسرائيل بعملية استخراج النفط والغاز من حقل كاريش المتداخل مع الحوض اللبناني، والذي يقع قسم كبير منه في المنطقة المتنازع عليها.
ومؤخراً أثيرت مسألة ترسيم الحدود البحرية شمالاً مع سوريا، ليتبين أن لبنان رسّم الحدود مع سوريا بموجب المرسوم ذاته (أي 6433)، الذي يشمل الحدود الجنوبية مع إسرائيل والحدود الشمالية مع سوريا والحدود الغربية مع قبرص، واعتمد في الترسيم مع سوريا خط الوسط مع إعطاء تأثير كلي لجزر الرامكين مقابل طرابلس ولجزر أرواد مقابل طرطوس، وهذا ما اعترض عليه الجانب السوري في العام 2014 وتضمن الاعتراض ما خلاصته أن الترسيم اللبناني من جانب واحد ولا يعني الجانب السوري ولا يلزمه بشيء.
أهمية المرسوم
قرار عون «غير المتوقع»جاء بعد تردد وزير الأشغال العامة والنقل، ميشال نجار، ليحسم أمره بالتوقيع، وإحالته إلى وزيرة الدفاع زينة عكر التي قامت بدورها بالتوقيع، ومن ثم جاء توقيع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ليتبقى التوقيع الأخير بيد رئيس الجمهورية. وتوقيع المرسوم وإيداعه لدى الأمم المتحدة، يفترض أن يعزز موقع لبنان التفاوضي عل حدوده البحرية. وتكمن أهمية هذا المرسوم في تثبيته لحق لبنان في البحر على مساحة تصل إلى 2290 كلم مربع، بدلاً من 860 كلم مربع. ويعني أن انطلاق خط التفاوض مع إسرائيل يبدأ من النقطة 29 بدلاً من النقطة 23، التي كانت أدرجت في المرسوم الذي أقر في العام 2011.
عون يُريد ثمناً سياسياً مقابل موقفه
امام هذه الوقائع جاءت زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية السفير ديفيد هيل إلى لبنان لتعطي صورة أوضح عن هذا الملف. وفي هذا الصدد، يؤكد المحلل السياسي منير الربيع في حديث لـ«المجلة»أن «أسباب عدم توقيع المرسوم من قبل عون تعود إلى إرادته بالقول للجميع إنه يُمسك بمفاصل هذا الملف، وإنه هو من يتولى التفاوض». وأضاف الربيع: «عون أجبر الوزراء على توقيع المرسوم من خلال حملة سياسية، في حين أنه امتنع عن ذلك من أجل فتح بازار سياسي مع الولايات المتحدة، وهذا ما يتأكد من خلال الاجتماع الذي عُقد بين هيل والوفد الممثل لعون والمؤلف من مستشاره سليم جريصاتي، والنائبين آلان عون، وإلياس بوصعب».
يُشير الربيع إلى أن «رئيس الجمهورية أراد أن يربط هذا الملف بالمستقبل السياسي للوزير السابق جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر وصهر عون) وبإعادة تعويم العهد سياسياً». ويُكمل الربيع: «لغاية اليوم لم يحصل رئيس الجمهورية على أي ثمن سياسي إنما أقدم على طي صفحة المرسوم في هذه المرحلة كنوع من إبداء حسن النية». ويلفت الربيع إلى أن «الموفد الأميركي لم يملك جوابا حول إمكانية فرض عقوبات جديدة على باسيل».
ويُؤكد الربيع أن «عون نسق موقفه مع حزب الله، كما أن الأخير لا يريد أي توتر في لبنان، فهو سيستفيد في كلتا الحالتين، ففي حال توقيع المرسوم سيكون لديه ذريعة للتمسك بسلاحه، وإذا لم يُوقع المرسوم فسيستفيد بأنه سيكون قريبا من المفاوضات».
