بيروت: كانت الصناعة اللبنانية، ولا تزال، تعتمد بشكل كبير على المبادرات الفردية للقطاع الخاص اللبناني، وقد أثبت القطاع الخاص الصناعي في لبنان قدرة على التكيف مع التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية، بالإضافة إلى المستجدات الاقتصادية في الأسواق الإقليمية والدولية، وقد بدأ القطاع الخاص اللبناني يعي الحاجة إلى المبادرة بالاهتمام بمحيطه البيئي والتنموي.
ولعل أبرزالعقبات التي تواجه الصناعي هي ارتفاع كلفة الإنتاج واليد العاملة الوطنية،وغياب أي نوع من الحماية حيال إغراق الأسواق المحلية بالبضائع والمنتجات الصينية والتركية،وغياب خطة رسمية واضحة لدى الدولة، بالإضافة إلى عوائق تشريعية وقانونية،وضآلة حجم التمويل الصناعي من مجمل التسليفات بالمقارنة مع مساهمة أكبر في الناتج المحلي، وعدم تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل فيما يتعلق بالاتفاقات التجارية مع الدول، منها بلدان صديقة وضعت عوائق تقنية غير ضريبية على الاستيراد.
وتعزيز ثقة المستهلك اللبناني بالمنتجات المحلية، لا سيما الغذائية منها، ولكن تراجع القدرة الشرائية لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين، وجعل بعض المنتجات الأجنبية، بسبب تدني أسعارها ورغم تدني جودتها، منافسة حقيقية للبضاعة اللبنانية،والمنافسة غير مشروعة من مؤسسات غير مرخص لها، إن عدم ضبط عمليات التهريب عبر الحدود بالشكل المطلوب (دخول بضائع من دون ضرائب)، يضرب البنيان الأساسي للصناعة اللبنانية.
ما هو واقع الصناعة اللبنانية في ظل جائحة كورونا والإقفالات الارتجالية التي اتخذتها حكومة تصريف الأعمال وهل تأثرت الصادرات اللبنانية إلى الدول العربية والخليجية بعد ابتعاد لبنان عن الدول الصديقة والداعمة له.
«المجلة»التقت رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين الدكتور فادي الجميل وكان لها معه هذا الحوار...
* بقدر ما تضررت دول صناعية من جائحة كورونا هناك دول استفادت... أين الصناعة اللبنانية من هذا الواقع؟
- لا شك أن الأضرار التي خلفتها جائحة كورونا أكبر مما يمكن اعتباره إفادة، لكن يمكن القول إن الصناعة اللبنانية استطاعت وفي وقت قصير تأمين متطلبات الحماية من الوباء، فأنتجت المعقمات وأدوات التنظيف والكمامات والقفازات كما كان لبنان من أول الدول التي تمكنت من تصنيع أجهزة تنفس بوقت قياسي بمبادرة فردية لطالما ميزته. وقد كشفت هذه التجربة عن الطاقات والقدرات والمهارات اللبنانية وسرعة التأقلم مع الظروف مهما كانت قاسية، فنحن لم نعانِ من نقص في هذه المواد على عكس بعض البلدان. وبسبب الأزمة المالية والاقتصادية المترافقة التي مر بها لبنان خلال هذه الفترة تمكن القطاع الصناعي من تحريك الدورة الإنتاجية وتأمين دخل للاقتصاد ولعب دورا في تخفيف العبء الاجتماعي عن الدولة من حيث انتظام عمل المؤسسات وتأمين دخل لآلاف العائلات. وللغاية أطلقت جمعية الصناعيين اللبنانيين مؤخرا حملة للإعلان عن عدد من فرص العمل المطلوبة في القطاع الصناعي في مجالات متعددة من خلال منصة خاصة عبر موقعها على الإنترنت تشكّل همزة الوصل بين المصانع المنضوية تحت لوائها وطالبي العمل. ونحن نتطلع اليوم إلى مستقبل واعد للقطاع الصناعي فتراجع الاستيراد الناجم عن هذه الأزمة أدى إلى إنعاش الكثير من الصناعات مثل الصناعات الغذائية والكيماوية والطبية وشهدنا فتح مصانع جديدة وخلق خطوط إنتاج جديدة وهذه بحاجة حكما إلى توظيفات جديدة في مجالات صناعية مختلفة.
