لم تمضِ أشهر قليلة على انتخاب بايدن حتى سارعت إدارته بالانكباب على الملف الإيراني بقيادة روبرت مالي المحب لنظام الملالي، حتى يكاد يكون بأهمية الملفات الاقتصادية أو ملف الصين أو ملف كورونا الملحين والضاغطين على أميركا ومستقبلها. لا سبب طبعا يدعو إلى تلك السرعة من جانب الولايات المتحدة الأميركية في إعادة إحياء الاتفاق النووي، سوى إعادة وضع استراتيجية أوباما على سكة التنفيذ والانتقام من سياسات ترامب، خصوصا في هذا الملف. ما هي تلك الخطة التي يسعى مالي إلى إعادة إنعاشها؟ ببساطة إعطاء إيران دوراً مهماً في الشرق الأوسط وتعويم نظام الملالي وهذا لا يتم إلا من خلال إعادة العمل بالاتفاق النووي الإيراني ورفع العقوبات الخانقة على اقتصاد طهران وطبعا إسكات وإضعاف وتهديد الحلفاء من خليجيين وإسرائيليين. لذلك تسعى تلك الإدارة إلى إفشال اتفاقات إبراهام أو تفريغها من مضمونها، لأنها تذهب بعكس استراتيجية أوباما وفريقه الحاكم.
أما السؤال عن سبب تبني أوباما تلك الاستراتيجية، فالجواب يعود أساسا إلى خطأ كبير ارتكبه الرئيس بوش في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) والتي ارتكزت على مفهوم مبهم هو «محاربة الإرهاب». طبعا محاربة الإرهاب عنت محاربة الأنظمة العربية التي حملها بوش مسؤولية الاعتداء. وهكذا في أول أيام اجتياح العراق، نسّق الأميركي والإيراني سويا من أجل إسقاط صدام حسين. أوباما استغل تلك النقطة وبنى عليها، فانطلق من حيث توقف الرئيس بوش أي تحميل تلك الانظمة العربية الحليفة مسؤولية هجمات 11 سبتمبر عبر نشر التعصب الأعمى فحمل أميركا جزءا من المسؤولية بسبب تحالفاتها وسياساتها في الشرق الاوسط، ليطرح ويفعّل موضوع التقارب مع إيران، ومن ثم ليوقع اتفاقا نوويا لا يؤمّن مبتغاه؛ أي منع إيران من امتلاك سلاح نووي... يذكر أحد المشاركين في اجتماع كامب ديفيد الذي دعا إليه أوباما القادة العرب عام 2015- والذي امتنع الملك سلمان عن حضوره- سؤاله الحاضرين: لماذا لا تملكون تنظيما شبيها بالحرس الثوري الإيراني.
كثفت إيران مع انتخاب بايدن من هجماتها على القوات والمصالح الأميركية في العراق، وعلى المملكة العربية السعودية، وعلى سفينة إسرائيلية، لأنها كانت على علم بأن بايدن لن يقدم على أي ردة فعل ذات أهمية قد تهدد استراتيجيته في الانفتاح على نظام الملالي بل إن هذه الأعمال الإرهابية ستدعم توجهه بحجة نزع فتيل التوتر في المنطقة. بالتزامن مع الهجمات المدعومة إيرانيا على أهداف محددة في المنطقة بدأت إيران في رفع سقف مطالبها غير آبهة بإحراج حلفائها في البيت الأبيض بقيادة روبرت مالي، ما دفعه إلى مواقف باهته ومضحكة في آن لا تعكس قطعا ميزان القوى بين البلدين. بالنسبة لإيران هذا الابتزاز ممكن طالما أن نية المفاوض الأميركي أصبحت معروفة. الخضوع.
استراتيجية الولايات المتحدة إذن تقوم على إعادة تعويم نظام الملالي، ولهذا يجب إضعاف الحلفاء. وهكذا صار، إذ شرعت إدارة بايدن بنشر تفاصيل تقرير استخباراتي عن عملية قتل الصحافي السعودي لإحراج ولي العهد محمد بن سلمان، وهكذا أيضا لم يبادر بايدن بالاتصال برئيس وزراء إسرائيل إلا متأخرا للتدليل على الشعور العدائي من قبل الرئيس الأميركي تجاه نتيناهو، خاصة وأن الاختلاف سيكبر حول الملف الإيراني.
وبعد كل هذا الهرج من قبل المسؤولين الإيرانيين والمرج من قبل روبرت مالي، ها هم الطرفان الأميركي والإيراني يجتمعان في فيينا. ولكن كل فريق- تقول التقارير الصحافية- في فندق لا يتواصلان بشكل مباشر، بل من خلال الوسيط الأوروبي.
نحن طبعا أمام مهزلة تذكرنا بفشل أغلب الأفلام التي تنتج ثنائية أو ثلاثية إذا ما استثنينا فيلم «العراب فرنسيس فورد كوبولا». ولكن هذا بحث في مكان آخر.
ويظن المتابع لاجتماعات فيينا بين أميركا وإيران أنه أمام سيناريو أزمة صواريخ كوبا، حيث تواجه خوروشوف وكينيدي، وحبس العالم أنفاسه خوفا من اندلاع حرب نووية تطيح بالجميع. طبعا المقارنة لا تجوز فاغتيال الرجل الأول في إيران قاسم سليماني مر مرور الكرام ولم يقم نظام الملالي بأي ردة فعل أو انتقام غير التهديد الفارغ.
ليس المطلوب من البيت الأبيض خوض حرب مع إيران أبدا، كما ليس المطلوب منها الدفاع عن حقوق الإنسان فيها مع العلم أنها بدأت تشير بشكل واضح إلى ضرورة تبني حلفائها كي يبقوا حلفاء شرعة حقوق الإنسان من دون أن ينطبق هذا الأمر على نظام الملالي، إنما المطلوب الوقوف بحزم تجاه السياسة التوسعية التي تسعى إليها إيران من خلال نشر ميليشياتها في المنطقة والسعي إلى تغيير ديموغرافي خطير لن يقف الطرف الآخر متفرجا عليه بالطبع. ثم المطلوب الاستمرار بفرض عقوبات عليها لتلك الأسباب وأيضا بسبب مشروعها النووي معطوفا على مشروع الصواريخ الباليستية.
هذا لن يحصل بوجود بايدن في البيت الأبيض، وستبقى فيينا مرتعا لليالي الأنس بين أميركا ونظام الملالي.
الحل الوحيد المتبقي هو ثورة في إيران.