ماذا يقول الدستور؟
يرى الخبير الدستوري الدكتور أنطوان سعد في حديث خاص لـ«المجلة»أن «المبدأ الذي يُمكن أن يتذرع به عون هو أن القرار الذي صدر بمجلس الوزراء يجب أن يُعدل بمجلس الوزراء، في حين أن بعض الأفكار أشارت إلى أن المادة 3 من المرسوم تُشير إلى أنه يمكن تعديله من قبل الوزراء المختصين». وأضاف سعد: «كان يتوجب على الرئيس توقيع المرسوم لأنه في حال انعقاد الحكومة فإن الرئيس سيضع أمامها عدة شروط، وبالتالي فالأفضل أن يوقعه على قاعدة الضرورات تُبيح المحظورات».
وتابع: «نحن في حالة استثنائية جداً والحكومة في مرحلة تصريف أعمال، كما أن هناك سوابق على صدور مراسيم بتوقيع الوزراء المختصين ورئيسي الحكومة والجمهورية من دون مجلس الوزراء، على سبيل المثال لا الحصر، عندما يدعو وزير الداخلية الهيئات الناخبة إلى انتخابات فرعية، في بعض الأحيان تتم الدعوة بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء وفي أحيان أخرى يتم من قبل الوزير المختص، وفي الحالة الراهنة ليس هناك من مُعترض، وبالتالي في حال حصل توقيع من هذا النوع لن يطعن أحد لدى المجلس الدستوري، كما أن أهميته أنه يحفظ المساحات المضافة اللبنانية».
ولكن هل يمكن لحكومة تصريف الأعمال الاجتماع من أجل إصدار هذا المرسوم؟ يُجيب سعد أن «القاعدة العامة هي أن الحكومة لا يمكن أن تنعقد في حالة تصريف الأعمال من أجل توقيع أي أشغال من شأنها أن تُرتب مسؤولية أمام البرلمان، ومجلس شورى الدولة عرّف هذا الأمر بأنه (أعمال تصرفية). ولكن سبق أن انعقدت الحكومة عندما كانت هناك حاجات ملحة واتخذت تدابير معينة، وبالتالي فإن هذا الأمر مُباح لأن هناك حاجة كبيرة لانعقادها».
ويُشير سعد إلى أن «عون يضغط من خلال هذا الموقف على الرئيس حسان دياب من أجل عقد جلسة للحكومة إلا أنه يُواجه بغضب شعبي باعتبار أنه يُفرط في الحدود البحرية».
المرسوم يُصحح خطأ تقنياً
ومن ناحيتها، تؤكد الخبيرة في شؤون النفط والغاز لوري هايتيان في حديث لـ«المجلة»أن «عدم توقيع عون شكل مفاجأة بغض النظر عن الشكليات وعن رأي هيئة التشريع والاستشارات غير المُلزمة، فهذا الملف ستكون له نتائج إيجابية على الاقتصاد». وأضافت: «بما أن ترسيم الحدود يهدف للاستفادة من الموارد الطبيعية، وبما أنه أساساً كان هناك خطأ في ترسيم الحدود البحرية، فكان أجدى بعون توقيع المرسوم من أجل تصحيح الخطأ ونظراً للمصلحة الوطنية العليا».
ولفتت هايتيان إلى أنه «لو تم توقيع المرسوم فسيرسل للأمم المتحدة لإعادة تعيين الحدود البحري بالنقطة 29 بدلاً من النقطة 23، إلا أن عدم التوقيع يعني أننا ما زلنا ننطلق من النقطة 23 وهي النقطة الرسمية التي سنفاوض عليها، مع العلم أن هذه النقطة ناجمة عن خطأ تقني». وأكملت: «في حال دخولنا بمفاوضات فإننا سننطلق من هذه النقطة، كما أننا لو اعتمدنا النقطة 29، فحينها لن تحصل إسرائيل على (خط هوف) الذي تفضله».
وعن الأسباب الحقيقية وراء عدم توقيع عون، ترى هايتيان أن «عون كان يعتبر أن الضغط الشعبي لم يكن سيؤدي إلى دفع وزير الأشغال نحو التوقيع على المرسوم، وبالتالي عندما قام بالتوقيع قام باتخاذ قرار بعدم التوقيع والمطالبة بعقد اجتماع للحكومة، وكذلك يمكن أن تكون ورقة مفاوضة مع الولايات المتحدة للحصول على مطالب وطنية أو مطالب شخصية، والأيام كفيلة لإظهار ذلك».
