بيروت: في جميع دول العالم، ثمة مقولة رائجة بأن «الصحافة مهنة المتاعب»، أما في العراق، فيبدو أن الوضع أسوأ من ذلك بكثير. فقد بات الصحافيون العراقيون كمن يلقي بنفسه في مواجهة المتاعب والمصاعب والتهديدات المتواصلة بالقتل لمجرد قيامه بأداء رسالته بتجرد واستقلالية. فمن حين لآخر، تتصدر أسماء صحافيين وناشطين اغتيلوا على أيدي الميليشيات المسلحة ليتزايد العدد الإجمالي لهؤلاء يوماً بعد آخر.
رسالة التهديد قد تصل للصحافي بأي طريق وأسلوب، ولعل أبرزها هي الرسائل النصية التي تصل إلى هواتفهم أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهي كافية لإعلام الصحافي بالخطر الذي بات يهدد حياته، فيكون حينها أمام خيارين، إما المواجهة مع ما تحمله من مخاطر فيلجأ لاتخاذ بعض التدابير من تغيير المسكن إلى محافظة أخرى أو بالانتقال إلى أربيل أو خارج البلاد، وإما الانكفاء والتراجع.
غياب الدولة
يرى الصحافي أحمد السهيل في حديث خاص لـ«المجلة»أن «قضية استهداف الصحافيين والناشطين في العراق ليست جديدة بل تعود لسنوات بعيدة، فمنذ عام 2003 هناك شهداء صحافيون، ولكنها بدأت تتزايد بعد احتجاجات فبراير (شباط) 2011، وزادت أكثر بعد زيادة نفوذ الميليشيات الإيرانية على حساب الدولة، وتكوينها شكلا شبه موازٍ للقوى الأمنية مما جعل من الصعب محاسبتها من قبل الأجهزة الرسمية، وهذا ما عقد المسألة أمام الصحافيين والناشطين المناهضين لهذه المليشيات».
وأضاف السهيل أن «هذه الممارسات قد تضخمت عشرات المرات مع وصول عادل عبد المهدي إلى رئاسة الحكومة، حيث شهدت هذه الفصائل قمة نفوذها في هذه الفترة. وهذه الاستهدافات بدأت تصل إلى حدود غير مسبوقة بعد انتفاضة أكتوبر (تشؤيت الأول) 2019». وتابع: «منذ الأيام الأولى تخللت عمليات القمع بجزء منها عمليات اختطاف لكتاب وصحافيين وناشطين بارزين، كما بُثت شائعات وأخبار ومعلومات عن وضع المليشيات لمؤسسات إعلامية وصحافيين على قوائم الاغتيال، فضلاً عن الهجوم على بعض القنوات المحلية والإقليمية».
ويرى السهيل أن كل ذلك «شكل خطوة جديدة من قبل الميليشيات تجاه قمع الإعلام، حيث شملت القتل والاختطاف، وهناك الكثير من الصحافيين الذين غادروا بغداد في تلك الفترة». ويلفت السهيل إلى أن الحدث غير المسبوق الذي هزّ المجتمع العراقي هو «مقتل الباحث هشام الهاشمي، فقد كان الصحافيون يعتقدون أن حكومة الرئيس مصطفى الكاظمي ستكون حاسمة في التصدي لنشاط الميليشيات وسريعة الرد على هذا الاستهداف، إلا أن عمليات القتل بحق الصحافيين والناشطين تواصلت لتطال الناشطة ريهام يعقوب في البصرة والناشط تيسير الشحماني الذي اغتيل في أغسطس (آب) 2020».
ويُكمل السهيل: «حينها، بدأت حملة كبيرة من اغتيال واختطاف وترهيب لصحافيين، وصلت حد قتل والد ناشط مختطف منذ فبراير». وأشار السهيل إلى أن «الميليشيات تعيش وضعا سيئا من ناحية فقدان قواعدها الاجتماعية، إذ إنها لا تحظى بتأييد هذه القواعد وباتت تتخوف من دخول منافسين جدد على خط الانتخابات المقبلة ممثلين بالشبان والناشطين».
ويؤكد السهيل أن «حالة الانفلات وعدم قدرة الدولة على بسط سيطرتها أدت إلى أن لا يشعر الصحافي في العراق بأنه آمن، فضلاً عن التحريض الكبير الذي يُمارس عليه». وعن مدى القدرة على محاسبة المتهمين، يلفت السهيل إلى أنه «بشكل عام لا تتم محاسبة هؤلاء المتهمين من قبل القضاء إلا في مرات نادرة. في حين أن الصحافيين والناشطين يطالبون الحكومة ليس بإلقاء القبض على المنفذين فقط وإنما الإشارة الصريحة للجهات التي دعمتهم وحرضتهم ودفعتهم لتنفيذ هذه الاغتيالات، وهنا يظهر عجز السطات عن تحقيق ذلك».
ويختم السهيل بأن «الصحافيين والناشطين مستمرون بشكل كبير بالضغط والحديث ومهاجمة الميليشيات ولكن لا نستطيع القول إن الاغتيالات لم تؤثر عليهم، إذ إنها دفعت الكثير منهم إلى ترك أماكن سكنهم، والانتقال إلى إقليم كردستان أو إلى خارج العراق».