*ما هي المصانع اللبنانية التي تضررت من الإقفالات الارتجالية التي حصلت في عامي 2020 و2021 وهل هناك إحصاءات عن عدد المصانع التي أقفلت وصرفت عمالها؟
- كل القطاعات الصناعية تضررت من الإقفالات القسرية التي طالتها أو من تراجع ساعات العمل المسموح بها والتي خفضت من القدرة الإنتاجية لكن جمعية الصناعيين لطالما كانت على تواصل مع المعنيين وخصوصا لجنة كورونا وبدعم مطلق من وزير الصناعة عماد حب الله فتمكنا في أكثر من مناسبة من تحسين شروط الفتح ورفع إنتاجنا من خلال زيادة ساعات العمل إنما على مراحل، لكن للأسف فإن بعض الصناعات لم تكن من الأولويات المدرجة على لائحة المصانع المسموح لها بإعادة الفتح لأن الأولوية المطلقة كانت للصناعات الغذائية وبعض الصناعات الاستهلاكية وصناعة المعقمات والأدوية وأجهزة التنفس، وعلى سبيل المثال تضررت صناعة الألبسة والمفروشات أكثر من غيرها، لأن فترة الإغلاق كانت طويلة، كذلك عانت بعض المصانع التي لا تصدر إلى الخارج بل تؤمن الإنتاج للسوق المحلية، واستمرار إقفالها شكل تهديدا لمصانعها بالإقفال النهائي.
*أقدمت العديد من الدول على تقديم حوافز لدعم الاقتصاد والقطاعات التي تضررت من جائحة كورونا، ماذا فعلت الحكومة اللبنانية؟
- بالفعل قامت دول عديدة بدعم مباشر لكل المؤسسات التي تضررت من جائحة كورونا، وعلى سبيل المثال قدمت الحكومة الفرنسية قروضا من المصارف والمؤسسات المالية بضمانة منها لتقديمها إلى المؤسسات التي علقت أعمالها لمجابهة وباء كورونا، وكذلك اهتمت بدفع الرواتب إلى جميع الموظفين والعمال المتوقفين عن العمل، حتى لا تتحمل المؤسسات أي عبء لمواجهة هذا الوباء وشجعت القطاع الصناعي بشكل كبير وناشدهم الرئيس ماكرون لتلبية حاجات المواطنين من أقنعة ومعقمات ومواد غذائية، وبدورها أعلنت وزيرة العمل أن الحكومة مسؤولة عن الأمن الصحي ومسؤولة عن تأمين الأمن الاجتماعي والاقتصادي من كهرباء واتصالات وإنترنت، أما بريطانيا فقد وضعت حوافز مالية ضخمة للحد من الأضرار الناجمة عن كورونا، إذ كان الموظف والعامل يتقاضى 80 في المائة من راتبه، وهو في المنزل، وتم دعم الفنادق والمطاعم وجميع المؤسسات الصغيرة ودفعت الرسوم والإيجارات لمدة سنة عن المؤسسات التي أقفلت وطلبت من المصارف تقديم القروض للمؤسسات المتضررة على أن يتم سداد هذه القروض بعد عودة الحياة إلى طبيعتها، أما في لبنان فقد عانينا من أجل فتح المصانع، حيث أكدنا كصناعيين أن مجابهة كورونا تتطلب مقاربة طويلة الأمد ترتكز على تأمين استتباب الأمن العام ومقدرات الدولة والأمن الصحي والاجتماعي عن طريق تأمين مستلزمات الحياة للمواطنين ودخلهم وأن الصناعة قامت في هذه الفترة بتأمين آلاف فرص العمل للعائلات وكانت من القطاعات التي حافظت على موظفيها وعمالها، وبالتالي خففت من الأعباء المعيشية عن كاهل الحكومة التي انهمكت لتأمين المساعدات للعائلات المحتاجة، كما أن الصناعة أثبتت أيضاً أنها قادرة على تأمين الاحتياجات الضرورية للمواطنين حتى تؤمن الدخل الكافي للعاملين في القطاع.
* إلى أي حد تأثرت الصادرات الصناعية بابتعاد لبنان عن محيطه العربي؟
- إن القطاع الصناعي كان همزة الوصل مع جميع بلدان العالم، بحيث لم ينقطع القطاع عن تصدير المنتجات إلى كافة البلدان، وخصوصاً العربية، التي تشكل ركيزة أساسية للصادرات اللبنانية وهي نسبة مرتفعة جداً، وقد عمل الصناعيون لتأمين المنتجات وعدم المس بالسلع التي تصدر إلى الدول العربية ولا ننسى أننا في الفترة الأخيرة جوبهنا بغزو الكثير من المنتجات في الأسواق اللبنانية وهي منتجات مزورة ومصنوعة في بلدان أخرى، وكتب عليها أنها صناعة لبنانية أن الصناعي اللبناني طور عمله في الأسواق العربية وعمل المستحيل للمحافظة على وجوده في تلك الأسواق ولقد ناشدنا المسؤولين بمراعاة هذه الأوضاع ولا سيما في صلب الإجراءات التي اتخذت لمجابهة كورونا.