الحدود البحرية مع سوريا شمال لبنان
قبل أيام خرج ملف ترسيم الحدود البحرية شمال لبنان مع سوريا إلى العلن مع تلزيم الحكومة السورية شركة روسية لتنقيب النفط في البلوك رقم 1، حيث المياه المتداخلة مع لبنان. فالحدود الشمالية تمتد على خطّ مباشر من منتصف النهر الكبير، باتجاه الأراضي السورية، بينما لبنان يعترض على هذا الواقع، ويطالب بانطلاق الترسيم من نقطة أبعد تجاه سوريا. فالمنطقة التي يقع فيها البلوك رقم 2، وبالنظر إلى الخريطة، يمكن مشاهدة منحدر في صلب هذا البلوك. من هذا المنحدر يريد النظام السوري أن تنطلق عملية الترسيم، بينما الخرائط الدولية عمل لبنان على تصحيحها. وهذه من شأنها أن تغير كثيراً وفق القوانين الدولية. وبراً، عمل النظام السوري على رفع السواتر الترابية على الحدود، إلا أنه مع ارتفاع منسوب النهر في الشتاء، تنجرف التربة باتجاه الأراضي اللبنانية، ما يغيّر واقع الحدود البرية، التي ستنعكس حكماً على الترسيم البحري.
وفي العام 2011 حين وقع لبنان مرسوم المنطقة الاقتصادية الخالصة لم يلتفت إلى مسألة التعاون مع سوريا أو التنسيق بشأنها مما دفعها إلى التحفظ على البلوك رقم واحد. ووجهت بتاريخ 17/7/2014 رسالة إلى الأمم المتحدة تعترض فيها على ترسيم لبنان لحدوده الشمالية معها، واعتبرت أن المرسوم الذي تم إيداعه الأمم المتحدة والمتعلق بتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، ليس له أي أثر قانوني ملزم تجاه الدول الأخرى ويبقى مجرد إخطار تعترض عليه سوريا. ويتبين للجانب اللبناني من خلال تعيين حدود بلوكات النفط السورية في المياه البحرية أنهم اتبعوا خطاً مستقيماً لهذه الحدود على مستوى مصب النهر الكبير الجنوبي نحو الغرب على اتجاه 270 درجة. وبالتالي خسارة لبنان في حال اتباعها حوالي 962 كيلومتر مربع من مياهه البحرية الشمالية.
ولكن ماذا على لبنان أن يفعل قبل أن تبدأ الشركة عمليات التنقيب عن النفط في البلوك رقم واحد؟
ثلاث خطوات على لبنان اتخاذها
ترى خبيرة النفط والغاز لوري هايتيان أن «هناك عدّة خطوات يجب على الدولة اللبنانية أن تتخذها في أسرع وقت، أولها مطالبة الحكومة السورية ببدء التفاوض على ترسيم الحدود، وكمرحلة أولية يجب مراسلة الحكومة السورية وإخطارها بأن هناك تطورا في البلوك رقم 1، وهناك مناطق متداخلة يجب التفاوض عليها قبل بدء عمليات التنقيب.
ثانيا مراسلة الشركة الروسية التي تمّ تلزيمها من قبل الحكومة السورية في هذه المنطقة، لكي لا تبدأ عملية المسح أو الحفر في المناطق المتداخلة، خصوصا إذا بدأت الشركة بالتنقيب، وهي مخولة بإجراء مسوحات ثلاثية ورباعية الأبعاد، وبإمكانها إن وجدت أي إحداثيات أن تبدأ بالحفر، وإن لم تكن مبلغة رسمياً من الحكومة اللبنانية بأن هذه المنطقة التي تقوم بمسحها هي منطقة متداخلة مع لبنان عندها بإمكانها استكمال عملها والقول بأنّها تعمل حسب العقد الموقع مع الحكومة السورية.
ثالثا وهي خطوة مهمة مراسلة الأمم المتحدة ووضعها في الصورة حول كافة التطورات، واعتراض لبنان على تلزيم شركة من قبل سوريا، قبل ترسيم الحدود مع لبنان على المنطقة المتداخلة».
