هناك في هذا البلد اليوم أكثر من انهيار اقتصادي. هو انهيار النموذج الذي اتبعه اللبنانيون منذ عقود سبق إنشاء الدولة اللبنانية، وقام أساسا على مبدأ التراضي بين مكوناته الطائفية من خارج المنطق القانوني وغالبا بضغط خارجي تغير مع الوقت تبعاً لتغير موازين القوى الإقليمية. هكذا عرف اللبنانيون عهد القائمقاميتين والمصرفية والانتداب والاستقلال واتفاق الطائف... إلخ.
انهيار النموذج اللبناني بدأ رسمياً مع بدء الحرب الأهلية واستمر بعد انتهائها، خاصة مع رفض وفشل اللبنانيين مناقشتها والاعتبار من اندلاعها وتحديد المسؤوليات المترتبة عليها ومعالجة الأسباب التي أدت إلى انفجاره وصولا إلى مصالحتهم مع تاريخهم تمهيداً لتأسيس مستقبل أفضل.
فضل اللبنانيون أن يلوموا الآخرين على تلك الحروب التي وقعت على أرضهم واكتفوا بالتعديل على دستورهم في مدينة الطائف وأكملوا مشوارهم على هدى نفس النموذج الفاشل حتى وصلنا إلى تلك اللحظة التي نحن فيها.
انهيار العملة، أزمة سياسية تعطل استمرارية عمل المؤسسات، وجيش خارج إطار الدولة وأقوى من سلاح جيش الدولة، ومؤسسات اجتماعية موازية لمؤسسات الدولة، وأزمة معيشية اقتصادية حادة تدفع الشباب إلى الهجرة، فحسب صحافي لبناني استقى معلوماته من سفارة فرنسا، هناك أكثر من 130 ألف طلب هجرة لدى سفارة غربية.
المشكلة اليوم هي أن الطبقة السياسية وجمهورها الكبير والعريض يريد استنباط الحلول والاستمرار بنفس النهج الذي يقوم أساسا على التراضي بين نادي ممثلي المكونات الطائفية والذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من انهيارات مجتمعة. في هذا الأمر مصيبتان. الأولى الاستمرار بنموذج فاشل في العمل السياسي ثم تجاهل المتغيرات الديموغرافية التي حصلت مع بدء الحرب الأهلية وصولا إلى يومنا هذا.
وفي موضوع التغير الديموغرافي فقد طال أساسا طائفتين، المارونية التي تتلاشى قدراتها يوما بعد يوم والتي لم يعد لها وزن في المضمار السياسي- مقارنة مع حقبة الاستقلال وحتى عشية اندلاع الحرب الأهلية- لأسباب كثيرة شرحها بحاجة إلى دراسة معمقة، والشيعية التي برزت بشكل كبير وفاعل على الساحة الداخلية ولكن أيضا على الساحة الإقليمية كجزء من مشروع يبدأ في إيران وينتشر في أكثر من عاصمة عربية. بروز الطائفة الشيعية على الساحة اللبنانية رافقه أيضا نجاح في الأعمال لرجالاتها المنتشرين في أفريقيا وأميركا اللاتينية والذي ترجم استثمارا في الداخل اللبناني في أكثر من مجال. مثالا قاسم تاج الدين وقاسم حجيج وغيرهم من كبار رجال الأعمال الشيعة الذين وظفوا جزءا من نجاحاتهم في بلدهم. انعكس هذا النجاح على الداخل وعلى موازين القوى الطائفية. فأصبح حزب الله صاحب كلمة الفصل في لبنان.
تلاشي الطائفة المارونية في لبنان قد يكون أكثر من عبر عنه هو عون نفسه، الهرم المتعب الضعيف، والذي ظهر على اللبنانيين مؤخرا ليقول لهم: «أنا ميشال عون…الجنرال». لم ير الرجل أي حرج في استدرار الماضي الأليم لتوظيفه حاضرا على اعتبار أنه نقطة قوة؛ «فالجنرال» يعني لكثير من اللبنانيين وللتاريخ طبعا وبكل موضوعية حقبة اقتتال وحرب ودمار، والأهم ما أعقبه من فقدان لبنان لاستقلاله منذ ذلك الحين. ولكن للجنرال جمهورا كبيرا شعر مع تلك الكلمات بحنين إلى الماضي. وهنا كل المصيبة. نفس الأمر انطلى على ذكرى الحرب الأهلية في 13 أبريل (نيسان) الذي يحتفل حزب الكتائب بذكراها أيضا للتذكير بـ«بطولات» ماضية أليمة وفاشلة كانوا هم في قلبها. للأسف لا يعيش الموارنة فقط في الماضي ولكنهم يحتفلون به رغم إخفاقاته وآلامه. حتى الحلول التي يقترحونها لا تحيد عن روحية النموذج الفاشل الذين في جزء هم عرابوه.
في لبنان إذن انهيار لوهم النموذج الذي كان قائما على مبدأ التوازنات الطائفية. فها هي غير ذي جدوى مع اضمحلال الموارنة عددا. ماذا يبقى إذن من النموذج؟ استعطاف داخلي وإقليمي ودور شكلي؟ هو تحديدا ما كان للشيعة قبيل الحرب الأهلية وتعاظم نفوذ إيران. انقلبت الأدوار. فماذا بعد؟
هل تتغير الأحوال في لبنان يوماً ما؟ ماذا لو سقط النظام في إيران؟ هل تتلاشى قوة حزب الله؟ كل هذا ممكن، ولكن إن لم يتم تغيير شروط العقد الاجتماعي الذي يجتمع حوله اللبنانيون ولم ينتقدوا أساساً فلسفة نظامهم الطائفي أو بالحد الأدنى لم يسعوا لتأطيره ضمن قوانين ثابتة، فلبنان لن يكون يوماً دولة طبيعية تطبق فيها علوم سياسية واجتماعية واقتصادية من خارج إطار الخرافة التي تجمعنا والتي لا تستطيع أن تستمر إلا بمساندة الخارج. لتبقى تلك البقعة أسيرة نزاعات تتجدد كل عقد من الزمن على وقع التغيرات الإقليمية.