*ألم تتأثر الصناعة اللبنانية من الانهيار الذي حصل في القطاع المصرفي والذي أدى إلى احتجاز أموال المودعين؟
- كغيره من القطاعات، عانى القطاع الصناعي منذ الفصل الأخير من عام 2019 من مشاكل تتعلق بالسيولة نتيجة أزمة المصارف؛ ما سبب أزمة حادة في المصانع نظرا لصعوبة توفر المواد الأولية وقد سبق وحذرنا مرارا وتكرارا من هذا النقص، وكنا نقول أسابيع وتغلق مصانعنا إذا لم نتمكن من توفير المواد الأولية لاستدامة عمل مصانعنا إلا أن المعالجات تأخرت رغم الجهود المضنية التي قام بها وزير الصناعة عماد حب الله. كذلك عانينا صعوبة تأمين المواد الأولية المستوردة، لافتا إلى أنه بعد الإعلان عن الإفراج عن 100 مليون دولار التي وعدنا بهم، وافقت وزارة الصناعة على ملفات بقيمة 52 مليون دولار إلا أن المركزي وافق على إعطاء 16 مليون دولار فقط، علما أن هذه الأموال هي من أرصدة الصناعيين وليست دعما أو من احتياطي المركزي كما بقية السلع المدعومة. ورغم كل الصعوبات تمكنا من الاستمرار ما أعطى انطباعا بأن الأمور تسير بشكل طبيعي في المصانع، لكننا كنا نعمل بقدرات ضعيفة ومحدودة بأقل من قدرتنا الإنتاجية وصولا إلى الإقفالات المتتالية التي فرضتها جائحة كورونا مما زاد الطين بلة، ناهيك عن الصعوبات التي نعاني منها أصلا، لا سيما قطاع التغليف والورق الذي يجد صعوبة كبيرة اليوم في تأمين المواد الأولية التي هي عبارة عن المخلفات الورقية. فبعد الانكماش بالاستهلاك نتيجة إقفال المولات والمتاجر إلى جانب توقف العمل في معامل الفرز في الكرنتينا بعد تضرره بسبب انفجار مرفأ بيروت أدى خسرت المعامل كمية كبيرة من إمكاناتها، مما أدى إلى خفض الإنتاج وتوقفه عن العمل على مدى أيام.
*الكل كان يشيد بقطاع صناعة الدواء في لبنان ولكن هذا القطاع لم يتمكن من إثبات وجوده بعد انقطاع العديد من الأدوية المستوردة من الخارج، ما هي الأسباب؟
- إن صناعة الدواء في لبنان متقدمة عبر 11 مصنعاً ينتجون أكثر من 1500 دواء وبعض هذه الأدوية متطورة وتقارن بالأدوية الأوروبية والمطلوب توسيع سوقها الداخلية، فلبنان يستورد أدوية تقدر قيمتها بنحو 1.2 مليار دولار، في حين لا تتعدى مبيعات الأدوية اللبنانية 200 مليون دولار، وذلك عبر توجيه المؤسسات العامة لاستعمال الدواء اللبناني عوضاً عن الدواء المستورد.
* ما المطلوب في حال تشكيل حكومة جديدة لإعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني المنهار؟
- لقد برهن القطاع الصناعي خلال الفترة الماضية عن قدرته على التأقلم والإنتاج رغم كل الظروف الصعبة التي نمر بها وقدرته على زيادة الإنتاج المحلي وخلق خطوط إنتاج جديدة بنوعية تضاهي الأوروبية إذا أتيحت له الفرصة، لكن هذا لا يعني أن تحدياتنا انتهت ومشاكلنا حلت فنحن لا نزال نعاني من الإغراق الذي تزايَد من بعض الدول، لا سيما تلك التي تؤثر على إنتاجنا، مثل تركيا ومصر وسوريا والأردن، فصادرات هذه الدول تشكّل منافسا قويا لنا، كذلك نحن لا نزال نعاني من تداعيات التهريب الذي لم يقف. لذلك نحن نطالب بوضع ضوابط على الاستيراد ورسوما جمركية على سلع باستطاعة لبنان أن يصنعها وينتجها إن تأمنت له الظروف المواتية لذلك، مثل صناعة الألبسة والأحذية التي هي قطاعات واعدة.وأن الحل يأتي أولا باستعادة الثقة ووضع برنامج متكامل يهدف إلى تخفيض نسبة الدين إلى الناتج الوطني والعمل على زيادة حجم الناتج الوطني عبر تعزيز القطاعات الإنتاجية فلدينا في هذا الظرف بالذات دور محوري.
*هل لبنان قادر على إثبات وجوده في حال تقرر التوجه شرقا أي إلى الصين وكوريا وإيران؟
- لطالما تميز لبنان بطاقاته وقدرته على الابتكار، فالصناعات اللبنانية تصل إلى أقاصي الأرض وليست محصورة بدول معينة، لذا نحن نملك الطاقات والقدرات التي تمكننا من الولوج إلى مختلف الأسواق ونحن لسنا غائبين عن هذه الأسواق، ولكن ما نخشاه هو فقط المزيد من الإغراق واستيراد منتجات مدعومة في بلدانها مما يشكل ضرراً على قطاعات عدة ويهدد فرص العمل.