وتؤكد هاتنيان أنّ «المشكلة الحقيقية اليوم هي في أن تبدأ الشركة الروسية عملها، ولبنان لم يتخذ بعد أي إجراء من هذه الإجراءات، عندها يمكن أن يخسر لبنان من نفطه إن وجد في المنطقة المتداخلة».
وتابعت: «أما بالنسبة للرغبة التي أبداها وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبة خلال استقباله السفير السوري علي عبد الكريم بأن الجانب اللبناني يرغب بلقاءات مع الجانب السوري للتفاوض حول ترسيم الحدود البحرية، فهي خطوة جيدة ولكن علينا انتظار رد الجانب السوري. وأيضا علينا أن لا نوسّع البيكار، إذا أردنا أن نحافظ على حدودنا البحرية لا يمكننا ربط مسألة ترسيم الحدود مع ملف النازحين مثلا كما حدث في الاجتماع الذي صدرت عنه الرغبة في البحث حول الملفات العالقة، وحلّ المشكلات بين البلدين. علينا أن نفصل ملف الحدود البحرية عن باقي الملفات، لكي نستطيع الوصول إلى حل، خصوصا إن حصل أي خلاف حول أي ملف آخر، أو أن تكون هناك محاولة مقايضة مع ملف النازحين، وبذلك يكون ملف الحدود البحرية ضحية هذا الخلاف، وبالتالي نخسر فرصة الترسيم، لذلك إن كان الرد السوري إيجابيا فيجب أن نفصل ملف الترسيم عن أي مشكلة أخرى مع سوريا وحصر التفاوض تقنيا بملف ترسيم الحدود البحرية».
الدور الروسي
تحاول روسيا لعب دور متقدم في لبنان، وهي تنشط في عدّة ملفات أساسية، من خلال مشاركة شركاتها في عملية التنقيب في لبنان، وتأهيل مصافي النفط، إضافة إلى إطلاقها مبادرة في ملف اللاجئين السوريين، وأيضا دورها في ثني الفرقاء على تشكيل الحكومة.
وموسكو أيضا بإمكانها أن تلعب دورا متقدما أمنيا وسياسيا بين حزب الله وإسرائيل سواء في سوريا أو في لبنان.
ولكن في ملف ترسيم الحدود البحرية تلقى لبنان رسائل روسيا حول استعدادها لبدء العمل على ترسيم الحدود البحرية شمالا، أبرزها رسالة روسيا في العام 2018 وتحديداً في أبريل (نيسان)، والتي جاءت بعد مساعٍ أميركية للدخول في مفاوضات ترسيم الحدود الجنوبية. بعد الحركة الأميركية آنذاك، كشف وزير الدفاع في حينها إلياس بوصعب أن لبنان تلقى رسالة سورية تؤكد استعداد دمشق للدخول في مفاوضات وعقد اتفاق لترسيم الحدود.
وفي محطة ثانية، ومع انطلاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، وتحديداً مع موعد انعقاد الجلسة الثانية من المفاوضات في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وصل وفد روسي إلى بيروت برئاسة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وكانت الزيارة من ضمن جولة يقوم بها لافروف عارضاً وساطة روسية لترسيم الحدود البحرية بين الدول المتشاطئة شرق البحر المتوسط. موسكو تهتم إلى حد بعيد في أن يكون لها دور وتأثير في عملية ترسيم الحدود، خصوصاً شمالاً، نظراً لموقعها على الساحل السوري، وامتداده نحو لبنان، بالإضافة إلى مشروع إعادة تأهيل مصافي النفط في طرابلس.
إذن دخل لبنان مرحلة جديدة من متاهات الحسابات السياسية، وتفسير الدستور، وآلية إقرار المراسيم، خصوصاً ذات الأهمية الاستراتيجية وغير الإجرائية، من دون أن يلتفت المعنيون للمصلحة الوطنية. خصوصا في الملفات التي تتسم بأهمية وطنية كبرى، وتتعلق بسيادة لبنان على بحره وأرضه وحقوق مواطنيه.