الكلمة الحرة في العراق.. صعبة
وفي سياق متصل، يؤكد رئيس النقابة الوطنية للصحافيين في العراق، ياسر السالم، في حديث خاص لـ«المجلة»أن «الوضع في العراق بالنسبة للصحافيين والناشطين في منتهى الخطورة، وأستطيع أن أقول إن الصحافيين يُعانون من الوضع الأصعب مقارنة بالصحافيين في عموم المنطقة، وهذا يستند إلى أرضية ووقائع». وأضاف: «الواقع العراقي معقد، حيث يوجد سلاح متفلت ومؤسسات دولة خاضعة تماماً لإرادة الأحزاب السياسية النافذة في السلطة، وبالتالي كل هذه تحديات تواجه الصحافيين».
عجز في مواجهة التهديدات
ولفت السالم إلى أن «الكلمة الحرة تُنطق بصعوبة في العراق، كما أن مساحة الحرية الإعلامية محدودة جداً بسبب خوف الصحافيين من أن تكون هذه التغطية أو تلك سبباً لتعريض حياتهم أو حياة أسرهم إلى الخطر». وتابع: «هذه بيئة لا تصلح للعمل الحر، كما نواجه مشكلة تتمثل في أن الصحافة الاستقصائية تكاد تكون شبه معدومة، إلا لمن استقر في مناطق آمنة خارج العراق، وهؤلاء يُمارسون الكتابة بحرية ومعظمهم لصالح وسائل إعلام إقليمية ودولية».
وحول الموقف الرسمي حيال هذه الممارسات، يرى السالم أنه «خجول ومهادن لإرداة الأحزاب السياسية التي تُمارس القمع، ويمكن القول إن التهديدات التي يتعرض لها الصحافيون من الأحزاب السياسية أكثر من تلك التي تعرضوا لها من قبل الجماعات الإرهابية، وهذه مفارقة موجعة». وتابع: «لغاية اليوم هناك عجز في مواجهة هذه التهديدات حتى بالنسبة للمؤسسات المدافعة عن حقوق الصحافيين ومنظمات المجتمع المدني. لذا تقتصر الإجراءات التي نتخذها على توفير أماكن آمنة للصحافيين من أجل ضمان سلامتهم».
ويلفت السالم إلى أنه «كلما حصل حدث كبير في العراق، تجد الصحافيين يغادرون منازلهم بسبب التهديدات التي يتلقونها استناداً للتغطيات التي يقومون بها، وآخرها الاحتجاجات الأخيرة، حيث يمكن القول إن 70 في المائة من الصحافيين لم يكونوا في مناطقهم ومنازلهم وإنما بحثوا عن أماكن بديلة وتنقلوا في أكثر من مدينة ليحافظوا على سلامتهم». وأكمل: «هنا نتحدث عن جزء من الصحافيين، وهم المستقلون والمعارضون للسلطة، إضافة إلى المؤسسات الإعلامية، إذ نادراً ما تجد مؤسسة مستقلة لها مكتب في بغداد بشكل واضح، حيث تلجأ إلى أربيل أو دول الجوار».
ويلفت السالم إلى أن «التهديدات تهدف لإسكات الصحافيين، إما عن موضوع محدد يبحث عن حيثياته ومعلومات حوله، وإما إسكاتهم على الدوام لأنهم أصبحوا مزعجين للسلطة». ويختم: «كل حزب مشترك في السلطة له نصيب من القمع».
التهديد بالاغتيال.. وغياب الدعم للصحافيين
وفي سياق متصل، تلقى الصحافي زيد الفتلاوي تهديدا بالتصفية الجسدية من قبل ميليشيات مسلّحة نافذة، بعد اتهام المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها بالتعرض للمقدسات الدينية، على الرغم من أن الفتلاوي يعمل بالقناة الإخبارية، في حين أن الميليشيات كانت تتهم القناة الفنية، ولو أن القناتين تتبعان للمؤسسة الإعلامية نفسها. وقال الفتلاوي لـ«المجلة»:«أرسلوا ثلاثة مسلحين يحملون مسدسات إلى مكتبي، وبدأوا يسألون عني ويجمعون معلومات دقيقة عن تحركاتي ومكان بيتي بهدف مراقبتي والوصول لاغتيالي، وتركوا تهديدا بالقتل».
هذا الحادث دفع الفتلاوي إلى مغادرة منزله ومحافظته، حيث توجه إلى إقليم كردستان خوفا على حياته وأسرته من عملية قتل. وأشار الفتلاوي إلى أنه في مرحلة معينة طلبوا منهم كصحافيين عدم تغطية الاحتجاجات والمظاهرات على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنهم قاموا بتهديد القنوات الإعلامية لمنع التغطية عبر شاشاتها.
ويلفت الفتلاوي إلى أنه لم يحظ بالدعم الكافي من قبل المنظمات التي تهتم بشؤون الصحافيين داخل وخارج العراق، حيث غاب الموقف الحازم من هذه التهديدات واقتصرت ردود الفعل على إصدار البيانات.
إذن يبدو أن الصحافيين العراقيين، الذين يواجهون التهديدات بالقتل والاغتيال، في وضع لا يُحسدون عليه، ويأتي ذلك في ظل غياب الجهات الرسمية التي يتوجب عليها حمايتهم وتمكينهم من أداء مهامهم وإيصال رسالتهم الإعلامية بإستقلالية تامة. وما يزيد من خطورة الأمر، هو غياب أو عدم قدرة المؤسسات والمنظمات المستقلة على تقديم الدعم الكافي لهؤلاء. لذا، فإن الصحافي العراقي وحده يدفع ثمن الكلمة الحرة.